مع قرار المحكمة العليا الليبية إبطال الطعون القانونية الصادرة من محاكم أدنى منها ضد مسودة الدستور، بدت الطريق مفتوحة أمام إجراء استفتاء على المسودة، تمهيدا لانتخابات رئاسية وبرلمانية قبل نهاية العام الجاري.

غير أن الأرجح أن المسودة ستُجابه مجددا طعونا أخرى، خاصة من البرلمان، الذي يوجد مقره المؤقت في الشرق.

ويشكل الاستفتاء الخطوة الأولى المُتفق عليها، بحسب خارطة الطريق الأممية، المُفضية للانتخابات، من أجل إنهاء المرحلة الانتقالية الدامية، التي تمرُ بها ليبيا منذ اندلاع انتفاضة 17 فبراير (شباط) 2011، التي قوضت حكم العقيد معمر القذافي (1969-2011).

وفي الذكرى السابعة لتلك الانتفاضة، التي انطلقت من بنغازي (المدينة الثانية – شرق)، يبدو أن المخرج من الحرب الأهلية مازال غير قريب.

قدحت احتجاجات أهالي المعتقلين السياسيين ومحاميهم في بنغازي، الشرارة الأولى للانتفاضة إذ كانوا يطلبون كشف الحقائق عن مصير أبنائهم، على إثر مذبحة سجن أبو سليم في ضاحية العاصمة طرابلس، التي صفى خلالها رجال القذافي نحو 1200 معتقل.

كان المحامون يطالبون بالإفراج عن زميلهم فتحي تربل، محامي عائلات المساجين المغدورين في السجن، ويرفضون الهتافات المنادية بإسقاط النظام، إلا أن هذا الشعار بدأ ينتشر من خلال العالم الافتراضي، ما أثر في خطاب المعارضة الليبية، فغيّرت من لهجتها الإصلاحية، واعتبرت أن الاحتجاجات فرصة لقطْـع الطريق أمام مشروع القذافي، الذي كان يُخطط لتوريث السلطة لابنه سيف.

عزيزية بنغازي”

انطلقت المظاهرة الأولى في بنغازي يوم 15 فبراير، وفي اليوم التالي، في البيضاء (شرق) والزنتان (غرب)، قبل أن تُرتَـكب أولى المجازر يوم 19 من الشهر نفسه في بنغازي، إذ كان الأهالي مُتجهين إلى المقْـبرة لتشييع شُهداء الأيام الماضية، فمروا أمام ثكَـنة كتيبة الفضيل بن عمر (على اسم أحد قادة حرب التحرير ضد الطليان)، والتي كانت تُـعتبر “عزيزية بنغازي”، ففتحت كتائب القذافي النار عليهم وسقط شهداء.

وشكلت تلك الحادثة انعطافا جعل الفضائيات تهتم بمتابعة ما يجري في ليبيا، بواسطة صور فيديو تطوع لإرسالها شباب ليبيون في الداخل.

وبالرغم من اختلاف الرؤى بين روافد الانتفاضة، توحدت جهود المنتفضين والمعارضين حول شعار واحد هو “إسقاط النظام”، الذي كان صدى للثورة التي أطاحت بالجنرال زين العابدين بن علي في تونس المجاورة.

وانتشرت اللجان التي شكلها الشباب، خاصة في سبْـها ونالوت وأجدابيا وطرابلس ودرنة، وأحدثت كل لجنة صفحة على فايس بوك، لكي تبث عليها الصور الحية، مع توخي قدر كبير من الصدقية.

وسرعان ما بات ما يجري في ليبيا محط اهتمام الإعلام العربي والدولي، لاسيما بعد استيلاء الثوار على السلاح للدفاع عن أنفسهم، فأخذ الصراع منحى عسكريا.

ودخل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا سركوزي على الخط لتدويل الصراع، عبر مجلس الأمن، لدوافع أكثرها شخصي، ما جعل الصراع ينقلب إلى دمار وحرب أهلية.

استغرقت المعارك بين قوات الثوار والكتائب الموالية للقذافي ستة شهور، خسر بعدها معركة طرابلس في أغسطس (آب) 2011، قبل أن يُلقى عليه القبض ويُقتل في ظروف مازال يحُفُ بها الغموض الشديد، في ضواحي مدينة سرت، التي كان يسعى إلى جعلها العاصمة السياسية.

ويمكن القول إن النظام السابق انتهى لما تسلم “المجلس الوطني الانتقالي”، الذي أدار البلد خلال الثورة، مقعد ليبيا في الأمم المتحدة اعتبارا من سبتمبر (أيلول) 2011.

ثلاث مراحل

بعد سبع سنوات، لا تبدو ليبيا سائرة نحو معاودة البناء وإرساء نظام ديمقراطي في أعقاب حُكمين ملكي وجماهيري، لم يمنحا السيادة للشعب ولم يبنيا دولة حديثة.

وبحسب خارطة الطريق التي وضعتها الأمم المتحدة لتسوية الصراع الأهلي سلما في ليبيا، ثمة ثلاث مراحل ينبغي قطعها لإعادة القطار إلى السكة، أولها الاستفتاء على مشروع الدستور، وثانيها إجراء انتخابات حرة وشفافة، وثالثها تكريس المصالحة الوطنية.

هل الانتخابات قريبة؟

مازال الموفد الأممي غسان سلامة يعمل على تشكيل توافق يحفز جميع اللاعبين السياسيين على الانخراط في لعبة الانتخابات، وهو ما يستدعي التعهد سلفا بقبول نتائجها.

وتبدو وتيرة التسجيل في اللوائح الانتخابية مشجعة، إذ وصل عدد المُسجلين إلى 2.4 مليوني مقترع، علما أن القاعدة الانتخابية (من تفوق سنُهم الثامنة عشرة) تُقدر بـ4.5 ملايين مُقترع.

لكن المعضلة الكبرى تأتي من وجود برلمانين وحكومتين متنافستين في الشرق والغرب تدعمهما تحالفات مسلحة متناحرة في الداخل وداعمون كُثرٌ من الخارج.

كما أن بعض الأقليات الثقافية أو الاثنية، أسوة بالأمازيغ والتبو والطوارق، تحفظت عن المشاركة في وضع مسودة الدستور، لأنها تعتبر أن نسبة التمثيل المُقترحة عليها غير متناسبة مع حجمها الحقيقي.

الأخطر من ذلك هو رد الفعل الصادر عن نواب برقة (المنطقة الشرقية) في مجلس النواب، الذين عبروا في بيان عن امتعاضهم من قرار المحكمة العليا الليبية بطرابلس، القاضي بعدم اختصاص القضاء الاداري بالنظر في الدعاوى المتعلقة بعمل هيئة الدستور.

والأرجح أن هذا الموقف سيُعطل مسار إصدار مجلس النواب في طبرق قانون الاستفتاء، خصوصا أن محكمة الاستئناف بمدينة البيضاء (شرق) أصدرت قرارا بوقف إجراءات الاستفتاء على مشروع الدستور، بناء على طعن في الإجراءات تقدم به بعض أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور.

مسار دستوري متقطع

بالرغم من هذه التجاذبات، ارتدت المسألة الدستورية أهمية كبيرة في التاريخ الليبي المعاصر، إذ أثارت صراعات كثيرة سواء بين النخب الليبية أو بينها وبين القوى الغربية، طيلة الفترة الاستعمارية (1911-1952).

ويقول المؤرخ الدكتور عبد المجيد الجمل إن مطلب الدستور شكل أثناء الهيمنة الايطالية (1911-1943) أحد مطالب الكفاح الوطني. وكان ظهور دستور الجمهورية الطرابلسية في 1920 والقانون الأساسي ببرقة في الفترة نفسها تقريبا تجسيدا لذلك المطلب.

واتسمت فترة الاستعمار الانكليزي ببرقة وطرابلس (1943-1952) بتعدد الأحزاب والجمعيات، وكذلك ظهور وثيقتين دستوريتين: دستور برقة سنة 1949 ودستور ليبيا الموحدة سنة 1952، الذي تم انجازه من قبل جمعية وطنية وبتوافق بين مختلف مكونات المجتمع الليبي، مع العلم أيضا أن من خصوصيات التطور الدستوري بليبيا الدور المهم للقوى الدولية، كما تجلى ذلك في القرار الصادر عن الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 1949، والذي أتى دستور 1951 تجسيدا له، على ما يقول الدكتور الجمل.

أما في عهد الملك محمد إدريس السنوسي (1952-1969) فتم إدخال تعديلات على دستور 1951 في أبريل 1963، ألغي بمقتضاها النظام الاتحادي بين اقليم برقة وطرابلس وفزان. لكن في فترة حكم القذافي تم إلغاء الدستور جملة والاستعاضة عنه بإصدار إعلان دستوري في ديسمبر (كانون الأول) 1969، سرعان تم إلغاؤه لاحقا ليتم إرساء حكم فردي حتى 2011.

بهذا المعنى يُعتبر إنجاز الاستفتاء على الدستور إذا ما تم قفزة كبرى إلى الأمام، واستجابة لأحلام أجيال من المصلحين والمثقفين الليبيين، بالاضافة لكونه المدخل السياسي والقانوني للانتخابات ولبناء دولة المؤسسات.

غير أن انتشار السلاح المتمرد على الدولة لا يساعد في دفع الأمور في اتجاه الحل السياسي، الذي يُعلن الجميع تقريبا أنهم متشبثون به. وليست هناك تقديرات دقيقة لحجم السلاح المتداول في ليبيا اليوم، وإن كان رقم 20 مليون قطعة هو الأكثر ترددا، وغالبيته آت من مخازن الجيش الليبي، وإن كان التدفق من الخارج مستمرا أيضا، وآخر مؤشراته السفينة التركية التي ضبطها اليونانيون وهي في طريقها إلى مدينة مصراتة.

وطالما أن الدولة منهارة والحدود شبه سائبة ينبغي توقع المزيد من الأسلحة والذخائر التي تُرسل للجماعات المتحاربة من المعسكرين.

ومع أن الموفد الأممي غسان سلامة يعتقد أن عملية جمع الأسلحة تستغرق سنوات، ولا تحدث بين عشية وضحاها، فلابد من التأكد سلفا من أن انتشار السلاح لن يُؤثر في مسار الاستفتاء على الدستور، ولن يُعرقل تنفيذ بنود خارطة الطريق، هذا إن توصل الفرقاء أصلا إلى اتفاق على سلم الأولويات.

______________

مواد ذات علاقة