بقلم المكي أحمد المستجير

إنّ الماضييحكم حاضرَنا بقوّة، ويستحكم على عقليّتنا بطغيان، فلا ننظر إلى مستقبلنا أو نفسّر حاضرنا إلا به، حتى في علوم المعاجم وأصل الكلمات، لا بُدّ من ارجاع الكلمةِ إلى ماضيها أوّلا؛ لتتبعها ومعرفة معناها، واستكناه مضمونها.

فالماضي عندنا لا يمضي، والحاضرُ أسير، والمُستقبلُ غيبٌ لا يعنينا.

ولو نظرنا إلى الماضي بصورةٍ أكبر في حاضرنا، ونظرة أوسع (كُلّيّة)؛ لوجدنا أنّ واقعَ المسلمين اليوم، يحكمه الماضي في أحد جوانبه، بصراعاته وتصوّراته ومُصطلحاته، فلا زلنا نتقاتلُ على قضايا مضى عليها أكثر من عَشَرة قرون، مذهبيّا وطائفيّا ودينيّا، ونعيش القرن الواحد والعشرين بعقليّة القرن السابع، ونصف خصومنا بمصطلحاتِ القرون الهجريّة الأولى، ولا يزالُ الشيعيُّ يبغضُ أخاه السنّيَّ على حربٍ لم يُدْرِكَاها، والسنّي يبغض الشيعيَّ على قضايا لم يُعاصِراها، ويظلّ حاضرُهما بعيدا عن اهتماماتهما، ويبقى واقعهما المُعاش في مأزق.

وفي ليبيا، وبعد فشل إحداث مُقاطعة تاريخيّة بين الحاضر والماضي، بصراعاته وتصوّراته ومُصطلحاته، وعَجْزُ عقليّة ما بعد سبتمبر/ فبراير على تقبّل الحتحاتكما يصفه ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسيّ [1890-1983]؛ ليصير الماضي حاكما على التوجّهات والتحالفات، وسجّانا على التقدّم والإصلاح؛

(كل ذلك) بسبب سطوة الذّاكرة الاجتماعيّة الجَمعيّة القبليّة على الفرد والجماعة، وتجذّر الانتماء إلى القبيلة لا الوطن في ثقافتهم، وهشاشة مفهوم المواطنةِ وحُضوره، خاصّة بعد وأد مشروع الشّخصيّة الليبيّةبعد انقلاب سبتمبر 1969، تلك الشخصيّة بسِماتها ومَعَالمها وطبيعتها، والتي نادى بها وخصوصيّتها يوسف القويري، وحاولَ حَلّ مُشكَلِها الهُويّاتي عبد الله القويري [1930-1992]، وسعى إلى ترسيمها مشروعا سياسيّا عبد الحميد البكّوش [1933-2007]، فماتَ في مهده ولمّا يحبو.

كان لا بُدّ من قراءةِ حاضرنا المُبكي، اليوم، على ضوء الماضي، للمرور بمرحلةٍ انتقاليّة ، تدريجيّة، نعالجه أولا قبل نبذه نهائيّا آخرا؛ لتنتقلَ بها الثقافة من الـ(أنا) إلى الـ(نحن)، من المصلحة إلى المُصالحة، وهذه الأخيرةُ ستكونُ إنْ لم تعالجْ تراكماته، مجرّد عمليّة تجميل لعجوز خرِفة، فما ظهر من الجبل سوى قمّته، لاسيما والصّراع الليبيّ اليوم محكومٌ بالماضيّ في أحد أضلاعه، ضمن مثلث: [التاريخ المصلحة السلطة].

وحاكميّة التاريِخ للصّراعِ الليبيّ في أحد جوانبهِ فقط كما ذكرنا، فلا تعني غلبتها على غيرها؛ إنّما عاملا رئيسا يُسَيِّرُهُ ولا يُصيِّرُهُ، لأنّني في الوقتِ نفسِهِ، ممّن يرفضُ دعاوى أنّ التاريخَ يُعيدُ نفسَهعلى إطلاقِها، فأحداثُ التاريخ تتشابهُ ولا تتطابق، ومردُّ تشابههِ: اتحادُ مادّته، واتفاق خامته، وهي الإنسان.

وهذا العاملُ هو نفسُهُ سببُ عدم تطابقه؛ لعدم وجودِ فردين أو مُجتمعين مُتطابقين كليّا، فمهما توافقا فلن يتطابقا، وأحداث التاريخ لا حتميّة لتكرارها.

وتشبيهُ ماركُس وتحليله بأنّ حركة التاريخ لولبيّة دائرية متصلة، فيه كثيرٌ من الصحّة، فهي بذلكَ ليست خطيّة، أو دائريّة منفصلة، تبتدئ حيث تنتهي، وتنتهي حيث تبتدي، بل إنّها تسير إلى الأمام بصفة مستمرّة.

ويجب التنبّه إلى أنّ الصّراع في ليبيا كما نراهسياسيُّ صرف، فليسَ دينيّا أو عرقيّا أو فكريّا، كما يُحاول البعض تصويره، وهو أيضا محكومٌ بالنّسبيّة، بجدليّة (الصّواب والخطأ)، وليسَ صراعاً بين (الحقّ والباطل)، كما يكرّر ذلك المواطنُ الليبيّ بسذاجة باستمرار، ويعتقده أساطينُ توظيف الدّين وعلى رأسهم د.الصّادق الغرياني، رئيس دار الإفتاء الليبيّة، والذي احتكرَ الحقّ، وحجز مقاعد الشّهداء، فصارَ خصومُه كفّارا، وأضحى الصّراعُ عنده، بين مؤمنين وكافرين، بل زاد فوق ذلك تعنّتا، عندما رفض صُلحا بين مدينتين ليبيّتين، مُدبرا ظهره لآيات الله التي جعلت الصّلح والإصلاح من مقاصدها، وانتفاء الضّرر من قواعدها، والدفع بالأحسن من فضائلها: {فمنْ عفا وأصلحَ فأجره على الله}، {وأصلحوا ذات بينكم}،{ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور}، {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم}، وغيرها الكثير

لذلك فنسبيّة الحقيقة بوجوهها المتعدّدة، ترفعُ عن هذا الصّراع صفة الإطلاق، فقد يكون مع كلا الطرفين، شيءٌ من الحق، فلا يوجدُ فردٌ اليوم أو جماعة تحتكرُ الحقّ، أو تتحدّث باسمه، فالحقّ مطلق، وعالمهُ الأذهان، والفردُ مقيّدٌ، بالزّمان والمكان.

والمُصالحة الوطنيّة في ليبيا، رغم خصوصيّتها الكليّة، بل وخصوصيّة بعض مناطقها بحكم الجغرافيا والديموغرافيا؛ لكنّها لا تشذّ عن حالات المُصالحة الأخرى، التي شهدها العالم بقارّاته الخمس في نهايات القرن العشرين، والتي رَبَت عن الثلاثين تجربة، من تشيلي [1990] إلى تيمور الشرقية [2001]؛ للاطلاع عليها والاستفادة منها، لا لاسْتنساخها، وأبرزُها لنا هما التجربتان الجنوب أفريقيّة [1994] والمغربية [2004].

وكما يرى د. علي عبد اللطيف احميدة، أنّ هذه المصالحة وما ينبثق عنها من لجان (ليستْ شأنا فرعيّا أو تَرَفاً أكاديميّا، المصالحة الوطنيّة هي التحدي الأساسيّ للسلم الأهليّ، ولجنة الحقيقة والمُصالحة هي اللبنة الأولى لتضميد جراح الليبيّين من غير تجاهل الماضي).

مقوّمات المُصالحة:

على المستوى النّظري، لا يمكن لأيّ مصالحة حقيقيّة (لا شكليّة) ذات نتيجةٍ أن تقومَ دون:

أولا: العدل: قانونا وقضاء

فأيّ مُصالحةٍ تلكَ التي تكون بين مُنتصرٍ يفرضُ شروطَه بقوّة سلاحهِ، ومهزومٍ مغلوبٍ على أمره، بقانونِ القوّة لا قوّة القانون، تحت وهم شرعيّة المُنتصر الثوريّة“. 

ومنْ أضداد ذلك : إجبارُ السلطة التشريعيّة على إقرارُ قوانين بقوّة السلاح، أو مُحاكمة رموزِ وأركان نظام سبتمبر، تحت ظلّ نظام فبراير، وتحت سجون لا سيطرة للدولة عليها، ولا ضمان لاستقلالية القضاء فيها، وإلا صارتْ هذه المحاكمات ضربا من ضروب المحاكم الثوريّة، كالتي حدثت إبان انقلاب سبتمبر فيما يُعرف بمحكمة الشعب (1972).

ثانيا: الحريّة: تعبيرا، اعتناقا، انتماءً، وعقيدة

تعبيرا لأيّ فكر وبأيّ طريقة، اعتناقا لأيّ توجّه، انتماءً لأيّ هُويّة، وعقيدة لأيّ دين

ومن أضْداد ذلك: إقصاء أتباعِ ومُساندي النظام السّابق، وتهميشِهم سياسيّا، ونبذهم اجتماعيّا، واعْتبارِهم مواطنين من الدرجة الثانية، إضافة إلى اعتبار حيازة العلم الأخضر وصُور القذافي تهمةً وجريمة.

ثالثا: الإرادة الفعليّة: السياسيّة والاجتماعيّة

إرادةٌ تتبنّى مشروعا وطنيّا للمصالحة، تحدّد مفهومها، حُدودها، أطرافها، آليّاتها، ونقطة بدايتها، فتتقصّى الحقائق، وتكشفها، وتعترف بالأخطاء وتصلحها، وتتحمّل المسؤوليّة، بلا تبرير أو تزييف

ومن أضداد ذلك : الإرادة الصوريّة والتي جسّدها الجسم التشريعي بقوانينه، ابتداءً من المجلس الوطني الانتقاليّ وقانون 17/2012 الخاصّ بإرساء قواعد المصالحة والعدالة الانتقالية، ومرورا بقانون 29/2013 الصادر من المؤتمر الوطنيّ العام بشأن العدالة الانتقاليّة، وختاما بقانون مجلس النّواب المنتهي ولايته كسابقه المتأخّر، بالعفو العام، (28/07/2014)، دعاية ونِكاية، كقرار سياسي وليس استحقاقا سياسيّا وإنسانيّا، كنوعٍ من المتاجرة السياسيّة الرّخيصة.

***

المكي أحمد المستجير ـ كاتب ليبي

__________


مواد ذات علاقة