بقلم السنوسي بسيكري

شهدت الساحة الليبية خلال الأسبوع الماضي حراكا يتعلق بمسعى توحيد المؤسسة العسكرية، دون أن تتضح ملامح خطة لملمة شعث بقايا عناصر الجيش الذي صار أهم نقاط الخلاف بين أطراف النزاع.

ويكاد يتفق الجميع أن ركام الحقبة التي سبقت ثورة 17 فبراير كان لها أثر كبير في مراكمة عقبات تحول دون تأسيس جيش نظامي، فالضربات التي تلقتها القوات المسلحة في حروب لا مبرر لها، ثم التهميش المتعمد ماديا وفنيا لصالح إبراز كتائب خاصة كان له أثر كبير في إضعاف الجيش.

بعد الثورة صار التحدي الأكبر هو النوازع المتصادمة لتأسيس الجيش، فقد تجاذب مقاربة بناء الجيش نزوعات أدت إلى فشل عملية إعادة بنائه.

 وأقول بكل ثقة إن الجيش وقع في مصيدة النقيض، ما بين تطرف طرف، وضعف آخر، وذلك في كل المراحل منذ فبراير 2011.
أجزم أن أحد أهم أسباب عرقلة تأسيس الجيش في الثلاث سنوات ما بعد فبراير 2011، تدور حول خور إرادة القيادة السياسية، ورؤيتها المشوشة لكيفية التعاطي مع مشروع الجيش المنشود.

يقابل هذا الضعف تشدد وتعنت مثله الموقف المتصلب من مكونات أساسية من بين الثوار، الذين اتفقوا على أن بقايا جيش القذافي مريض ولا يقبل بحال إعادة لملمته، ويستثنون منه بعض الضباط وضباط الصف والجنود الذين شاركوا في الثورة، وأصبح معظمهم يفكر بعقلية الثائر، وليس بتفكير العسكري النظامي.

إذ لم تظهر مبادرة جادة وقوية من قبل الضباط الذين انضموا للثورة خلال السنوات 2011-2014، تكون نواة صلبة لجيش نظامي منضبط وبعقيدة صحيحة وجاهزية تامة، مستفيدة من مناخ الاستقرار النسبي خلال العامين 2012-2013.

جهود رئيس الأركان الذي تم تعيينه من المجلس الانتقالي لبناء المؤسسة العسكرية عام 2012، لا غبار عليها من الناحية النظرية، لكنها ظلت حبيسة دائرة القيادة، وتجمدت عند خطوة شرعنة كتائب الثوار، ثم ما لبث الصراع على شرعية حمل السلاح، خاصة بعد ظهور الكتائب الجهوية، أن أجهض المشروع.

كان حفتر من المبادرين عمليا في مشروع إعادة تشكيل الجيش، وهو خارج دائرة النفوذ العسكري، وشهد بذلك خصومه قبل مؤيديه، وأنه وجه دعوة لكثير من الضباط في الغرب والشرق والجنوب للتوحد تحت مظلة عسكرية نظامية قبل أن يطلق عملية الكرامة.

لكن منطلق حفتر لم يكن مهنيا، فقد أثبتت الكثير من الشواهد خلال الأعوام الأربع الماضية أن خطته تمحورت حول استغلال الفراغ العسكري، وتوظيف تطلعات كل الليبيين في أن يكون لهم مؤسسة عسكرية تحل محل الكتائب المسلحة التي أصبح أغلبها عبئا على الدولة، وعاملا من عوامل الانفلات الأمني، لأغراضه السياسية وأهدافه الخاصة.

وكما حدث في المرحلة السابقة، فقد وقعت مقاربة بناء الجيش منذ منتصف 2014 بين تطرف حفتر ومن معه من ضباط ومن ناصره من مدنيين، وضعف موقف كافة المكونات المدنية من مؤسسات سيادية، في مقدمتها البرلمان الذي أعطى حفتر شيكا على بياض ليقرر في الجيش ما يشاء دون مراقبة أو محاسبة. وأيضا صمت منظمات أهلية ونخبة مثقفة ونشطاء بمختلف مجالات فاعليتهم.

التطرف تمثل في تجميع مكونات متفرقة بعقائد وتوجهات متناقضة واعتبارها نواة للجيش، والزج بهم في حرب طاحنة كان لها أثرها البالغ في تأزيم مقاربة بناء القوات المسلحة، ثم استخدامهم كورقة تفاوض، وانتهى الأمر إلى الدفع باتجاه بلورة عقيدة تقليدية تتمحور حول الانضباط الأعمى والولاء للقيادة العسكرية بإطلاق.

فبعد أربع سنوات اتضح أن العسكريين لا يشكلون إلا نسبة صغيرة من إجمالي حملة السلاح في المنطقة الشرقية، وركز حفتر في ظل الخلافات التي تفجرت داخل معسكر الكرامة على عامل الولاء في تكوين القوة التي يعتمد عليها في مشروعه فاتجه بذلك إلى نموذج قريب من الكتائب الأمنية التي شكلها النظام السابق لفرض سيطرته.

لم يواجه حفتر بمواقف صارمة وضغوط فاعلة لمنعه من خلق جنين مشوه للمؤسسة العسكرية، كما وقع لرئيس أركان الجيش في 2012، الذي اتهم بانحيازه لطرف بعينه، وواجه ضغوط كبيرة من أطراف سياسية ومكونات اجتماعية.

الجسم السيادي الأعلى، وهو البرلمان، الذي منح حفتر منصبه ورتبته العسكرية، عجز عن أن يفرض نفسه قائدا أعلى للجيش، وصار يدور في مواقفه وقرارته حيث تدور رياح القائد العام، وتابعته في ذلك الحكومة المؤقتة ولحق بهم كافة المكونات السياسية والاجتماعية والمجتمعية.

هناك أصوات واعية ضمن المجموع العام في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التابع للبرلمان تحذر من الخلل في خطة إعادة هيكلة الجيش خاصة بعد انتهاء المعارك في بنغازي، لكنها أصوات محدودة وضعيفة وتخشى الملاحقة باعتبار أن الجيش وقائده من الخطوط الحمراء التي لا ينبغي المساس بها أو الاقتراب منها.

في الجبهة المقابلة التي تضم الغالبية من ضباط وجنود الجيش، وهي المنطقة الممتدة من مصراته وحتى زواره، اقتصر الجهد على الاجتماعات وبيانات التنديد بحفتر والمطالبة بدعم السلطة السياسية لها، وظلت بعيدة عن مبادرة جادة تقدم نموذج جيش وطني نظامي صحيح العقيدة العسكرية وبعيد والولاء الفردي.

والخلاصة أن مشروع تأسيس الجيش صار ورقة سياسية وتحول إلى ملف مزايدات بين أطراف النزاع، وبهذا تحولت جهود تأسيسه إلى مقاربات ضعيفة ومشوهة يمكن أن تفرض نفسها في ظل الضغوط السياسية والانفلات الأمني، لنعود إلى نموذج بائس للمؤسسة العسكرية التي ستكون حتما سيفا مصلتا على الشعب وليس جسما حاميا للدولة ومؤسساتها المدنية.

***

السنوسي بسيكري ـ كاتب وباحث ليبي ومدير المركز الليبي للبحوث والتنمية

 _________


مواد ذات علاقة