بقلم خليفة علي حداد

تمر مدينة بنغازي، المدينة الثانية في ليبيا، بأزمة أمنية وسياسية واجتماعية حادة، أدت إلى اقتتال داخلي وتمزق اجتماعي وخراب عمراني وانتهاك واسع لحقوق الإنسان.

ورغم مكانة المدينة، تاريخيا واقتصاديا وسياسيا، إلا أن أسبابا، محلية وخارجية متظافرة، أدت إلى تصعيد التناقضات الاجتماعية والسياسية وحسم الاختلافات بالحديد والنار، حتى بلغت الأزمة مدى يصعب معه تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار على المدى المنظور.

مقدمة:

في 23 من جانفي/ يناير 2018، هز انفجار مزدوج، بفعل سيارتين مفخختين، محيط مسجد بيعة الرضوان بمنطقة السلماني، بمدينة بنغازي، شرق ليبيا، مخلفا قرابة الخمسين قتيلا وتسعين جريحا، بينهم قيادي أمني بارز من السلفيين المداخلة، مقرب من قائد عملية “الكرامة” خليفة حفتر..

لم تندمل الجراح التي أحدثها انفجار السلماني، حتى جد انفجار مشابه في محيط مسجد سعد بن عبادة بمنطقة الماجوري، ما أسفر عن سقوط قتيل واحد، على الأقل، وأكثر من ستين جريحا.

لم يكن انفجارا السلماني والماجوري الخرق الأمني الأول الذي تشهده مدينة بنغازي، ولا يعتقد أنه سيكون الأخير في ظل تداعيات الصراع الدامي الذي تشهده المدينة منذ أربع سنوات، والذي أحدث، ضمن ما أحدث، شرخا اجتماعيا يصعب جسره على المدى القريب والمتوسط، زيادة عن حال الخراب الكبير الذي لحق البنى التحتية والمرافق والمؤسسات.

الجغرافيا والتاريخ والخصوصية

تقع مدينة بنغازي في الشمال الشرقي لليبيا، وتعد المدينة الثانية في البلاد والأولى في إقليم برقة، من حيث عدد سكانها. تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ما منحها أهمية تجارية وعسكرية، عبر التاريخ، حيث استوطنها، العثمانيون، منذ القرن السابع عشر، واتخذوها عاصمة للإقليم، وظل حكمهم قائما حتى سنة 1911، تاريخ وصول الطلائع الأولى للغزو الإيطالي.

وترك العثمانيون، وبعدهم الإيطاليون، لمسات واضحة على معمار المدينة. وبعد نيل الاستقلال، حظيت المدينة بمكانة سياسية وإدارية استثنائية، إلى جانب مكانتها التاريخية والاقتصادية، فقد نصت المادة 188 من دستور 1951 على أن “للمملكة الليبية المتحدة عاصمتان؛ هما طرابلس وبنغازي”. وطيلة حكم الملك إدريس السنوسي كانت بنغازي العاصمة الفعلية للبلاد، حيث احتضنت أغلب المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، وبعثت فيها النواة الأولى للجامعة الليبية، إضافة إلى هيئة البترول، كما كانت مقرا رئيسيا ثانيا للمصرف الوطني الليبي إلى جانب المقر الواقع في العاصمة طرابلس.

في الأول من سبتمبر 1969، شهدت قاعدة الرجمة جنوب شرق بنغازي انطلاق الحركة الانقلابية التي قادها مجموعة من الضباط، بينهم الملازم معمر القذافي، وأطاحت بالملك إدريس السنوسي، كما بث عبر إذاعتها البيان رقم واحد. وطيلة 42 سنة من حكم القذافي حافظت بنغازي على خصوصية نسبية من خلال تواتر مظاهر المعارضة والتمرد، بدءا من حملات القمع التي تعرض لها النشطاء السياسيون والطلبة في السبعينات، مرورا بحفلات الشنق الجماعية في الثمانينات، وصولا إلى الاعتقالات والقتل الجماعي لأنصار التيار الإسلامي في التسعينات وفي العشرية الأولى من القرن الحالي.

وكما شهدت بنغازي أولى خطوات القذافي نحو كرسي الحكم، فقد شهدت، اعتبارا من منتصف فبراير 2011 الفصل الأخير من نهايته. تمكن الثوار الليبيون من طرد كتائب القذافي من بنغازي خلال أيام قليلة، لتتحول المدينة، في الـ27 من الشهر نفسه، إلى مقر للمجلس الوطني الانتقالي الذي مثّل الواجهة السياسية والرسمية للثورة الليبية إلى حين الإطاحة بالقذافي وتشكيل حكومة عبد الرحيم الكيب في طرابلس، في الـ31 من شهر أكتوبر 2011. يشير التعداد العام للسكان في ليبيا، الذي أجري سنة 2006، إلى أن عدد سكان المدينة يبلغ 674 ألف نسمة، فيما تشير مصادر أخرى، غير رسمية، إلى أن العدد أكثر من ذلك.

وتتوزع التركيبة الاجتماعية لسكان مدينة بنغازي على مختلف القبائل الليبية بنسب متفاوتة، غير أن أكثر القبائل تعدادا هي بعض القبائل المستوطنة، تاريخيا، بالمنطقة الشرقية كالعبيدات والعواقير والبراعصة، وغيرها. ويتداول الليبيون أمثالا شعبية عن قدرة مدينة بنغازي على دمج المهمشين والغرباء والوافدين إليها وعلى قابلية تركيبتها الاجتماعية لاحتوائهم.

بدأت التركيبة الاجتماعية والقبلية في بنغازي في التغير والتنوع، مع بدء تدفق النفط في ستينات القرن الماضي، حيث ساهمت الاعتمادات المالية الناتجة عن تسويق الشحنات النفطية في تحقيق قدر من الانتعاش الاقتصادي الذي خلق بيئة دافعة للاستقرار لتوفر فرص العمل والرفاه المعيشي النسبي.

وشهد عقدا الستينات والسبعينات انتقال الكثير من العائلات من باقي مدن برقة ومن المنطقتين الغربية والجنوبية للعيش في بنغازي، حيث شهدت المدينة تمددا عمرانيا غير مسبوق.

ويعد التوسع السكاني والعمراني المرتبط ببدء الاقتصاد النفطي الأكبر في تاريخ المدينة منذ مخطط التوسع والتنظيم الذي باشره الإيطاليون في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، مع فارق جوهري في مدى كل منهما وطبيعته. ففي حين اعتمد المخطط الإيطالي دراسات هندسية وعمرانية تراعي خصوصيات المدينة وإرثها التاريخي وجماليتها، وتوزع المجالات التجارية والسكانية والترفيهية والخدمية فيها، فقد غلبت العشوائية على مظاهر التوسع العمراني منذ الستينات إلى اليوم، ما خلق تدنيا كبيرا في المرافق والخدمات والبنية التحتية.

ما بعد الثورة: من الرمزية إلى الفراغ

ظلت مدينة بنغازي، من فبراير إلى أكتوبر 2011، مقرا للمجلس الوطني الانتقالي وعاصمة رمزية للثورة، ومقصدا للشخصيات السياسية والوفود الرسمية والشعبية والمناصرين من مختلف أنحاء العالم.

ورغم أن المدينة تعرضت للقصف في الأيام الأولى للثورة، كما شهدت ضواحيها الغربية مواجهات ضارية في 19 مارس 2011 بين الثوار ورتل عسكري ضخم من كتائب القذافي حاول اقتحامها، إلا أن الاستقرار الأمني والخدمي ظل السمة الغالبة على الحياة فيها.

لم ينتظر المجلس الوطني الانتقالي طويلا بعد سيطرة الثوار على العاصمة طرابلس لينقل السلطة إلى الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الرحيم الكيب. وبانتقال الأجهزة الحكومية والسياسية والعسكرية إلى طرابلس تراجع الاهتمام الإعلامي والرسمي بمدينة بنغازي، وتحوّل، شيئا فشيئا إلى حالة من الفراغ متعدد الأوجه، انتعشت فيه مظاهر الانفلات والعصبيات واللادولة، ووجد فيه خطاب المظلومية والخصوصية صدى وحاضنة اجتماعية.

فعلى المستوى السياسي، لم يكن انتقال السلطة من بنغازي إلى طرابلس متدرجا، كما لم يسع المجلس الانتقالي، وبعده حكومة الكيب، إلى الإبقاء على بعض أجهزة السلطة المركزية في المدينة كما طالبت بعض الفعاليات، حينها.

ورغم انتخاب مجلس محلي لإدارة شؤون المدينة، في مايو 2012، إلا أنه لم يكن قادرا، بصلاحياته المحلية المحدودة، على ملء الفراغ الكبير الذي خلفه انتقال السلطة المركزية. أما على المستوى الأمني والعسكري، فقد عاد الثوار، الذين كانوا مشغولين بالجبهات، مدججين بمختلف أصناف السلاح، وتحولوا إلى معطى أمني داخل المدينة.

وبعدما كانت الجبهات حاضنة انصهر فيها الجميع، بمختلف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم القبلية والجهوية، صار الاستقرار في معسكرات المدينة عاملا لظهور التناقضات بين مختلف التشكيلات المسلحة. وشيئا فشيئا بدأت نذر صراع النفوذ تتكرس على الأرض، مدفوعة بالحسابات الداخلية والتدخل الإقليمي.

ومنذ منتصف سنة 2012، تحولت المدينة إلى مسرح لعمليات اغتيال متكررة وتصفيات غامضة طالت عسكريين وأمنيين ومثقفين وإعلاميين ونشطاء سياسيين وحقوقيين، بعضهم من رموز ثورة فبراير.

وعلى خلفية عمليات الاغتيال تبادلت الأطراف السياسية والمسلحة الاتهامات بالمسؤولية عما يجري بالمدينة. وبموازاة ذلك، تحولت أحياء المدينة ومداخلها إلى ما يشبه الجزر الأمنية الواقعة تحت سطوة الكتائب المسلحة التي نشرت مقاتليها وبواباتها وآلياتها العسكرية.

ورغم الحالة المتفاقمة لم تصدر عن السلطات الجديدة في طرابلس، من حكومة انتقالية ومؤتمر وطني عام، أي مبادرات لمعالجة الوضع في المدينة، بعد أن باتت، هي الأخرى، رهينة الكتائب المسلحة في العاصمة.

وفي الأثناء، تعرض مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي، ليلة الـ11 من سبتمبر 2012، إلى هجوم شنه متظاهرون، وأدى إلى مقتل السفير الأمريكي في ليبيا كريستوفر ستيفنز واثنين من الموظفين وعددا من رجال الشرطة الليبية المكلفين بحماية المبنى.

في الـ22 من سبتمبر 2012 نظم نشطاء سياسيون من المدينة “جمعة إنقاذ بنغازي”، وخرج المئات من المتظاهرين مطالبين الكتائب المسلحة بإخلاء المباني والمنشآت، وتفعيل أجهزة الشرطة والجيش، واشتبكوا مع مسلحين من “كتيبة راف الله السحاتي”، ما أدى إلى سقوط عدد من المتظاهرين بين قتلى وجرحى. ورغم أن الداعين إلى الحراك نسبوا أنفسهم إلى المجتمع المدني والأهلي بالمدينة، إلا أن جدلا كبيرا أثير حول الجهات السياسية الداخلية والخارجية التي تقف خلفه.

ووجه محسوبون على الثوار أصابع الاتهام إلى سياسيين وإعلاميين ورجال أعمال، وحملوهم مسؤولية تأجيج الأوضاع بالتنسيق مع جهات إقليمية، بهدف التمكين للثورة المضادة.

وإلى جانب ذلك، ظهرت في المدينة أصوات تنادي بإقرار الفيدرالية ومنح إقليم برقة حكما ذاتيا تكون عاصمته بنغازي، وتطالب بإعادة المؤسسة الوطنية والمصرف المركزي ومؤسسات أخرى إلى المدينة.

ورغم انخراط شخصيات سياسية وقبلية في الدعوة إلى الفيدرالية وتنظيمها وقفات ومناشط في الساحات العامة، إلا أن تأثيرها ظل محدودا ونسبيا، ولم تتحول إلى تيار قادر على توجيه مجريات الأحداث، رغم انضمام أعضاء في مجلس النواب إلى المنادين بالفيدرالية، وحتى بالتقسيم، في المدة الأخيرة.

البقية في الجزء الثاني

______________

مواد ذات علاقة