بقلم د. الحسين الشيخ العلوي

يتناول هذا التقرير صراع أطراف الأزمة الليبية بالجنوب الليبي الذي سيظل ساحة حرب لتصفية الحسابات بين المشير خليفة حفتر بالشرق وخصومه في الغرب، وفي غياب أية تسوية سياسية فمن المتوقع أن تستحوذ قوات حفتر على زمام الأمور إلى أن ينظِّم المجلس الرئاسي صفوف قواته هناك.

الجزء الأول

منذ نشوء الدولة الحديثة في ليبيا في مطلع خمسينات القرن المنصرم، كان الخلاف والصراع بشتي صوره، يبدأ في الشمال بين برقة (الشرق الليبي) وطرابلس (الغرب الليبي)، ويتم حسمه في الجنوب، حتى القرارات المصيرية التي أقرها البرلمان في عهد المملكة الليبية.

كانت أصوات نواب الجنوب هي المرجِّحة للكفة، كلما احتدم الخلاف بين برقة وطرابلس، مثل التعديلات الدستورية عام 1962، التي أحدثت نقلة دستورية في ليبيا وأطاحت بنفوذ اللوبيات المسيطرة ومهدت لقرار تحويل ليبيا من مملكة فيدرالية إلى مملكة موحدة في ربيع العام 1963، وذلك للحد من تغول سلطات حكومات الأقاليم على حساب الحكومة المركزية.

وفي حقبة الجماهيرية التي عملت على تغيير سُلَّم التراتبية الاجتماعية في ليبيا، كان المتنفذون ورجالات الحكم، معظمهم من الجنوب الليبي والمنطقة الوسطى (وتحديدًا مدينة سرت)، وإن ظل الجهاز التنفيذي وتكنوقراطيو الدولة من الشمال، مع تهميش متعمد للمنطقة الشرقية. 

خلال الأزمة الراهنة في الجنوب الليبي، التي نالت قدرًا من الاهتمام الدولي، لوحظ في التقارير الإخبارية تضارب شديد في المعلومات، وغموض في تحديد طبيعة المشكلة، مع التركيز على قضية المرتزقة والصراع القبلي وإغفال محددات الصراع الراهن، الذي لا شك ستحدِّد مآلاته، طبيعة لاعبي الغد في المشهد السياسي الليبي المتقلب. 

الجنوب الليبي منذ اندلاع الأحداث وحتى الآن 

ظل الجنوب الليبي بالكامل على ولائه للنظام السابق، طيلة الأشهر الأربعة الأولى من اندلاع أحداث فبراير/شباط 2011، لكن مع تعدد وانتشار جبهات القتال في أكثر من مدينة ومنطقة في ليبيا، بدأ أنصار فبراير/شباط في الظهور والكشف عن أنفسهم في الجنوب وتحديدًا في مدينة سبها، نظرًا إلى أن معظم شباب الجنوب الموالي لنظام القذافي توزع على جبهات القبائل المختلفة.

كان الانحياز إلى صف فبراير في البداية يتم بشكل فردي دون ولاءات قبلية أو تكتل جهوي كامل. ولأن تركيبة الجنوب قبلية، فقد صُنِّفت قبائل القذاذفة وورفلة والحساونة والمقارحة والطوارق كقبائل مناصرة للنظام، واختار التبو ومعظم أولاد سليمان الانحياز لمعارضة النظام، وإن ظل قرابة ثلث أولاد سليمان مع النظام السابق، حتى سقوطه، لينضموا لاحقًا بعتادهم لبقية القبيلة التي اختارت أن تكون في صف فبراير/شباط 

وعلى مدار شهرين في الفترة الممتدة من انهيار النظام في أواخر أغسطس/آب 2011 وحتى أواخر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، استولت مجموعات الثوار التي حاربت النظام السابق، على المعسكرات والوحدات العسكرية في كل قرية وفي كل حي، ونظرًا إلى أن الترسانة العسكرية للنظام كانت مركَّزة أساسًا في الغرب، والمنطقة الوسطى (الجفرة) فقد استولت مجموعة ثوار مصراتة والزنتان على معظم العتاد العسكري الثقيل للنظام السابق.

ومع مطلع العام 2012، كان قرابة ثلاثة أرباع تسليح الجيش الليبي، تحت سيطرة ثوار مصراتة الذين كوَّنوا كتائب ضاربة، جيدة التسليح أسموها الدروع، وقد توزعت تلك الكتائب على عموم ليبيا وتحديدًا في الغرب والجنوب الليبيين. وكانت القوة الثانية في ليبيا من حيث التسليح لكتائب الزنتان، وتحالفت هاتان القوتان على تقاسم النفوذ في ليبيا وبسطتا سيطرتهما الكاملة فعلًا على عموم ليبيا مع حلول صيف 2012، قبل أن تندلع الخلافات بينهما في منتصف العام 2013. 

وفي الجنوب، أضحى جليًّا أن قوتين رئيستين من فبراير/شباط تتقاسمان السيطرة والنفوذ في الإقليم، وهما قبيلتا أولاد سليمان والتبو، مع انضمام أفراد من معظم قبائل الجنوب للكتائب التابعة لهاتين القوتين. وتحالف أولاد سليمان مع كتائب مصراتة في حين اختار التبو التحالف مع قوات الزنتان. 

برزت قوة أولاد سليمان بمجرد استيلائهم على كتيبة فارس (القوة الرئيسية للنظام السابق في الجنوب، معسكرها الرئيس في سبها)، واستولى التبو على وحدات أقل تسليحًا في أوباري والقطرون وتراغت وأم الأرانب، وظلت مناطق الطوارق البعيدة في جهات غات وجزءٍ من أوباري، ظلت بعيدة عن تجاذبات وتحالفات فبراير/شباط. 

عاش أولاد سليمان والتبو في وفاق حَذِر جرَّاء تقاسم النفوذ والغنائم حتى خريف 2012. وعندما بدأت المدخرات التي تركها النظام السابق في النضوب جرَّاء سخاء حكومة الكيب مع الميليشيات وثوار فبراير/شباط، ومع توقف تصدير النفط جرَّاء سيطرة ميليشيات الجضران على منطقة الهلال النفطي، الذي يحوي 70% من نفط ليبيا.

بدأت الخلافات تطفو على السطح بين التبو وأولاد سليمان والتي تنحصر أساسًا في السيطرة على منافذ وطرق التهريب في الجنوب التي تدر مئات الملايين سنويًّا من وراء تهريب البضائع وتجارة المخدرات والاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية. 

السيطرة على طرق التهريب بالجنوب 

بدأ الصراع بين قبيلة أولاد سليمان والتبو، بحوادث فردية بين مهربين من كلا الطرفين في ربيع عام 2012، والتي تمخضت عن مقتل قائد تباوي وقائدين بارزين في اللواء السادس مشاة التابع لأولاد سليمان ( كتيبة فارس سابقًا) ومن يومها وحتى الأحداث الأخيرة، عرف الطرفان 166 اقتتالًا تراوح بين حوادث فردية إلى معارك شرسة استُخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتدوم لعدة أيام إلى أن تتدخل قبائل الجنوب وتبرم صلحًا وهدنة بين الطرفين، بيد أن هذه الهدنة لا تصمد عادة إلا لمدة أسابيع ثم يتجدد الاقتتال، هذا فضلًا عن الأحداث والمناوشات الفردية بين كلا الطرفين، في ظل محدودية الموارد والصراع الضاري للسيطرة على المنافذ والمعابر وطرق التهريب. 

وحتى منتصف العام 2015، كانت معظم الخسائر في جانب التبو نظرًا لفارق التسليح والعدة والعتاد، إلا أنه في منتصف العام 2016، بدأت الكفة تميل لصالح التبو جرَّاء العوامل التالية:

 ـ تأثر منطقة الجنوب بالصراع الحاصل في الشمال بين المشير خليفة حفتر وفايز السراج؛ حيث تحالف أولاد سليمان مع حكومة السراج، في حين اختار التبو معسكر خليفة حفتر، وكان هذا الأخير سخيًّا في موضوع تسليح وتزويد كتائب التبو لكسر شوكة أولاد سليمان المتحالفين مع مصراتة وحكومة السراج والإخوان المسلمين.

ـ سخط معظم قبائل الجنوب على أولاد سليمان الذين يرون في أنفسهم حكام الجنوب الجدد، وحجم المظالم والانتهاكات التي مارسوها بحق القبائل الأخرى، وحجم الإذلال والقهر الذي مارسه أولاد سليمان بحق القذاذفة تحديدًا، والذي يرقى معظمه إلى جرائم حرب، ولاسيما جرائم الشرف والعِرض، المرفوضة والمستهجنة في عرف البدو في ليبيا.

ـ العودة القوية لأنصار النظام السابق في منطقة الجنوب، وذلك بعد أن التقطوا أنفاسهم ونظموا صفوفهم من جديد، وبروز قوتين عسكريتين تُحسبان على أنصار النظام السابق، وهما:

  • القوات المسلحة الليبية في الجنوب:

حيث قام ضباط وعسكريون من الموالين للنظام السابق في صيف العام 2016 بتشكيل قيادة للقوات المسلحة الليبية في الجنوب يترأسها الفريق ركن علي سليمان كنه الذي يعد من أبرز قادة الجيش الليبي خلال مرحلة ما قبل 2011.

ومنذ تأسيس هذه القوات فإنها عملت على إخراج قوات الدروع التابعة لمصراتة من الجنوب، وقد نجحت في السيطرة على قاعدة تمنهتأهم قاعدة عسكرية في الجنوب الليبي. وهذه القوة عبارة عن قوة عسكرية منضبطة لا تزال وحتى الآن تنأى بنفسها عن الصرعات الجهوية والقبلية بالجنوب، مع أنها تنسق تارة مع قوات الكرامة في الشرق.

  • اللواء المجحفل 12، بقيادة محمد بن نائل:

ويعتمد هذا اللواء على شباب المقارحة بمنطقة براك الشاطئ. وقد أعلن هذا اللواء ولاءه للمشير خليفة حفتر.

مذبحة قاعدة براك في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017 التي نفذها صقور الصحراءالتي يقودها أحمد الحسناوي، وهو جهادي يُنسَب لتنظيم القاعدة، وقد راح ضحية تلك المذبحة 141 قتيلًا.

ـ لوحظ تواطؤٌ من قبل القوة الثالثة التابعة لمصراتة، في هذه المجزرة، كما تشير أصابع الاتهام إلى تنسيق بين أحمد الحسناوي وحميد العطائبي قائد اللواء السادس مشاة التابع لأولاد سليمان (كتيبة فارس سابقًا في سبها).

ـ دخول الإمارات الداعمة للمشير خليفة حفتر على خط التسوية في الجنوب، لكسر تفرد قطر بأوراق اللعبة بالجنوب الليبي؛ حيث يبدو أن أبوظبي لا تريد أن يتكرر من جديد اتفاق الدوحة الشهير نوفمبر/تشرين الثاني 2015 الذي أوجد هدنة دائمة بين التبو والطوارق في أوباري برعاية قَطَرية.

ـ هذه العوامل وغيرها، قلصت من سطوة ونفوذ أولاد سليمان الذين باتوا يحسون بخطر حقيقي على تواجدهم في الجنوب، وأن الدائرة تضيق عليهم جرَّاء السخط المتنامي ضدهم من قبل حلفاء الأمس (التبو) أو الأعداء التقليديين، أنصار النظام السابق.

ـ في مطلع أبريل/نيسان 2017، تم إبرام اتفاق مصالحة بين قبيلتي أولاد سليمان والتبو في العاصمة الإيطالية روما، بعد مفاوضات سرية ماراثونية استمرت 72 ساعة، بحضور حوالي 60 من شيوخ قبيلتي التبو وأولاد سليمان، وممثلين عن الطوارق وكذلك ممثل عن حكومة الوفاق الوطني الليبية التي تتخذ من طرابلس مقرًّا، وينص الاتفاق على ضبط حدود البلد الجنوبية حيث يتكثف نشاط مهربي البشر والمهاجرين وأنه سيتم تشكيل قوة من حرس الحدود الليبيين لمراقبة 5000 كلم من الحدود في جنوب ليبيا“.

ومن أهم بنود اتفاق الصلح بين التبو وأولاد سليمان في العاصمة الإيطالية روما:

  • الصلح الشامل والدائم بين الطرفين.

  • تتولى الدولة الإيطالية دفع القيمة المالية لجبر الأضرار بين الطرفين وعلاج الحالات المستعصية“.

  • إخلاء الأماكن العامة والبوابات من كل التشكيلات المسلحة وتسليمها إلى الشرطة من جميع أطياف الجنوب.

  • معاملة الذين سقطوا من الطرفين معاملة متساوية واعتبارهم شهداء.

  • رفع الغطاء الاجتماعي عن المجرمين.

إلا أن هذا الاتفاق لم يصمد لأكثر من أربعة أشهر بسبب تلكؤ إيطاليا وعدم الوفاء بتعهداتها المالية.

أما في الوقت الراهن فإن التبو وأولاد سليمان يتقاسمان مناطق النفوذ والسيطرة في مدينة سبها (عاصمة الجنوب الليبي)؛ حيث يسيطر أولاد سليمان على ثلاثة أحياء أهمها حي المنشية (أكبر أحياء سبها) في وسط المدينة، كما أنهم يبسطون سيطرتهم على شمال المدينة، ويسيطر التبو على حيين، هما: الطيوري والجديد، وعلى غرب المدينة، ويتواجد الطرفان في جنوب المدينة.

أما خارج مدينة سبها فتميل الكفة لصالح التبو؛ حيث ينحصر تواجد أولاد سليمان في بوابة قويرة المالإضافة إلى حقل الشرارة النفطي الواقع على بعد 70 كلم غرب أوباري.

وفي الوقت نفسه تسيطر كتائب التبو على المثلث الجنوبي القريب من الحدود الشمالية للتشاد، (القطرونمرزقأم الأرانب) وواحة زلة بالجفرة.

كما يسيطر التبو على حقل الفيل، الذي تنتشر فيه كتائب من التبو وجزء من كتائب الزنتان الموالين للمشير خليفة حفتر، ومع أن التبو يتقاسمون النفوذ مع أولاد سليمان في مدينة سبها كما رأينا، فإنهم كذلك يتقاسمونه مع الطوارق في مدينة أوباري. 

***

الحسين العلوي باحث وأكاديمي موريتاني

_____________

+

مواد ذات علاقة