بقلم إسماعيل القريتلي

بشكل عام يتوزع الإعلاميون وواجهات الإعلام في ليبيا على أطراف الصراع السياسي والاجتماعي ومشتاقات الصراع من الاقتتال الأهلي، وتتحصل ثمنا لذلك على دعم مشروط، يفرض على كثير من الصحفيين والإعلاميين التبعية للممول المحلي والأجنبي.

أنتجت هذه التبعية خطابا متطرفا في اتجاه دعم الصراع وتبريره وتحويل الواجهات الإعلامية إلى إدارات لدعم الاقتتال والانقسام وتبريره ليس فقط بتأويل الوقائع، وإنما باختلاق الكثير من الوقائع المزورة، بل واستئجار من يخرج كشهود عيان وذلك منذ الأشهر الأولى لأحداث فبراير.

وسوّق الإعلام المصطلحات والأوصاف التي تنزع على الخصوم الشرعية مثل: الثورة المضادة، والإرهاب، والانقلاب، والمنتهية ولايته، وقادت واجهات إعلام كل طرف حملات لإسقاط شرعية الأطراف المقابلة، ولتحقيق ذلك تم استضافة قانونيين ورجال دين منحازين لكل طرف تفننوا في نزع شرعيات خصومهم وتثبيت شرعية من يؤيدون حتى رأينا وقرأنا عبر تلك الواجهات فتاوى دينية وقانونية متناقضة في مخرجاتها رغم بنائها على نفس القواعد الأصولية والقانونية.

الجزء الأول

أولا: توصيف الصراع في ليبيا

في تقديري الصراع الدائر منذ سبع سنوات في ليبيا هو صراع على السلطة في شكلها الموروث عن القذافي، وهي سلطة شديدة المركزية تعتمد على تكديس أغلب الثروة الوطنية (من كل مناطق ليبيا) في حدود العاصمة مقر حكم القذافي، وفي يد جماعات اجتماعية تحيط بالعاصمة توزعت على شكل كتل بشرية نزحت من خارج مدينة طرابلس التاريخية لكنها من إقليم طرابلس، أدت إلى زيادة سكانية غير طبيعية في المدينة بسبب الهجرات من الدواخل حيث تنعدم الفرص.

وهناك أيضا حضور لعائلات من داخل طرابلس وخارجها، من القبائل والقوميات والمناطق ممتدة على مساحة ليبيا، مثلت مع الوقت أعيان متحالفين مع نظام الحكم، وتلتزم أدوارا وظيفية في مناطقها وقومياتها وقبائلها، وإن حدث تغيير لبعض العائلات فذلك لأسباب تتعلق بتغيير الولاء للقذافي.

هكذا كانت صورة السلطة والثروة في عهد الحكم السابق؛ تتمركز وتتركز في طرابلس، وباتت المدينة لأجل ذلك محجا لكل طامح في النفوذ والمال.

الفبرايريون من ساكنة طرابلس المدينة (ليس بالضرورة أن أصولهم طرابلسية) ومعهم ساكنة إقليم طرابلس أرادوا الحفاظ على كل السلطة والثروة التي ورثوها عن نظام سبتمبر.

الآن يستمر الصراع على السلطة بين ساكنة طرابلس فيما بينهم من جهة مثل الصراع بين المجموعات المسلحة الطرابلسية، ومع بقية سكان إقليم طرابلس من جهة ثانية مثل الصراع بين طرابلس المدينة ومصراتة، وبين طرابلس والزنتان، وهذا الصراع الطرابلسي البيني يؤثر في التحالفات بين قوى الإقليم السياسية والمالية والاجتماعية والمسلحة.

وهناك صراع مع إقليم برقة من جهة ثالثة، تتركز أسبابه في طبيعة نظام الحكم وعلاقة طرابلس مع بقية الأقاليم من جهة السلطة والموارد. وقد استخدمت وتستخدم في هذا الصراع الواجهات الإعلامية بأنواعها، من خلال ترويج للصراع والانقسام تحت عناوين دينية ووطنية وأخلاقية.

النتيجة الأخطر عن هذا الصراع والانقسام هو تحلل الدولة (الدولة ليست هي السلطة؛ فالسلطة من مكونات الدولة إلى جانب الشعب والأرض)، إذ تتعرض الدولة في ليبيا إلى تفكيك على مستوى مكونات السلطة الثلاثة بسبب الانقسام في مؤسسات وهيئات الحكم، وتفسخ العلاقات بين مكونات شعبها

فرأينا الصراعات المناطقية، والجهوية، والقبلية، والعرقية (ربما يمكن تحليل ذلك بنظرية الصراع الاجتماعي)، ولعدم تفرد الحكومة (بعض النظر عن طبيعتها القانونية والسياسية) بأدوات الأمن والعنف حتى باتت بعض مناطق ليبيا تخضع لسيطرة قوات أجنبية؛

خاصة بعض الجماعات الإرهابية، ونفوذ غربي وعربي كبير، ناهيك عن فقدان أي حكومة للسيطرة على كل أنواع المنافذ في ليبيا، إضافة إلى ارتباط غالبية المجموعات المسلحة والأحزاب السياسية والأعيان بقوى خارجية تخضع لها بسبب الدعم والتمويل، وللعلم ليس فقط قوى إقليمية من يؤثر على تلك المجموعات المسلحة والأحزاب والأعيان بل كثير منها يرتبط بعلاقات سيادية (الارتباطات الأمنية والعسكرية) مع قوى غربية بعيدا عن أي خضوع لأي سلطة في ليبيا.

المفارقة تكمن في انتهاج وسائل الإعلام أسلوب كشف (غير مدقق في أغلبه) لعلاقات المجموعات المسلحة والأحزاب والأعيان المعادية للممول والطرف السياسي، في حين تبرر للآخرين الذين تنتمي إليهم وتتلقى التمويل منهم، من خلال استخدام عشرات الأوصاف المتناقضة مثل، ثوار، عملاء. ثورة مضادة، ثورة، إرهاب، انقلاب، شهداء، خوارج، انفصاليون، أزلام وغيرها كثير.

ثانيا: الوظيفة الأخلاقية

أمام هذا التعقيد في المشهد، وتأثير الصراعات الراهنة على مكونات الدولة (الشعب والأرض والسلطة) يصبح من المهم أن تتحدد للإعلام وظيفة أخلاقية، أساسها الالتزام أمام الناس العاديين (الرأي العام)، وفك كل ارتباط بالقوى المتصارعة سواء كانت ليبية أو أجنبية، وتركيز دورها الأخلاقي في نقل الوقائع بتدقيق موسع في تثبيت حدوثها وتطبيق معادلة المصادر المتطابقة، وإعادة تعريف المصادر بموضوعية.

فمثلا في الأزمات والحروب لا ننقل إدعاءات الأطراف ضد بعضها على أنها حقائق ووقائع، وكذلك تعريف دقيق للضيوف وأصحاب التصريحات والأراء، فمن هو المحلل السياسي والخبير ومن هو الطرف المؤيد، حتى لو ظهر بثوب المثقف.

ثالثا: وظيفة نقل الحقائق

نقل الوقائع ينفذ من خلال تدقيق حدوث الواقعة، وتوثيقها بعد ذلك بصياغة أخلاقية غير مشوهة بالتأويلات والتهويلات والتهوينات والمصطلحات غير الموضوعية كالتي ذكرناها في الأعلى، وهذه العملية التدقيق والتوثيق تتحقق بتفحص مصادر الأخيار وتدقيق ما تصرح بها وتفكيك أغراضها عن الوقائع، ومقارنة ما عندها بما تذكرها مصادر أخرى، وحصر حدود كل مصدر في النقل عنه مثل التخصص والطرفية، والتنبه لانتماءات المراسلين والصحفيين، واستخدام المنطق في تحليل صدقية المعلومات، والتحرز من المصادر الوسيطة.

الالتزام بكل ذلك يعني حماية وعي الناس العاديين من تشويه وتشويش وعيهم، فليس في قاموس الإعلام المستقل مفردات التوجيه والتأثير على الناس العاديين، بل تقديم الوقائع (الحقائق) أمامهم خالية من أي تدخل بالتفسير والتهويل والتهوين والمصطلحات والصفات ليتخذوا بعد ذلك مواقفهم وقراراتهم في الشأن العام والسياسات العامة.

***

اسماعيل القريتلي ـ إعلامي وكاتب ليبي

____________

مواد ذات علاقة