بقلم علي جبريل

السابع من أبريل 1983 .. بورتلاند ولاية اوريغون.. وصلت ليلا الى هذه المدينة لقضاء يومين فيها خلال عطلة الربيع .. فتح باب الشقة التي كان يقطنها ابن عمي فايز جبريل ورفيقه محمد بالروين .. استقبلني ابن العم بالترحيب ..عدد من الشباب كانوا جالسين ..الوجوم مرسوم على الوجوه ..كيف الاحوال؟ ..

ما سمعتش؟ سمعت ماذا؟ اليوم اعدموا طالب في ساحة كلية الهندسة في طرابلس واربعة مدرسين في اجدابيا امام التلاميذ ! اجابني محمد بالروين غير معقول .. هذا لا يصدق!.. لا بل صدق اجابني فايز !…الطالب اسمه محمد مهذب حفاف اعتقل سنة 1973 بتهمة الانتماء لحزب التحرير الأسلامي.. برأته المحكمة واعيد الى السجن واليوم اخرجوه من السجن وشنق في كليته…

إنها اعادة انتاج 7 ابريل 1976 .. الآن طقوس الاحتفال تطلبت القيام بتصفية الخصوم من طلبة العلم والمعلمين في حرم الجامعات انتهى مفهوم حرم الجامعة عمليا مع اول طلقة من مسدس عبد السلام اجلود في جامعة طرابلس في 7 ابريل 1976 ..

***

في 7 ابريل 1976 كنت في السنة الثالثة ثانوي في مدرسة على النجار بطرابلس ولم يتبقى سوى اسابيع قلائل لدخول الامتحانات والتي بعد اجتيازها سيتحقق الحلم حلم الدخول الى كلية الهندسة او العلوم – … في ذلك اليوم فوجئنا وقت الاستراحة بتجمع اعداد من طلبة الجامعة امام باب المدرسة يطلبون الدخول وهم في حالة خوف وهلع .. لم يوافق كلا من المشرف وحارس البوابة على ادخالهم فتجمعنا حولهما وطلبنا ان يفتح لهم الباب علت أصوات الطلبة فاذا بمدير المدرسة الشيخ عمر الباروني رحمه الله يتقدم نحونا

وعندما كان يظهر الاستاذ عمر في أي مكان يتسمّر كل انسان في مكانه ويقف الزمن هيبة له .. شنو فيه يا مصراتي؟ خاطب الشيخ عمر مشرف المدرسة .. كان طلبة الجامعة يشرحون للاستاذ عمر ماذا حدث في الجامعة وماذا حدث في البيت الداخلي على أيدي جماعة القذافي وأنهم هربوا منهم وسيلحقونهم .. إفتح الباب يا مصراتي خليهم يخشوا .. وانتم محدش يطلع من المدرسة الى ساعة الأنصراف المرواحوتخرجوا مع الطلبة … تحدثنا مع الطلبة المرعوبين عن ما يحدث في الجامعة ..

أحسست بالصدمة وبخيبة امل كبيرة.. بل بالخيانة.. أى أن هناك من خان حلمنا… هل ساكون يوما ما مرعوبا مثلهم داخل الكلية الحلم كلية الهندسة؟ ..

***

بعد عودتي الي بلدة كورفالس بيومين دعاني الدكتور عبد المجيد بيوك الى العشاء وقال: مجدي الشويهدي موجود في كورفالس حضر اليوم من مدينة سياتل ومعه صلاح التوناللي ولازم اتجي نستنوا فيك … في شقة الدكتور عبد المجيد كانت جربمة شنق احفاف في كلية الهندسة والمدرسين في اجدابيا محور الحديث .. توجه مجدي بالحديث الي وقال : يا علي نحن في اتحاد الطلبة (اتحاد الطلبة المعارض) نريد ان نطبع بوستر ملصقبهذه المناسبة (7 ابريل) الذي يمثل اعتداء القذافي على العلم والتعليم ومؤسساته وما يمثله هذا الاعتداء من تخريب خطر يطال عمق المجتمع والدولة ومستقبل اجيال !

في الواقع كنت أحاول أن أفعل شئ أعبر به عن غضبي تجاه هذه الجريمة ولم اعرف كيف … جاء طلب مجدي في وقته قلت : خلاص بعد يومين سوف احاول رسم الملصق لاني أحتاج الى وقت كي أكون فكرة التصميم ووو… قال: يومين شنو؟ انا بكرة راجع الصبح لسياتل وبعدها سوف أغادر امريكا خلال اسبوع ومش ماشي الا والملصق معايا .. وافق الدكتور عبد المجيد على كلامه وقال: عندك نص ساعة تجيب بضاعتك وتجي وتبدأ تشتغل ماعندكش كيف …

احضرت علبة الوان مائية من شقتي القريبة واشتريت اوراق رسم من محل قريب .. جلست أحاول الرسم… وحولى مجدي وصلاح و دكتور عبد المجيد والسيدة ام هيتم حرمه تتردد علينا بالشاي وتبعاته وتسال عن تطور مشروع البوستر” … لم تأت فكرة مناسبة….. قمنا لصلاة العشاء فأم بنا مجدي الصلاة ..خلال الصلاة قرأ قوله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ” …

بعد الصلاة كانت الفكرة تتحول سريعا الى الوان واشكال على ورقة الرسم .… الكتاب الأخضر رمز الزيف الفكري والتجهيل كفأس بيد السلطة القوية المتمركزة في أعلى المشهد والملطخة بالدماء تهوي به على مؤسسات العلم والتعليم يمثلها لوح الكتّابوهو لوح الخشب الذي كان قديما يتعلم فيه وبه الأطفال في بلادي أول دروس العلمفي الكتاتيب وتلامس أناملهم الصغيرة على صفحته أولى ملامح المعرفة.. وعلى اللوح مكتوب قوله تعالىرب زدني علما“…

 وفي الخلفية المظلمة يتدلى شهداء المؤسسات التعليمية من مشانقهم .. شهداء 7 ابريل .. وفي الخلف تبدو عن بعد تباشير فجر قادم … في ساعة متأخرة من الليل انتهى البوستركما كان يأمل مجدي وانتهى به المطاف كغلاف لمجلة الانقاذ (العدد 4 و5) والذي فيه نشر نعي للملك ادريس رحمه الله الذي اعطى للتعليم ما اعطى ووطن مؤسساته ورعاها كي تؤتي اكلها بأذن ربها !

***

خلال كتابة هذا الادراج طالعتني اخبار فاجعة العثور على رفات أطفال الشرشاري المخطوفين منذ زمن والذين لم تتسنى لأناملهم الصغيرة ملامسة كتبهم المدرسية بسبب جشع واجرام وحوش بشرية

***

كانت هذه اخر مرة يزورنا فيها الشهيد مجدي الشويهدي رحمه الله

_________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة