بقلم علي أبوزيد

في الحالة الليبية المتأزمة يدرك الجميع أن مختلف أطراف النزاع لا يستطيع أيٌّ منها حسم الوضع لصالحه لا سياسياً ولا عسكرياً، وأنه لا مناص للخروج من هذه الأزمة إلا بالحوار المفضي إلى توافقات مبنية على تنازلات من مختلف الأطراف، وأن المضيّ في نهج التصعيد والعرقلة، والإصرار على مسلك إلغاء الآخر وإقصائه لن يزيد إلا من تفاقم الأزمة وطول أمدها.

هذا الواقع كان ولازال يستلزم خطاباً عاقلاً وموضوعياً تطرحه مختلف الأطراف المتنازعة يتعاطى مع هذه الأزمة من منطلق التهدئة، ويناقش عراقيلها وتحدياتها، ويطرح فيها كل طرف رؤيته وتصوره مدافعاً عنها بكل موضوعية ومحاولاً تحشيد الرأي العام حولها، وبمثل هذا الخطاب يتشكل الوعي السياسي وترتقي الممارسة السياسية إلى المستوى المثمر والمنتج لحالة الاستقرار والديمومة.

هذا ما يستلزمه الواقع السياسي من خطاب للخروج من الأزمة، إلا أن كثيراً ممن يمثل بخطابه تيارات التأزيم والعرقلة ممن لا يستطيعون العيش في مناخات الاستقرار السياسي لابدّ لهم من استدعاء خيالهم السياسي المرتكز على نظرية المؤامرة والمتشبع بالأكاذيب الفاجرة التي يطلقونها دون زمام أو خطام ليرسموا بها مشهداً سمجاً ومبتذلاً من المؤامرات المتخيلة التي يحوكها خصومهم السياسيون خلف الأبواب المغلقة،

ولا يفوتهم أن يصوروا هؤلاء الخصوم آلهة للشر تستحلي عذابات الناس وتتلذذ بالتنكيل بهم مستمتعاً بهدم الدول وإشقاء الشعوب وهي توسع إمبراطورية الشر (هكذا يصور خطابهم خصومهم)،

ثم إنّ هؤلاء لا يكتفون بهذا السقوط الأخلاقي في الخطاب، بل يزدادون إمعاناً في الفجور واستهزاءً بعقول الناس فيبدؤون في تحليل تخيلاتهم وخرافاتهم، مستعينين بموهبتهم الفذّة في التدليس والكذب ليجتزئوا من الوقائع والأحداث ما يكون شاهد زور على كذبهم وإرجافهم،

بل إن خطاب تيار التأزيم والعرقلة لا يتوانى في الجزم بنوايا خصومه السياسيين وأنهم عقدوها على الانقلاب على العملية السياسية والنكث بالعهود والمواثيق،

مع أن التاريخ لا يذكر في صفحات الانقلاب إلا العسكر بحاشيته من المنافقين والمداهنين ممن دمروا الدول وحطموا المؤسسات وأنهكوا الشعوب.

إن هذا الخطاب الجامح في خيال المؤامرة وأراجيفها يصرّ على خلق حالةٍ من التصعيد مع خصومه السياسيين ولا يمكن له أن يشكل تياراً يساهم في بناء الدولة فضلاً عن يبنيها بنفسه،

إذ أن الدول لا تبنى بتيارات الإقصاء والإلغاء، إنما تبنى بإرساء مبادئ التنافس والتدافع السياسي في أُطُره الدستورية والقانونية، وكيف لربيب أنظمة الاستبداد وخِدن الفساد أن يساهم لسانه وقلمه في بناء دولة؟!

إن استدعاء خيالات المؤامرة في نقد مواقف الخصوم السياسيين والتكهن الجازم بنواياهم فضلاً عن كونه تجرّداً مستقبحاً عن الموضوعية يبرز سوأة تيارات التأزيم والعرقلة ومدى إفلاسها من أدوات الممارسة السياسية القويمة،

فإنه يؤكد أيضاً على أنّ هذه التيارات لا يمكن أن تعيش إلا في المناخات الملوثة بانبعاثات الأزمات والتوترات، لذلك فلابد أن يكون خطابها قائماً على مثل هذه الأباطيل التي تستديم الأزمة تهدم أي محاولة انفراج سياسي.

وغير مستغرب من أرباب هذا الخطاب تأييدهم أو ملاينتهم لمشروع العسكرة والاستبداد، فما هم إلا صنعتُه وتيوسُه المحلّلون، يختلقون له المبررات ويطلونه بأصباغ الوطنية الباهتة، وينسبون له أوهام الانتصارات، ثم هم بعد تمكّن العسكر بين مبعَدٍ مهان، ولاعقٍ لأحذيتهم جبان.

إن فضح هذا الخطاب لا يكون إلا بالاستمرار في نهج سبيل الموضوعية والعقلانية في التعامل مع الواقع السياسي، والتعويل على وعي الناس ورصد خطاب هذا التيار وكشف زيفه وزوره، وهذا أمر يحتاج تكاثف النخب الواعية والحريصة على المصلحة الوطنية والمؤمنة فعلاً بالتعددية السياسية غير المتشبعة بزيف الشعارات وأوهامها.

***

علي أبوزيد ـ كاتب ليبي

____________

مواد ذات علاقة