بقلم أحمد علي أبو مهارة

أثبتت التجارب أن الخيار الأمثل لإنهاء الصراع على السلطة هو الخيار الديمقراطي الذي يقوم على إشراك المواطنين في اتخاذ القرار على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتبارهم مصدرًا للسلطة والمشروعية،

وذلك إما بشكل مباشر عن طريق إشراكهم في استفتاءات عامة حيال أمر من الأمور المهمة التي تستلزم أخذ رأيهم فيها، وإما بشكل شبه مباشر عن طريق إتاحة الفرصة لهم لاختيار ممثليهم في انتخابات حرة ونزيهة، وبالنيابة عنهم يمارسون هذه السلطة.

وكلا الشكلين يستلزمان درجة عالية من الوعي، وإعلاء ثقافة المواطنة الواحدة المتساوية القائمة على الولاء للوطن، وليس لحزب أو شخص أو طائفة، وقدرة الحكام على الحكم وتقديم مصلحة الوطن العامة على المصالح الشخصية الضيقة.

كان انتهاج الخيار التوافقي لتقاسم السلطة بين أطراف سياسية محدودة الذي اتخذته بعض الدول كوسيلة لحل خلافاتها بداية لصياغة المأساة التي ظلت تعاني منها حتى الآن، وتجربة الدولة اللبنانية التي نعرض لها خير مثال للدولة التي انتهجت وفاقًا مخدوعًا لصياغة مستقبلها ما لبث أن قوضته الحروب والصراعات الدموية.

المأزق التوافقي اللبناني

تأسست الجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال بوثيقتين، الأولى الدستور والثانية اتفاق بين رجلين، رئيس الحكومة رياض الصلح ورئيس الجمهورية بشارة الخوري، أطلق عليه الميثاق الوطني سنة 1943، أكد هذا الميثاق صيغة المشاركة في السلطة بين الطوائف اللبنانية، وثبَت قاعدة التمثيل السياسي والإداري في الدولة على الأساس الطائفي، وكرس التوزيع الطائفي للمناصب الأولى في الدولة، بحيث يكون رئيس الجمهورية مارونيًا ورئيس الوزراء مسلمًا سنيًا ورئيس مجلس النواب مسلمًا شيعيًا، ويفترض هذا الميثاق كما عبر عنه البيان الوزاري لرياض الصلح أن الحكم في لبنان شراكة بين جناحي البلد المسلم والمسيحي.

هذا الاتفاق لم يكن وليد الإرادة الجماعية اللبنانية، فهو لا يحمل من إرادتهم إلا التعبير الذي أطلقه عليه صائغوه مجازًا (الوطني)! وذلك حتى يسبغوه ثوب المشروعية عن طريق التضليل والخداع، فالاتفاق عمق الخلاف بين الطوائف المكونة للمجتمع اللبناني الواحد، إذ القسم الأكبر من النزاعات الدموية التي شهدها لبنان كانت بسبب التوزيع الطائفي للسلطة الذي أنتجه هذا الاتفاق وحرم آخرين منها.

وهذا ما حذر منه واضعه رياض الصلح في أول بيان وزاري له، حيث أدان هذه الصيغة الطائفية التي جاء بها الاتفاق وأظهر مساوئها وآثار هذه المساوئ على سمعة لبنان وعلى تسميم العلاقات بين الجماعات الروحية أي الطوائف فيه وتقييدها التقدم الوطني وكونها أداة لكفالة المنافع الخاصة وإيهان الحياة الوطنية إيهانًا يستفيد منه الأغيار، معتبرًا أن ساعة إلغاء الطائفية ستكون ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان.

كان أول ما دق في نعش الاتفاق ما أقدمت عليه المعارضة اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط عام 1950، حين أعلنت تشكيل الجبهة الوطنية الاشتراكية، مطالبة الرئيس اللبناني بشارة الخوري بإصلاحات اقتصادية وسياسية، تأتي في مقدمتها إلغاء الحصص الطوائفية وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية أو الاستقالة.

 رفض الرئيس الانصياع للمطالب، ورفض مذكرة مقدمة إليه من النواب تطالبه بالاستقالة، ومع استمرار الإضراب السياسي العام الذي مارسته قوى المعارضة ما كان منه إلا أن استقال عام 1952.

لم يسعف هذا الاتفاق لبنان، ولا حلَ مختنقاته السياسية، فبعد تنحي الرئيس بشارة الخوري وتولي خلفه كميل شمعون الرئاسة حتى بدت مظاهر الازدهار الاقتصادي تظهر في الدولة، سرعان ما نمت معها الفوارق الطائفية والمناطقية، واعتمد شمعون في تدعيم سلطته على أبناء طائفته المارونة، ومع اعتزامه تجديد فترة ولايته التي يصفها المراقبون بأنها فترة تفشي الفساد والتسلطية السياسية، حتى انفجرت ثورة 1958 تقودها المعارضة اللبنانية.

أدت هذه الثورة إلى قتال عنيف في الشوارع وتدخلت القوات الأمريكية (المارينز) وفرضت تسوية تحت فوهة المدفع تقضي بعزل الرئيس شمعون وتعيين قائد الجيش فؤاد شهاب خلفًا له، عين شهاب رشيد كرامي رئيسًا للحكومة، وشكل هذا الأخير حكومة لم تلق توافقًا فجرت الوضع مرة أخرى في لبنان، فما كان منه إلا نهج سبيل التهدئة عبر الحقن الطائفية المسكنة التي نص عليها اتفاق 1943، وشكل حكومة محاصصة بين المسلمين والمسيحيين وعقد مصالحة تحت شعار (لا غالب ولا مغلوب).

الميثاق الوطني لم يكن معبرًا عن إرادة اللبنانيين لرفضهم له، لا سيما المسلمين الذين طالبوا بإلغاء الطائفية والامتيازات وإجراء الإصلاحات، ولمخالفته الدستور اللبناني والنظام البرلماني وعدم إقراره وفقًا للأصول المتبعة، ولأن من وافقوا عليه لا يملكون حق فرضه على اللبنانيين لعدم استفتائهم عليه، والاستفتاء كتعبير عن الإرادة الوطنية هو الضمانة الوحيدة لاستقرار لبنان واستمراره“.

الحرب الأهلية اللبنانية واتفاق الطائف

الحرب الأهلية اللبنانية كانت نتاجًا لدوامة الصراع بين القطبين المتناحرين على السلطة منذ أن نال لبنان استقلاله، حزب الكتائب بقيادة بيار الجميل من جهة، وكمال جنبلاط وأحزاب الحركة الوطنية من جهة أخرى (اليسار)، كل منهما يحاول فرض سياسته ومانعًا مشاركة الآخر.

مع تزايد الأعمال القتالية على الأرض اللبنانية خلال الحرب، دعت الحركة الوطنية ما أسمته (البرنامج الانتقالي للإصلاح الديمقراطي للنظام اللبناني) ومن أبرز بنوده إلغاء نظام المحاصصة الطائفية السياسية والإدارية، وقانون انتخاب جديد يقوم على النسبية وعلى لبنان دائرة انتخابية واحدة، وعقد جمعية تأسيسية خارج إطار الطائفية لإعادة النظر في اتفاق 1943، وهو ما كان قد دعا إليه صائب سلام رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق.

لم يلق هذا البرنامج قبولاً لدى الطرف الآخر، معتبرين أن الأسبقية التي تتمتع بها الطائفة المارونية الضمانة الوحيدة التي تملكها الأقلية في مواجهة الأكثرية، ورفضوا اللجوء إلى الاستفتاء حول إلغاء الطائفية السياسية.

رفضت جميع المحاولات الإصلاحية لتعديل الوضع السياسي القائم في لبنان، وفشلت كل الحوارات خارج قبة البرلمان بين الأقطاب السياسية  المتصارعة، واستمر القتال خمسة عشرة عامًا أدى إلى مقتل آلاف  اللبنانيين وتشريد الملايين منهم.

وضعت الحرب الأهلية اللبنانية مسارات نهايتها باتفاق الطائف عام 1989 الذي لم ينتج عنه حلاً للأزمة السياسية اللبنانية، وإنما أنتج نظامًا طائفيًا جديدًا ومحاصصة جديدة، وهذه المرة تحت إشراف الدول التي ساهمت في اتفاق الطائف (السعودية وسوريا)، وذلك حتى تعيد تموضعها في لبنان بافتعال الفتن الطائفية وتقوية طرف على طرف كلما دعت مصالحها ذلك.  

لبنان الذي اختزله السياسيين في حروبهم المدمرة واتفاقاتهم التي صيغت لنيل مصالحهم الضيقة، بحيث أصبح كما عبر عنه الخبير الدستوري اللبناني أنطوان مسرة بأنه وردة أقحوانية اقتلعت كل فئة منها ورقة ولم تهتم بالوردة ككل، يعود هذا العام ليشارك شعبه في انتخابات برلمانية عبر عنها أحد المواطنين اللبنانيين بقوله: “من الجيد أن نشعر بأننا مشاركون في صنع القرار في لبنان ونشعر أن بإمكاننا إحداث الفرق، فهل سيكون بإمكان اللبنانيين صناعة الفرق وإخراج لبنان من براثن اتفاقات المحاصصة السياسية الطائفية؟

الوضع في ليبيا

تتشابه الحالة الليبية مع الحالة اللبنانية في علاَتها؛ حرب أهلية نتج عنها انقسام سياسي تتقاسم السلطة فيه حكومتين وبرلمانين، في شرق البلاد مجلس النواب والحكومة المؤقتة، وفي غرب البلاد حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني العام، هذا الانقسام جاء على خلفية الانتخابات التي أجريت في يونيو 2014 التي أنتجت جسمًا تشريعيًا جديدًا (مجلس النواب) ليكون خلفًا للمؤتمر الوطني العام.

تزامنت هذه الانتخابات مع انطلاق عمليتين عسكريتين إحداها قام بها اللواء خليفة حفتر في شرق البلاد، والثانية في غرب البلاد قامت بها قوات فجر ليبيا العسكرية في العاصمة طرابلس، فيما بقي الجنوب الليبي ساحة لصراع عسكري بين هاتين القوتين، وتتنازعه شرعية الحكومتين والبرلمانين.

أطلقت الأمم المتحدة حوارًا سياسيًا بين الأطراف المتصارعة عرضت فيه العديد من المقترحات لمحاولة كسر حالة الانقسام السياسي بعدما تقينت كل الأطراف بأن الحسم العسكري ومحاولة انتزاع السلطة بالقوة أمر مستحيل، ليكون ختام هذه الحوارات توقيع الأطراف في 17 من ديسمبر 2015 الاتفاق السياسي.

لم يكن اجتماع الخصوم لرفع المعاناة عن الشعب الليبي كما جاء في مقدمة الاتفاق، ولم يهدفوا إلى توحيد مؤسسات الدولة المنقسمة على نفسها التي كانت الأساس فيما وصلت إليه الحالة الليبية، ولم تكن مصلحة ليبيا فوق المصلحة الذاتية، فاجتماع الخصوم كان لقسمة السلطة، وهو ما ضمنه لهم بنود الاتفاق، حيث ضمن الاتفاق لموقعيه حصة من السلطة في ليبيا، وأرجعهم إلى حالة الصراع الأولى، فالمؤتمر الوطني العام الذي ينازع أعضائه في شرعية مجلس النواب، عاد تحت مسمى جديد (المجلس الأعلى للدولة) ومنحهم الاتفاق دورًا استشاريًا، فيما مُنح لمجلس النواب دور السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد.

صراع المجلسين مرة أخرى أدى إلى تقافز كلا منهما على صلاحيات الآخر، وشطر المصرف المركزي إلى مؤسستين ومحافظين يتنازعان الشرعية، وامتنع مجلس النواب عن منح الثقة للحكومة المنبثقة عن هذا الاتفاق، فيما فشلت محاولات توحيد الجيش الليبي والمؤسسات الأمنية على إثر إحكام اللواء خليفة حفتر الرافض لمخرجات الاتفاق قبضته العسكرية على أغلب مدن الشرق الليبي، وبقيت أغلب مدن الغرب الليبي تحت سيطرة المجلس الرئاسي، أضف إلى ذلك استمرار العمليات العسكرية بين الفريقين التي شهدتها العاصمة طرابلس والموانئ النفطية والجنوب الليبي.

إن فشل المحاولة الأخيرة التي قام بها المبعوث الأممي غسان سلامة لتعديل الاتفاق السياسي تثبت بأن هذا الاتفاق لم يكن مجديًا من الأساس لحل الأزمة الليبية، وإنتاجه لم يكن سوى خدعة أرادت به قوى محلية مدعومة من قوى إقليمية كسب انتصار سياسي يضمن بقائها فترة أطول لتستثمر في إطالة أمد الأزمة، فكيف يتفق طرفان ثم يرجعوا ليعدَلوا في اتفاقهم ولم تمض سنتان على توقيعهمألم يتفقوا بداية من أجل الوطن هكذا قالوا لنا فهل تغير الوطن ليعدلوا اتفاقهم على أساس هذا التغيير؟

إن الواقع الخادع الذي يفرض نفسه على الحالة الليبية المتمثل في عقد لقاءات بين المتخاصمين وإجراء حوارات بينهم، وما آخرها الذي يجهز له تحت مسمى (المؤتمر الوطني الجامع)، ما هو إلا محاولات نتائجها لن تكون بأفضل من نتيجة الاتفاق السياسي الليبي، فإرادة هذا الشعب من غير الجائز مصادرتها واختزالها في مجموعات سمت نفسها بالقوى الفاعلة على الأرض (شيوخ قبائل وقادة مؤسسات مجتمع مدني وقادة مليشيات مسلحة وممثلين عن الشباب وممثلين عن المرأة وغيرها)، هذه الاختيارات خاطئة وغير ديمقراطية، تختزل القرار في يد قلة قليلة من المواطنين، وتترك لهم حرية التقرير عن هذا الشعب، وهم غير مخولين من قبله لتقرير مصيره.

خيار الشعب الليبي يقف بين طريقين 

إما المضي نحو الاستفتاء، بعرض مشروع الدستور على الشعب لإبداء رأيه فيه وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وفقًا لما اقترحته نصوصه إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنعم، أو إرجاعه إلى الهيئة لتعديله وطرحه من جديد للاستفتاء خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يومًا كما جاء في الإعلان الدستوري إذا كانت نتيجة الاستفتاء بلا، وخلال هذه المرحلة تظل الأجسام المنبثقة عن الاتفاق السياسي تدير المرحلة الانتقالية وتشرف على الاستفتاء إلى حين انتخاب سلطات دستورية.

ورغم الانتقادات العديدة الموجهة إلى هذا المشروع إلا أن قرار الشعب هو الفيصل في حسم مسألة الخلاف بشأنه، لكن هذا الخيار تنقصه الإجابة عن السؤال الذي لم يرد توضيحه في الإعلان الدستوري عن مصير هذا المشروع إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بلا بعد تعديله من الهيئة وإعادته من جديد للاستفتاء عليه؟ يستحيل في هذه الحالة انتظار مشروع دستور آخر، واستمرار الأجسام المنبثقة عن الاتفاق في إدارة البلاد، لدى يكون الخيار انتهاج الطريق الثاني، وهو الذهاب إلى الانتخابات.

هذه الانتخابات يمكن اعتبارها حلاً مؤقتًا للأزمة الليبية، ولا تعد حلاً جذريًا لها، فالهدف منها إنهاء حالة الانقسام السياسي بتوحيد السلطات داخل الدولة، وفي المقابل تظل احتمالية فشل هذه الانتخابات في نقل الدولة من حالة المؤقت والانتقالي إلى حالة الاستقرار والدوام قائمة، نظرًا لأن هذه الانتخابات ستجرى من غير دستور يحدد مدة فترة الولاية للسلطات الناتجة عنها ما يؤدي إلى خطر تمديد السلطات لنفسها، واستمرار الوضع الانتقالي تبعًا لذلك.

كلا الخيارين مطروحين على الساحة الآن وكلاهما سيضمن مشاركة الشعب، ولكن يظل خيار الاستفتاء على الدستور الصادر مؤخرًا عن الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور هو الأنسب، لأنه سيضمن انتخاب سلطات دائمة ومستقرة وإنهاء المراحل الانتقالية، وكل ذلك في حالة التصويت عليه بنعم، لذلك من الأنسب تسبيقه على أي خيار آخر.

***

أحمد علي أبو مهارة ـ كاتب ومدون

___________

مواد ذات علاقة