بقلم رشيد خشانة

بعد ساعات من نهاية مؤتمر باريس حول ليبيا كان فرج عبان عمدة بلدية جنزور في ضواحي العاصمة طرابلس، يُعطي إشارة الانطلاق لترميم وتجديد ثلاث مدارس في منطقة البلدية، في إطار خطة لتجديد جميع المدارس لاحقا في طرابلس الكبرى.

ومثل هذه الخطوة الرمزية يعكس شعورا بدأ ينتشر بين سكان العاصمة بأن الحرب باتت خلفهم.

كما أن الوكالات التابعة للأمم المتحدة تمول حاليا برامج لإصلاح البنية الأساسية المدمرة في مدن أخرى عدة، بدءا من إصلاح مضخات المياه إلى تجديد سيارات الإسعاف.

وتقود حكومة الوفاق المعترف بها دوليا خطة تشارك في تمويلها دول تحت راية صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وتشمل تهيئة المدارس في البلديات الثلاث عشرة التي تضمها طرابلس.
ويبدو هذا المسار متناغما مع التفاؤل الذي أعقب مؤتمر باريس، والذي وضع خارطة طريق يُفترض أن تُتوج بانتخابات عامة في العاشر من ديسمبر/كانون الأول المقبل.

غير أن المناخات الليبية – الليبية قبل باريس وبعدها، لا تُطمئن بأن الأمور تسير نحو تسوية سياسية تنبني على إعلان باريس. وكان واضحا أن جهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتقريب المسافة بين أربع شخصيات اعتبرها مفتاحية في الأزمة، لم ترفع العقبات من طريق التحاور، إذ لم يتم أي لقاء ثنائي أو رباعي بين الشخصيات الأربع، فضلا عن رفضها القاطع التوقيع على الإعلان.

طقس مشحون بالسحب

صحيح أن اللجنة العليا للانتخابات هي المسؤول الأول عن تهيئة الظروف لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية طبقا لما تضمنه اتفاق الصخيرات (2015). لكن المسار الانتخابي ليس عملية قانونية وفنية حسب، وإنما يتوقف على مدى صفاء الطقس السياسي، والطقسُ الحالي مشحون بالعنف والصراع، بدليل الحرب المستعرة في مدينة درنة (شرق)، التي هي تعبير عن عمق الانقسام بين الفريقين المشاركين في مؤتمر باريس.

مع ذلك يعتقد الموفد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة أن التبكير بإجراء الانتخابات هو الدواء لكل داء، وهو ما قاله بصوت مرتفع في إحاطته أمام مجلس الأمن في جلسة 21 مايو (أيار) الماضي. أكثر من ذلك هو يعتقد أن صعوبة الأوضاع المعيشية للمواطنين لم تُضعف من رغبتهم بالمشاركة في الانتخابات، لأنهم ملوا من العنف والاحتراب، ولا يطلبون سوى تكريس السلام الأهلي.

ويمكن اعتبار الوضع المتفجر في مدينة درنة حاليا، بعد أشهر من الحصار الذي يضربه الجيش بقيادة خليفة حفتر على المدينة، مؤشرا واضحا على أن مؤتمر باريس لم يُخفف من العداوة المستحكمة بين القيادات الليبية، وإن على حساب السكان المدنيين.

وحذرت تقارير صدرت أخيرا عن منظمات أممية عدة، بينها منظمة يونيسف ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، من وجود نقص حاد في المياه والطعام والدواء. وأفادت بأن الكهرباء والمياه مقطوعة بالكامل عن سكان درنة، الذين يُقدر عددهم بأكثر من 130 ألف ساكن.

ثلاث خطوات ضرورية

بهذه الخلفية يسعى سلامة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية، التي طالت أكثر من اللزوم، بواسطة اللجوء إلى صناديق الاقتراع، في أفق 10 ديسمبر /كانون الأول المقبل.

ولا يمكن تصوُر سيناريو الانتخابات من دون الإقدام على ثلاث خطوات أساسية، أولاها كف أيادي الفاسدين الذين ينهبون المال العام، ومن ضمنهم أمراء الجماعات المسلحة، بمن فيهم تلك التي تحرس حكومة الوفاق الوطني. وباتت اليوم لتلك الكيانات سلطة ملحوظة على القرارين السياسي والاقتصادي، ما يجعل تطويق نفوذها صعبا ومحفوفا بالمخاطر لمن يُقدم عليه.

أما الخطوة الثانية فهي معاودة توحيد المصرف المركزي، الذي يشبه بقرة أنهكت ضرعها كثرةُ الاستحلاب. والمصرف المركزي هو العمود الفقري للاقتصاد الليبي القائم على ريع تصدير المحروقات، إذ لم يتم تطوير القطاعين الصناعي والزراعي في عهد القذافي، والذي استمر في الحكم 42 عاما.

والخطوة الضرورية الثالثة تتمثل في تسوية أوضاع المُهجرين داخل البلد، الذين فروا من ويلات الحرب الأهلية في 2011 ثم أثناء الصراع الأهلي بين أنصار «عملية الكرامة» (بقيادة حفتر) من جهة، والمدافعين عن «فجر ليبيا» (بقيادة تيارات أصولية متشددة) في غرب البلد من جهة ثانية.

ويُقدر عدد المُهجرين حاليا بـ320 ألف نازح، أي حوالي 5 في المئة من العدد الإجمالي للسكان، مع حالات حرجة مثل أوضاع مُهجري مدينة تورغاء، الذين يُقيمون في محيط المدن في ظروف بالغة القسوة.

من هنا يبدو مشروعا التساؤل عن مدى تأثير هذه الملفات العالقة في محاولة الموفد الخاص سلامة عقد «مؤتمر وطني جامع» في أواخر الشهر الجاري داخل ليبيا وليس خارجها.

وهل أن الوعد ببلورة رؤية للتنمية تعتمد على اللامركزية كاف لإغراء المُشككين بجدوى المشاركة في المؤتمر الوطني الجامع؟

واستطرادا يشكل الخلاف على اعتماد مشروع الدستور مصدر توتر آخر بين الفرقاء، إذ أن لجنة الستين التي تكفلت بإعداد مشروع دستور جديد، أنهت أعمالها منذ فترة، وأعلنت عن نتائج أعمالها رسميا في يوليو/تموز من السنة الماضية.

غير أن إجراء استفتاء لاعتماد المشروع أو رفضه يبدو غير ممكن حاليا، وهو ما حمل الموفد الأممي على التفكير في ملء الفراغ القانوني بالعودة إلى الإعلان الدستوري الصادر في 2011، والذي يُعتبر دستورا انتقاليا.

وكانت المحكمة الإدارية في مدينة البيضاء (شرق) التي تتخذ منها الحكومة غير المعترف بها دوليا برئاسة عبد الله الثني مقرا لها، جمدت العمل بمشروع الدستور.

أوضاع الجيش

هناك سؤال مركزي في هذا المضمار يتعلق بوضع الجيش الليبي، إذ أن المحادثات التي تمت في القاهرة بين ضباط رفيعي المستوى من المحيطين بخليفة حفتر وضباط آخرين من المنطقة الغربية، من المؤيدين لحكومة الوفاق، لم تُعط حتى الآن مؤشرات قوية على تقدم في توحيد المؤسسة العسكرية.

ويبدو الاتفاق صعبا لأن حفتر لن يقبل بتسمية قيادة جماعية للجيش ولا بتسليمها إلى عسكري من المنطقة الغربية، بينما يُعتبر هذا التوحيد شرطا ضروريا لتأمين النواحي الأمنية للانتخابات.

ووضعت الولايات المتحدة بثقلها في الميزان أخيرا عندما اجتمع وفد عسكري أمريكي رفيع المستوى في طرابلس للمرة الأولى مع وفد ليبي ضم كلا من وزير الداخلية ورئيس الأركان العامة وآمر الحرس الرئاسي وآمر المنطقة العسكرية الوسطى.

أما الوفد الأمريكي فترأسه قائد القيادة العسكرية الأمريكية في افريقيا (أفريكوم) الجنرال فالدهاوزر، ودار الحديث بين الجانبين حول «بناء رؤية مستقبلية مشتركة لتحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا» حسب بيان صادر عن المجلس الرئاسي الليبي.

وشكل الاجتماع مؤشرا إلى تدخل أمريكي أكبر في الحرب على الجماعات المسلحة في ليبيا، فضلا عن المساعدات التي قدمها الأمريكيون للحرس الرئاسي وخفر السواحل ووزارة الداخلية، طبقا لما جاء في البيان الليبي، الذي أفاد أيضا بأن القيادات العسكرية الليبية «أبدت رغبتها بتطوير التعاون العسكري مع الشريك الأمريكي ليشمل التدريب وتبادل المعلومات والمساهمة في تطوير القدرات الدفاعية للقوات المسلحة الليبية».

ولا يوجد هذا النوع من التعاون مع المشير حفتر، الذي لم يُستقبل رسميا في واشنطن، مع أن عواصم أخرى مثل موسكو وباريس والقاهرة وعمان تتعاطى معه بوصفه الرجل القوي في الشرق الليبي.

والسؤال هنا: هل أن الدعم الأمريكي للقوات المسلحة الليبية في الغرب يعكس مساهمة في تأمين الأجواء الأمنية الملائمة لإجراء الاستفتاء والانتخابات، أم هو مُركَزٌ على التعاون في الحرب على الارهاب؟ البيان المُقتضب لا يُشفي الغليل، لكنه يؤكد أن الجانبين الليبي والأمريكي بحثا سبل دعم الولايات المتحدة لجهود حكومة الوفاق الوطني لتحقيق الأمن والاستقرار في إطار الشراكة بين الجانبين في مكافحة الارهاب.

ضربات «جراحية»

في جميع الأحوال لا يمكن أن تكون أمريكا غير معنية بمسار الاستقرار في ليبيا، الذي تُشكل الانتخابات أحد مفاتيحه. غير أنها تُفوض الأمر عموما لإيطاليا للخوض في الجوانب السياسية، فيما تركز هي على ملاحقة عناصر تنظيمي الدولة والقاعدة واستهدافها بواسطة ضربات جوية تصفها بالـ»جراحية».

وبدا الدور الإيطالي باهتا في الفترة الأخيرة بسبب طول الأزمة الحكومية وحال الانتظار التي تسيطر على مراكز القرار الإيطالية، وهو أحد العناصر التي حفزت الرئيس الفرنسي ماكرون على التقدم بمبادرته الأخيرة، وسط شبه غياب لشركائه الأوروبيين، عدا فديريكا موغوريني مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد.

واعتبرت «مجموعة الأزمات الدولية» تلك المناكفات بين القوى الخارجية المتداخلة في الشأن الليبي، وخاصة التجاذبات الفرنسية الإيطالية، عُنصرا مؤججا للصراع.

ويكاد الإيطاليون يتقاتلون مع الفرنسيين على إقليم فزان (الجنوب) لموقعه الاستراتيجي المتاخم للمستعمرات الفرنسية السابقة في غرب افريقيا، وهو عقدة تقاطع الطرقات الصحراوية، وأيضا لقيمة الثروات الطبيعية التي يختزنها.

والأرجح أن انكفاء الإيطاليين على شؤون البيت لمعالجة أزمتهم الحكومية، وانشغال الأمريكيين بملفي العلاقات مع إيران وكوريا الشمالية شجعا الرئيس الفرنسي على طرح مبادرته الأخيرة، من دون أن تكون شروط نجاحها مضمونة، بسبب تعذر الحوار الليبي – الليبي في القضايا الجوهرية.

ولعل الطرف الليبي الوحيد القادر، نظريا، على حلحلة الوضع نحو حل سياسي هو مؤسسات المجتمع المدني، على ضعفها، لما تحظى به من صدقية وقيمة اعتبارية، لكنها لا تملك القوة التنفيذية على الأرض

______________

مواد ذات علاقة