بقلم ونيس المبروك الفسي

سأتَّفقُ مع مَنْ يُجيز قصف درنة بالطَّيران والمدفعيَّة؟! ولن أُذكّرَ النّاسَ بأن الصحابةَ الكِرام مرّوا بهذه المدينة الزاهرة فاتحين ، ثم ها هي جُثثُ أحفادهم من النساء والأطفال، تقبع تحت الأنقاض لا تجد حتى من يدفنها أو يضمد جراحها.
ولن أُذكّرَ الليبيين بحرمة الزمان ؛وهو شهر القرآن الكريم ، ولا بحرمة المكان؛ حيث بيوت الله العامرة ، ورفات بعض الصحابة الكرام .


ولن أُذكّرَ الليبيين بأن درنة هي المدينة الوحيدة – ربما في العالم التي استطاع أهلها أن يهزموا الدواعش ويخرجوهم ، بعد أن عاثوا في
المدينة قطعاً للرؤوس وفساداً في الأرض
بل أريدُ أَنْ أمضي أبعد منهم في وضع مبرِّراتٍ لدكِّ مدينة درنةبالطَّيران والمدافع، وطلب النُّصرة من مصر والإمارات وفرنسا لاجتياحها !

لن أقولَ إنَّ في درنةدواعش أو خوارج فقط

فالدَّواعش والخوارج رغم إجرامهم وفسقهم لم يقلْ أحدٌ من أهل العلم أنَّهم كفَّار وخارجين عن الملَّة في عمومهم؛ بل سأمضي أبعدَ من ذلك بكثير، وأفترض – جدلاً أنَّ مَنْ يتحصَّنُ بـ درنةاليوم هم كفَّار ومشركون ملحدون خارجين عن الملَّة الإسلاميَّة، ويحملون سلاحاً حيَّاً في أيدهم!
وأظنُّ أنَّنا بهذا الشَّكل قد وضعنا أرضيَّةً أكثر بعداً عن الجدل العقيم حول مشروعيَّة قتال هؤلاء .

السُّؤال الآن:

بما أنَّكم مسلمون ولله الحمد على ملَّة سيِّد المرسلين؛ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وحريصون على اتِّباع السَّلف الصَّالح، وعلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، ..

وبما أنَّ القتال فعلٌ بشريٌّ، وأفعال المسلم وأقواله لا يجوزُ أَنْ تصدرَ إلَّا بعد معرفة الحلال والحرام فيها، فما هو الحكم الشَّرعي الذي استقرَّ عليه فقهاء المذاهب الأربعة وجمهور علماء الأمَّةفي قتال الكفارالمشركين المحاربين المسلَّحين وليس الدَّواعش فقط إذا كانوا في مدينةٍ بها عشراتُ الألوف من المسلمين ما بين رجالٍ وأطفالٍ ونساء؟!

سأنقل لكم الحكم الشَّرعي الذي اتَّفق عليه أئمَّة الإسلام عبر القرون الماضية، واستقرَّت عليه المدوَّنة الفقهيَّة، وبإمكانكم أَنْ تتصفَّحوا بأنفسكم كُتب التَّفسير والفقه والأصول والحديث، فإِنْ وجدتم في نقلي خطأً، فارموا به عرض الحائط .

اشترط جمهور علماء المسلمين من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعية والحنابلة وغيرهم لرمي الكفارإذا تترَّسوا بالمسلمين – أي: اتَّخذوهم دروعاً بشريَّةً ثلاثة شروطٍ لا يجوزُالرَّمي دون تحقُّقها:

الشَّرط الأوَّل: أَنْ تكونَ الحرب قائمةً مع الكفَّار وليس مجرَّد تحفُّزٍ وتهديدٍ.

والشَّرط الثَّاني: أَنْ يكون تركُ الكفَّار دون رميٍ سبباً في هزيمةٍ شاملةٍ لجيش المسلمين، أو استئصال قاعدة الإسلام ودولته.

والشَّرط الثَّالث: أَنْ لا يكون الرَّمي عامَّاً وعشوائيَّاً؛ وذلك بأَنْ يُقصَدَ بالرِّمي الكفارُ فقط” .

فإذا توفَّرت هذه الشُّروط جاز الرَّمي في وجود المسلمين، وأوجبَ المالكيَّة حينئذ الدِّية والكفارة إن تسبَّب ذلك في قتل مسلم .

وسأمضي مرَّةً أُخرى مع الإخوة المجيزين لقتال أهل درنةأبعد ممَّا سبق ،وأفترض أنَّ أطفال درنة وكلَّ المدنيين هم مشركون وكفَّار أيضاً (حاشاهم)، وليسوا دواعش أو حواضن للدَّواعش؟ ثمَّ قام المحاربون بالتَّترس بأهلهم وذراريهم من المشركين، فماذا يقول فقهاء الإسلام في ذلك؟

لقد نَقل كثير من العلماء؛ كابن الهمام من الحنفيَّة، وابن عبد البرِّ من المالكيَّة، والنَّووي وابن حجر من الشَّافعيَّة، الإجماعَ على (تحريم) رمي المدنيين غير المحاربين من النِّساء والأطفال إذا تترَّس بهم المحاربون،

ومن كان مالكيَّا في جيش الكرامة فإنَّ المالكيَّة يُحرِّمون رمي الكفَّار المشركين إذا تحصَّنوا في مدينةٍ، ومعهم أولادهم ونسائهم من المشركين، إلَّا بالشروط التي ذكرتها آنفا ! بل أوجبوا على القاتل (الدِّية والكفَّارة) في حال تعرَّض مسلمٌ للموت بسبب التَّترُّس به.

هذا التَّحريم يتعلَّق بقتال المشركين والكفَّار المحاربين عسكريَّاًللإسلام!
والسُّؤال الآن :

إذا كان رمي المشركين المتحصِّنين في مدينةٍ بها نساءٌ وأطفال – ولو كانوا مشركين هو من المحرَّمات الشَّرعيَّة، فما هو حُكم رمي المسلمين الموحِّدين المتحصِّنين في مدينةٍ إذا كان تحصُّنهم لأسبابٍ سياسيَّةٍ؟! في دولةٍ لم يتَّفق جمهور شعبها على رئيسٍ أو حاكمٍ بعد؟! ويغيب فيها سلطان القضاء؟! ويقطن هذه المدينة عشرات الآلاف من ذوي الأرحام؟! ويرتفع صوت الأذان فيها صباح مساء؟! وتدكُّ على رؤوس أهلها بطائراتٍ أجنبيَّةٍ في شهر رمضان العظيم؟!

سيقول بعض أنصار الكرامة ،هذه المدينة خارج سيطرة الدولة ، و نحن نريد أن يسيطر الجيش على هذه المدينة مثلها مثل باقي مدن الشرق
والسؤال هل يجيز الإسلام بل كل الديانات والأعراف هدمَ المدن وقتلَ أهلها المسلمين من أجل السيطرة السياسية إذا كان المتحصن لا يتسبب بأي ضرر عام ، بل هو قابع في مكانه ينتظر استقرار الوضع لدولة مُمزقة سياسياً واجتماعياً .

ثم أين هي الدولة ، وهل هناك قرار صادر من حكومة الوفاق أو من المجلس الأعلى ، بل هل يوجد حتى قرار رسمي يحمل رقما إشاريا ،في اجتماع قانوني من البرلمان في طبرق ، بضرب مدينة درنة بالطيران الأجنبي والمدافع ؟!

وهل هناك توافق ورضى، من قبائل الحرابي والسعادي والمرابطين ، بدك مدينة درنة على رؤوس أهلها ؟

لهذه الأسباب وغيرها قلتُ: بأنَّ ما يفعله اللِّيبيُّون والمصريُّون والإماراتيُّون في درنة هو من أكبر الكبائر، ولا يُقرّهُ دينٌ ، ولا قانونٌ محلي ولا دولي ، ولا يُقرّه عُرفٌ اجتماعي ليبي ، ولا علاقة له بحرب داعش ولا غيرها،

إنما هو تدميرٌ لمدينةٍ من أعرق مُدن ليبيا على رؤوس أهلها من أجل السيطرة السياسية

وأنَّ من يعينهم من الإعلاميِّين والسِّياسيِّين ولو بكلمةٍ ؛ هو شريكٌ في هذه الجريمة، ولا يُعذَر بجهله؛ لأنَّ حرمة دم المسلم بل وغير المسلمإِنْ لم يكنْ حربيَّاً مقاتلاً – هو أمرٌ معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة،

وسيلقون الله تعالى جميعاً وفي رقابهم كلُّ دماء الأطفال والنِّساء والرِّجال، ويحرم على كلِّ أمٍّ وأبٍ ليبيٍّ في هذا الشَّهر الفضيل أَنْ يسمحوا لأبنائهم بالمشاركة في هذه الجريمة تحتَ أيِّ مبرِّرٍ.

وسأعتذرُ أمامَ كلِّ الناس وأتنازلُ عن رأيي إذا قرأتُ لأيِّ عالمٍ معتبرٍ يُجيزُ شرعاًهذه الحرب، ولو بدليلٍ شرعيٍّ ضعيفٍ.

يا أهلي:

والله ما كتبتُ هذا الرَّأي إلَّا حرصاً وخوفاً عليكم من عذابٍ أليمٍ، فسفكُ الدِّماء معصيةٌ من أكبر المعاصي، ولا طاعة لمخلوقٍ ولو كان أبا بكرٍ وعمر في معصيةِ الخالق، وأوَّلُ ما يقضى بين النَّاس في يوم القيامة بـ الدِّماء، ويومها سنقف أمام الله حفاةً فُرادى ، ولنْ يغنيَ عنَّا جيشٌ ولا مجلسٌ ولا برلمانٌ، والله العظيم أخشى أَنْ يأتي أطفال درنةوأهلها يوم القيامة ويسألون ربَّهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يجيء المقتول يوم القيامة متعلِّقاً بالقاتل تشخب أوداجه دماً، يقول: ربِّ؛ سل هذا لم قتلني، فيقول: قتلته على مُلكِ فُلان” .

هكذا نص الحديث قتلته على مُلكِ فُلان

أتمنى من كل أعيان ليبيا ورجالها الأحرار ،وبخاصة من مشايخ السَّعادي ،والحرابي ،والمرابطين وغيرهم لله تعالى وللتَّاريخ أَنْ يسعوا لإيقاف هذه المأساة الإنسانية ، وهذا العار الذي سيكتبه التاريخ بمداد من الدم، ويبذلوا الجُهد لحقن الدِّماء وعقد صلحٍ وتوافقٍ يُجنِّب كلَّ الأطراف ويلاتَ الحربِ وآثارها المستقبليَّة،

ولو أدّى ذلك لمقاربةٍ سياسيةٍ دولية توفر أمنَ مواطني درنة ، وتتيحُ خروجا آمنا للمدافعين عنها إلى حيث يأمنوا على أرواحهم وأعراضهم ، وأن لا يشارك أي مسلم في هذه الجريمة بأيِّ شكلٍ من الأشكال، إلى أَنْ تجتمع كلمةُ الشَّعب اللِّيبي على قيادةٍ سياسيَّةٍ واحدةٍ.

اللهم إنِّي قد نصحتُ وبلَّغت، اللهمَّ فاشهد.

***

ونيس المبروك الفسيي ـ عضو مجلس أمناء الاتِّحاد العالمي لعلماء المسلمين
___________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مواد ذات علاقة