فوجئ الكثيرون، من الليبيين وغيرهم، بما جاء في خطاب ارتجله مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي الذي قاد ثورة فبراير 2011 ضد نظام القذافي، في الاحتفال الذي أقيم في 23 أكتوبر 2011 بمناسبة تحرير ليبيا من حكم هذا النظام.

***

الشريعة بعد ثورة فبراير

لم تكن ثورة فبراير ثورة الإسلاميين، وإن لعبوا دوراً هاماً فيها، ولكن على نحو ما غدا الإسلام وتحكيم الشريعة مميزاً لها وللمراجعات التي استهدفت النظام القانوني.

لقد سميت الثورة ثورة التكبير، وتلا نجاحها تعزيز لدور الشريعة. قد يجد هذا الأمر تفسيره في أن دعاوى مروق نظام القذافي عن الإسلام قد كانت أساسية في تبرير الثورة ضده، ومن مقتضى نجاح الثورة إذن أن يعزز دور الإسلام.

من الأمارات الدالة على هذا ما جاء في خطاب التحرير، كما سبقت الإشارة إليه، ومنها أيضاً النص في الإعلان الدستوري الصادر في أغسطس 2011 على أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع، وإحياء دار الإفتاء بقانون حصن فتاواها من النقاش العام وألزم الجميع باحترامها، الفتاوى، وأن أصبحت الدعوة إلى تحكيم الشريعة مطلبا عاما، بما فيهم غير الإسلاميين، ومثال هذا تضمين تحالف القوى الوطنية برنامجه في الانتخابات التشريعية عام 2012 وعداً بجعل الشريعة مصدراً للتشريع.

تعزيز دور الشريعة كان أيضاً أداة لإرضاء الغلاة من المطالبين بتحكيم الشريعة، وهم جماعات جعلت العنف نهجها في إقامة نظام يجعل من الشريعة منهجاً.

لقد كانت جهود تعزيز هذا الدور إلى حد كبير محاولة لإقناع هؤلاء بأن هدفهم قابل للتحقيق، وموضع للتحقيق فعلاً، بطرق سلمية، ولا حاجة، من ثم، لاستخدام العنف.

لم تفلح هذه الجهود في إقناع بعض هؤلاء. ولا أدل على ذلك مما قام به تنظيم الدولة الإسلامية الذي كفر سلطات ما بعد فبراير، ونبذ قوانين الدولة جميعها، وأقام في مناطق حكمه محاكم شرعية ودواوين حسبة.

بالطبع ليس الإسلاميون أمة واحدة، فمنهم من ارتضى المسار الديمقراطي وشارك في السلطة التشريعية عام 2012، أحزاباً وأفراداً، ونجح في الوصول إلى مقاعد أول مجلس تشريعي منتخب: المؤتمر الوطني العام.

وقد كان لهؤلاء دور رئيس في سن قوانين مستمدة من الشريعة، ومثالها البارز القانون رقم 1/2013 الذي حظر تقاضي الفوائد في المعاملات كافة بما فيها تلك التي تجريها المصارف التجارية.

وقد كان لدار الإفتاء برئاسة الشيخ الصادق الغرياني دور كبير في الدفع نحو تبني هذا القانون، وقد انتقد بشدة تأجيل تنفيذه إلى 2015، وعدّ هذا دليلاً على عدم جدية المؤتمر الوطني في محاربة الربا.

الشريعة بعد الانقسام المؤسسي والتشريعي 2014

لم تسر جهود أسلمة القوانين في سنوات ما بعد فبراير على ذات الوتيرة. لقد شكل الانقسام السياسي مذ أغسطس 2014 منعطفاً هاماً في هذا الصدد. من ناحية أولى، تمسك المؤتمر الوطني العام بسلطة التشريع في البلاد كافة، وإن كانت سلطته الفعلية محدودة بحدود المنطقة الجغرافية التي دانت للعملية العسكرية المناصرة له –عملية فجر ليبيافي غرب البلاد.

ومن ناحية أخرى، تمسك مجلس النواب الذي اتخذ من طبرق في أقصى الشرق المجلس التشريعي الشرعي الوحيد. وقد كان من أوجه التفرقة بين المجلسين وصف الأول بأنه خاضع للإسلاميين خلافاً للثاني الذي فشلوا انتخابياً في شغل مقاعده.

وقد يستند هذا الوصف إلى تصرفات المجلسين. من ناحيته، أجرى المؤتمر الوطني العام تعديلاً على الإعلان الدستوري أصبحت الشريعة بمقتضاه مصدر كل تشريع، [وعُدّ] لاغياً أي تشريع أو عمل أو مادة يخالف أحكامها ومقاصدها، واعتبر المؤتمر الوطني العام هذا النص أفضل نص دستوري في جميع دساتير البلدان الإسلامية دون استثناء“.

كما شكل لجنة من علماء الشريعة لمراجعة التشريعات، أو غربلتها حسب تعبير المؤتمر، لتحديد ما بها من مخالفات للشريعة، واقتراح معالجات لها.

وقد تبنى المؤتمر توصيات اللجنة وسنّ عدداً من التشريعات أهمها القانون رقم 14/2015 الذي عدّل القانون رقم 10/1984 بشأن الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق، حيث ألغى، من بين أمور أخرى، القيود المفروضة على تعدّد الزوجات.

وأيضًا القانون رقم 6/2016 الذي عدّل 40 مادة وألغى 16 أخرى من القانون المدني، بما فيها المادة 1 التي أدرجت مصادر القانون بالترتيب التالي: التشريع، مبادئ الشريعة، العرف وقواعد العدالة والقانون الطبيعي. ووفقًا للمادة المعدلة، فقد اقتصرت مصادر القانون على التشريع شريطة عدم مخالفته لأحكام الشريعة، وعلى أحكام الشريعة.

وثمة قانون جديد آخر هو القانون رقم 20/2016 الذي عدّل قانون العقوبات بإلغاء الأحكام التي تخالف الشريعة، وإضافة أحكام جديدة بما فيها حكم ينص على عقوبة الإعدام للمرتد. وبالمثل، عدّل القانون رقم 22/2016 القانون رقم 70/1973 بشأن إقامة حد الزنا بإدخال عقوبة الموت رجمًا للمرتكب المحصن.

من ناحيته، سن مجلس النواب تشريعات تقوض من جهود الأسلمة الآنف ذكرها، وثمة أمثلة واضحة تبين ذلك. المثال الأول هو تعليق العمل بالقانون رقم 1/2013 بشأن حظر المعاملات الربوية إلى عام 2020، والمثال الآخر هو سن القانون رقم 8/2014 بشأن إلغاء دار الإفتاء الليبية، ونقل صلاحياتها وأصولها إلى وزارة الأوقاف.

ومن الواضح أن هذا القانون بمثابة رد فعل على دور دار الإفتاء في الانقسام، ولاسيما رئيسها الصادق الغرياني.

وينبغي ألا يفهم من السرد السابق أن جهود الأسلمة قد غابت عن المنطقة الخاضعة لنفوذ مجلس النواب.

خلافاً لذلك، كانت هناك جهود مبنية على فهم معيّن للشريعة أثارت في حينها كثيراً من التساؤلات، ومثالها قرار الحاكم العسكري في هذه المنطقة حظر سفر النساء دون محرم.

وقد قيل في حينها أن إسلاميين من ذوي التوجه السلفي قد كانوا خلفه، وهي دعوى عززها ترحيب هؤلاء بالقرار، وحضهم الحاكم العسكري على إنجاز وعد أخر بحظر قيادة النساء السيارات.

وقد كان لهؤلاء أيضاً نقدهم لمشروع الدستور. وأيضا واقعة مصادرة فريق من هؤلاء كتباً في بوابة قرب مدينة المرج بدعوى مخالفتها الشريعة.

الشريعة في مشروع الدستور الجديد

حين أعلنت هيئة صياغة مشروع الدستور عن هذا المشروع في يوليو 2017، أثار هذا الإعلان ردود فعل متباينة بين مرحب ومعارض. وقد كان لموقف المشروع من الشريعة أثره في ذلك.

لقد نص على أن الشريعة مصدر التشريع، وهو ما فهم على نطاق واسع بأنه يجعلها المصدر الوحيد، ودفع العديدين إلى نقده لفتحه، كما قيل، باب تقييد الحقوق والحريات.

لم يكن هذا النص كافياً لآخرين، ومنهم الإسلاميين آنفي الذكر. لقد رأوا أن المشروع حوى مخالفات شريعة تجعله جديراً بالرفض، ومنها، وفقاً لرأيهم، نصه على حرية التفكير والتعبير دون قيد شرعي، وحرية تكوين منظمات المجتمع المدني دون قيد، وتقرير المساواة بين الرجال والنساء أمام القانون، والنص على حرية التظاهر.

ورغم أن نص مشروع الدستور على مصدرية الشريعة على هذا النحو يعد خطوة هامة في تعزيز دورها، إلا أن الأثر الفعلي لهذا النص على النظام القانوني يتوقف على تحديد المقصود بالشريعة، ومرجعية هذا التحديد. هناك فهوم للشريعة تحد إلى حد كبير من هذا التأثير، ومثالها ما تبنته المحكمة الدستورية في مصر من فهم لها بأنها قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهو فهم يحد من الشريعة وأثرها.

ولا أدل على هذا من أن تعديل الدستور المصري عام 1980 ليجعل مبادئ الشريعة المصدر الرئيس للتشريع لم يستتبع أي تغيير في التشريعات القائمة. ويمكن أيضا فهم الشريعة على نحو يجعل أثرها أبعد مدى، ومثال ذلك ما تبنته المحكمة العليا الليبية بعدم دستورية النص المقيد لتعدد الزوجات بدعوى مخالفته للشريعة.

وفي هذا السياق، لا يقدم مشروع الدستور إجابة عن مقصوده بالشريعة ومن يحدده.

أولاً، لقد سقط منه نص حوته مسودات سابقة لهيئة صياغة الدستور قيد فيه الشريعة بما تحويه المذاهب والاجتهادات المعتبرة شرعاً من غير إلزام برأي فقهي معين.

ثانياً، رغم نصه على مجلس للبحوث الشرعية، ضمن الهيئات الدستورية المستقلة التي أنشأها، إلا أنه لم يجعل استشارته وجوبية، ولم يجعل من مشورته عند طلبها إلزامية.

ثالثاً، وربما الأكثر أهمية في هذا السياق، لم يوجب عضوية المختصين بالشريعة في المحكمة الدستورية، وهي التي ستقرر متى يكون تشريع ما مخالفاً للشريعة ومن ثم غير دستوري؛ من المتصور أن تقتصر عضوية هذه المحكمة على المختصين بالقانون.

اقتصار عضوية المحكمة الدستورية على القانونيين قد يعزز من احتمالات تبني مفهوم للشريعة أكثر استيعاباً للتشريعات القائمة. على هذا النحو، قد تتبنى المحكمة مفهوماً ينفي عن التشريعات التي سنّت في عهد النظام السابق مخالفتها للشريعة، ومن ثم يبقي عليها.

على كل، لا زال الوقت مبكراً للحديث عن تطبيق نص مشروع الدستور المتعلق بالشريعة، فالمشروع ذاته لا زال مشروعاً وقد لا ينال قبول الليبيين في الاستفتاء العام الذي سيخضع له، وهي نتيجة قد يسهم موقفه من دسترة الشريعة في الوصول إليها.

***

نشر في العدد 11 من مجلة المفكرة القانونية – تونس (الرابط https://bit.ly/2J3dCsY

للإطلاع على قائمة المصادر والمراجع يرجي الرجوع إلى موقع المفكرة القانونية الإلكتروني

_____________

مواد ذات علاقة