اعداد : د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

تهدف هذه الدراسة الى تسليط الضوء على دور العامل الخارجي في عملية التحول الديمقراطي في ليبيا بعد عام 2011، منطلقين من فكرة مُفادها أن العامل الخارجي وفي مقدمتها تنافس القوى الإقليمية والدولية في ليبيا ساهم في توجيه مسار التحول الديمقراطي بعيداً عن طموحات الشعب الليبي،

الجزء الخامس

المطلب الثالث: الآفاق المستقبلية للتحولات السياسية في ليبيا

يبدو أن مسارات الانتقال الديمقراطي ومآلاتها في ليبيا ما زالت تعاني من التلكؤ في خطواتها، لأن بعض الأطراف السياسية الليبية لا زالت حتى اللحظة منغلقة على نفسها، أو ليست منفتحة بشكل كامل على الأطراف الأخرى، إما لأسباب تتعلق باختلاف الرؤى، أو بسبب العناد السياسي فيما بينها، وليس ثمة ما يشير بأن فرص تجسير الهوة بين المواقف والبرامج المتناقضة متاحة، أو ما يوحي بأن الأطراف الليبية قد جنحت لتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الخاصة.

لذلك من المستبعد فيما يبدو أن يصل الفرقاء الليبيين في الوقت الراهن إلى مصالحة تفضي إلى شراكة، قبل أن يراجع كل طرف منهم (أهدافه، ومواقفه، ومشروعة السياسي، وآليات عمله) بما يسمح بتقارب وطني حقيقي ولو بالحد الأدنى، وبإعادة الثقة بين الأطراف المتنازعة والحد من التدخلات الخارجية السلبية، فهناك أطراف عربية وإقليمية لا زالت تعبث بالمشهد الليبي وتمارس دور تعطيلي لمسار الانتقال الديمقراطي من خلال محاولة طي صفحة اتفاق الصخيرات وفرض أمر واقع جديد في ليبيا.

إن فرص نجاح العملية الديمقراطية في ليبيا مرهونة بتجاوز التحديات والعقبات التي تقف أمامها، وكذلك إذا توافرت الشروط الضمانات لنجاح هذا التحول المأمول، في المدى القصير أو البعيد، لكن المهم أن يسلك ذلك التحول المسار الصحيح عبر إقامة نظام ديمقراطي حديث وفاعل يسهم في تغيير الشعب الليبي إلى ما هو أفضل. وإن كان هذا الهدف يتعلق، أيضا بحقيقة أن الليبيين لم يتوصلوا بعد إلى تبني رؤية مشتركة لمجتمع ديمقراطي ممثل للجميع.

من الصعب أيضا التنبؤ في خضم الأحداث الدائرة في الساحة السياسية والأمنية الليبية حول ما ستؤول إليه العملية السياسية في ليبيا ومسارها المستقبلي، بيد أن هناك اعتبارات مختلفة هي من سوق تقرر وضعية تلك العملية ومداها، فآفاق العملية السياسية ومخرجاتها تحكمها اعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية لا يمكن تجاوزها، تساهم في رسم مشهدها صيرورة الأحداث وتفاعلاتها التي تمر بها ليبيا.

لذلك، لا يمكن التكهن في أي اتجاه تسير البلاد، فالأوضاع غير مطمئنة من خلال الفوضى الأمنية، وعدم الاستقرار السياسي وانتشار الميليشيات المسلحة بأبعادها المختلفة، فالدولة لا زالت غير قادرة على السيطرة على هذه المجموعات، فإما أن تتغلب على مشاكلها وتمضي قدما نحو بناء دولة المؤسسات والديمقراطية الحديثة، وإما أن تستمر الفوضى وربما تذهب البلاد إلى أبعد من ذلك بالإنزلاق نحو الإقتتال الداخلي.

وفي ضوء ما تقدم، وأخذا في الاعتبار السياقات المحلية والإقليمية والدولية، تجد عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا نفسها اليوم أمام سيناريوهات محتملة، هي:

ـ أن يمضي الأطراف في المصالحة مراعاة للمصالح العليا للشعب الليبي، وأن تتجاهل الأطراف المحلية أي ضغوطات خارجية بما فيها الاقليمية والدولية، ويتم التوصل إلى تسوية سياسية تؤدي إلى انتخابات جديدة تذهب بليبيا نحو نظام مؤسسي مدني، ورغم أنه السيناريو المفضل والأكثر استجابة لطموحات الشعب الليبي، إلا أن تحققه على أرض الواقع يبدو مستبعدا حتى الآن ولا توجد أية مؤشرات جادة لوضعه ضمن قائمة السيناريوهات المحتملة.

ـ سيطرة القوى الاسلامية المتطرفة على السلطة، ويتخوف المجتمع الدولي خاصة الدول الغربية من حدوث وتحقق هذا السيناريو، نظرا لما قد يلحقه من أضرار بالمصالح الغربية.

ـ أن ينجح العسكر بقيادة المشير خليفة حفتر في استرجاع السلطة تحت أي مسمى، وهو سيناريو ربما يلقى القبول بالرضى من بعض القوى الكبرى كروسيا وفرنسا، بهدف الحصول على مزايا جديدة في العلاقات التجارية والاقتصادية.

ـ أن يؤدي السير قدما في الاتفاق إلى انشقاقات جديدة بين القوى والأحزاب السياسية الليبية، مما سيجعل الوضع الليبي أكثر تعقيدا من المرحلة السابقة.

في ظل معطيات الوضع الراهن، والتعقيدات القائمة محليا وإقليميا ودوليا، تبدو فرص السيناريوهات جميعها قائمة ومفتوحة، ويصعب ترجيح فرص نجاح أي منها، مع وجود أفضلية نسبية لصالح سيناريو الحل السياسي، لكن الأمر منوط بإرادة القوى الليبية المتصارعة بالدرجة الأولى، وبإرادة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الصراع الليبي.

الخاتمة

في ضوء الشواهد العديدة اتضح ازدواجية المعايير التي تتعامل بها الدول الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الخارجية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية في العالم، إذ تلقي بكل ثقلها لمساندة عمليات الإنتقال إلى الديمقراطية في بلدان العالم الثالث عندما تكون هذه العملية في صالحها، بينما تمارس مختلف الضغوط وتستعمل كل الوسائل غير المشروعة لإعاقة التحولات الديمقراطية عندما لا تخدم مصالحها أو عندما تسفر عن نجاح نخب أو تيارات لا تتماشى واعتباراتها السياسية وتوجهاتها، واتضح ذلك من خلال دعم الولايات المتحدة ومساندتها الأنظمة غير الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط على مدى العقود الماضية طالما استمرت هذه النظم تتوافق مع مصالحها.

هذا المجال نموذجا صارخا للتناقض بين الخطاب السياسي الرسمي وبين السياسات العملية، نظرا لتعاملها مع قضية الديمقراطية بنوع من البراغماتية والانتهازية، بما يعني أنها لا تتبنى هذه القضية إلى جانب قضية حقوق الانسان كرسالة أخلاقية عالمية، بل تتخذها أداة لخدمة مصالحها وأهداف سياساتها الخارجية، أي أن سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية قامت في جانب كبير منها على التضحية بمبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان من أجل المصالح، وهو ما شكل محكا وامتحانا لمصداقيتها في توسيع فضاء الديمقراطية في العالم.

لقد لعب العامل الخارجي دورا معيقا لعملية التحول الديمقراطي في ليبيا، وذلك من خلال تأجيج الخلافات بين مكونات الشعب الليبي، وزيادة حدة الصراعات القبلية والمناطقية سلبيا من ناحية أولى، وتحويل ليبيا إلى منطقة لممارسة النفوذ الأجنبي من ناحية ثانية، عبر جعل ديناميات الفعل الثوري تتم بأيادي محلية وعربية، بمعنى أن تجعل كل التيارات والقوى السياسية الليبية تتقاتل حتى يبرز تيار أو أكثر، اجتماعي ـ سياسي يتسيّد المشهد السياسي أو جزء منه، تتحاور معه بقصد ضمان عمل سياسي يتسم بالشرعية وفقا لما تعتقد هي به.

لقد أدى التدخل الخارجي الإقليمي والدولي إلى عسكرة الثورة الليبية بين النظام والمعارضة، وإلى انهيار الدولة المركزية وتحول النزاع من مطالبات بالإصلاح والديمقراطية إلى حروب أهلية يصعب في ظلها الحفاظ على كيان ووحدة الدولة.

فالتدخل الخارجي الذي شارك بل وسرع في إسقاط نظام القذافي هو نفسه الذي انقلب على مكتسبات الثورة الليبية ولكن بطريقة غير مباشرة، بمعنى أوضح أنه نفذ أجندته الانقلابية بأياد عربية وداخلية، ليربأ الغرب وتحديدا الولايات المتحدة بنفسه عن الظهور بوجهه الانقلابي القبيح ضد إرادة الشعب الليبي، انطلاقا من مصالح الغرب المرتبطة بالاستبداد وحساسيتها من أي عملية ديمقراطية تفضي إلى مؤسسات قد تشكل خطرا على أطماعها، وهذا بدوره فتح الباب على مصراعية لنمو وانتشار جماعات العنف والسلاح التي ساهمت في تلغيم الساحة الأمنية الليبية، ووجدت فيه التنظيمات المتطرفة بيئة مناسبة مرتعا خصبا أيضا، مما أسهم في تعثر مسار التحول الديمقراطي.

إن الحرب على الإرهاب جعل الديمقراطية تتراجع إلى مرتبة أدنى في أجندة اهتمامات الدول الغربية ولا سيما سياسة الولايات المتحدة بشكل رئيسي تجاه ليبيا، وأعطيت جهود مكافحة الإرهاب الأولوية القصوى وسخرت باقي القضايا لخدمتها ما فيها الديمقراطية نفسها.

وقد أتضح أن مكافحة الإرهاب قد انعكست سلبا على دور العامل الخارجي في عملية التحول الديمقراطي في ليبيا، فكانت الأطراف الخارجية تتغاضى عن انتهاكات حقوق الانسان والعملية الديمقراطية من أجل الحفاظ على تحالف أوثق مع الحكومات الليبية المتعاقبة ما بعد الثورة في جهود مكافحة الإرهاب.

لذلك فإن التساؤل بشأن حقيقة ودوافع التدخل الغربي والأمريكي يبدو أكثر من مشروع، وتصبح التبريرات الديمقراطية والمكاسب المتحققة ضئيلة وأقل ملائمة للتفسير.

لا ينبغي أن نقلل من شأن طبيعة القذافي ونظامه الاستبدادي، ومع ذلك فإن ما قام به الإعلام الغربي والعربي ضد نظام القذافي وتصويره نظاما دكتاتوريا ودمويا ومنتهكا لكل الأعراف والقيم وسببا في كل ما يهدد الانسانية، لم يكن سوى حجة واهية لإسقاط النظام والتخلص من القذافي في عمل عسكري أثبتت الشواهد أنه أثمر نتائج عكسية، حيث قاد التدخل إلى إطالة أمد الصراع وضاعف عدد الضحايا، ليقود في النهاية إلى تكريس المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمعاناة الإنسانية والتطرف والانتشار الرهيب للسلاح في ليبيا، وإقليميا بما يهدد الأمن الإقليمي والعالمي بدرجة غير مسبوقة.

ومن هنا ينبغي التأكيد على التالي:

ـ إن الفعل الثوري الناجز يجب أن يصدر من الداخل، ولكن الخارج يمكن أن يقوم بدور هام في دعم ومساندة التطور الديمقراطي في دول لديها معطيات وإمكانيات تجعلها أكثر قابلية للإنتقال الديمقراطي.

ـ لقد أكدت الثورات العربية لا سيما في تونس ومصر، وخلافا للقناعات السابقة عكس ذلك لدى الكثيرين، أنه يمكن أن يحدث التغيير الجذري من الداخل دون الحاجة إلى الخارج. كما حاول البعض تبرير الاستعانة بالخارج للتغيير في العراق عام 2003، وليبيا عام 2011، مثلا.

لذلك، يجب أن لا تكون الاستعانة والاستقواء بالخارج لإسقاط نظام قمعي عربي سابقة تقتدي بها معارضات عربية أخرى، والتي يبدو أن الشعوب تدفع ثمنه فوضى ومعاناة لا يمكن أن نحمّل التغيير الثوري كامل وزرها، خصوصا في ظل التدخلات الخارجية باهظة الحسابات.

ـ الرفض المطلق للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية الذي يجد لنفسه سوابق يتسلح بتجاربها المريرة، وما نراه في العراق بعد احتلاله عام 2003، والتدخل العسكري الخارجي في ليبيا عام 2011، يبرر هذه المخاوف ويجعل من رفع الأصورات بالحذر والتنبه مشروعا ومطلوبا.

ـ أن الانتقال السلمي والهادئ التي يتم بمبادرة من النخبة الحاكمة، أو من خلال التفاوض بين النظام والمعارضة، أو بعد إسقاط النظام بواسطة انتفاضة أو ثورة شعبية سلمية غالبا ما يكون مصحورا بدرجة أعلى من الديمقراطية، وفرص أفضل لاستمرار وترسيخ النظام الديمقراطي الناشئ، بعكس الانتقال العنيف الذي يكون في الغالب مقرونا بدرجات أدنى من الديمقراطية، وفرص أقل لاستمرارية النظام الديمقراطي واستقراره، بل إنه تزداد في مثل هذه الحالة احتمالات حدوث انتكاسة أو الارتداد إلى شكل من أشكال التسلطية، أو وقوع البلاد في صراع داخلي أو حرب أهلية.

ـ لقد أكدت تجارب الماضي وتجارب الحاضر العربي وغير العربي أن مثل هذا التدخل نجح في حالات قليلة، ولكنه فشل في حالات أخرى كثيرة، حيث ساهم في إطالة أمد الصراعات، وفي تعقيد حلولها السياسية، وفي إشعال الفتن، وزيادرة حدة المخاطر على وحدة البلاد وشعوبها ومجتمعاتها، وفتح شهية هذا الخارج على المزيد من الهيمنة ومن نهب الموارد وثروات البلاد.. وما يجري في سوريا والعراق وليبيا اليوم ليس عنا ببعيد.

ـ يبدو أن محصلات المراحل الانتقالية التي أعقبت الثورات العربية ربما أعادت صدقية النظريات الأكثر تشاؤما في مقاربة الحالة العربية المعاصرة، ومنها نظرية الإستثناء العربي من عملية التحول الديمقراطي والتي تفترض أن المجتمعات العربية غير مهيئة للديمقراطية وغير قابلة للإرتقاء إلى مستوى المجتمعات الوطنية والمواطنية التي يتعايش أبناؤها في ظل نظام ديمقراطي تعددي تحترم فيه الحريات والحقوق وتتداول في السلطة السياسية سلميا.

ـ مع التسليم بأن مشكلة تدخل الخارج في بلادنا لا تعود إلى أطماعه الاستعمارية، فهذه طبيعة الدول الكبرى على مر التاريخ. لكن في المقابل، ثمة عاملان أساسيان لا يمكن التهوين من دورهما أو من تأثيرهما في تشجيع هذا الخارج على التدخل في شؤون المنطقة العربية، وتحديدا ليبيا، وفي فتح الأبواب والمطارات أمام جنوده وآلياته ومعداته العسكرية.

ـ استعداد بعض القوى والأطراف السياسية الليبية للتعاون مع الخارج (الغرب عموما والأمركي خصوصا) وطلب مساعدته والإستقواء به بذريعة استبداد النظام الذي تواجهه هذه القوى والأحزاب والشخصيات. وبسبب عجز هذه القوى وعدم قدرتها على تغيير النظام بقواها الذاتية تلجأ إلى التعاون مع أجهزة استخبارات غربية، ومع دبلوماسيين للتنسيق والعمل من أجل إسقاط هذا النظام، فالأزمة الليبية تبدو شديدة التعقيد وعصية على الحل بسبب هذا التدخل الخارجي، ويعتقد أصحاب نظرية التعاون مع الخارجبسذاجة أو الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين سيساعدهم على إسقاط النظام ثم يخرج ويقدم السلطة للمعارضة التي استعانت بها على طبق من فضة باعتبار أن الغرب يحب فعل الخير ويبحث عن القضايا العادلة لدعمها بلا مقابل، فالتدخلات في الأخير هي حاصل مصالح أكثر من كونها أعمال إنسانية، إذ ليس في قاموس السياسة الخارجية ثمة أعمال خيرية محضة.

ـ المسألة الثانية هي عجز المنظمات الإقليمية عن حل المشكلات التي تنشأ في هذا البلد أو ذاك. خصوصا مع التراجع الذي أصاب دور هذه المنظمات ووظيفتها، (جامعة الدول العربية مثلا)، وبدلا من أن تشكل هذه المنظمات مرجعية لحل المشكلات ورأب الصدع باتت على العكس مصدرا للإنقسامات البينية، ومصدرا إضافيا للإستقواء بالخارج والانسجام مع برامجه وأهدافه السياسية.

انتهى

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ ـ رئيس قسم العلوم السياسية، كلية إدارة الأعمال، جامعة الجفرة ـــ ليبيا

____________

مواد ذات علاقة