بقلم أسامة عكنان

إن الوعي الوطني بمخاطر التغلغل الأوربي في طرابلس وبرقة “ليبيا”، عرف طريقه إلى مختلف طبقات وفئات الشعب الليبي من مثقفين وعمال وفلاحين ورجال قبائل ورؤساء طرق صوفية.

الجزء الثاني

الصراعات الدولية على ليبيا: ايطاليا .. فرنسا .. بريطانيا

كان البريطانيون أقوى الداعمين لإيطاليا في احتلالهم لليبيا، فلكي تنال إيطاليا صوت بريطانيا إلى جانبها في مسألة إعطائها الحق بغزو الولاية العثمانية، أيد رئيس الوزراء الإيطالي “فرانشيسكو كريسبي” بريطانيا عندما تعرضت مصالحها لهزة عنيفة في مصر، عقب قيام ثورة أحمد عرابي.

وقد سجلت إيطاليا بذلك موقفا إيجابيا لمصلحتها بتأييدها المعنوي لبريطانيا، فنالت بذلك عطفها المتزايد فيما يتعلق بإعطائها حق الاستيلاء على طرابلس وبرقة، وقد تجلى هذا التعاطف في برقية بعثَ بها وزير الخارجية البريطاني “غراي “إلى رئيس الوزراء الإيطالي جاء فيها “إذا تغير الوضع القائم في حوض المتوسط فسيصبح احتلال إيطاليا لطرابلس ضرورة ملحة، حتى لا يصبح هذا البحر بحيرة فرنسية”.

غير أن بريطانيا دعت إيطاليا إلى التعقل والتريث في اتخاذ قرار احتلال ليبيا، كي لا يُحدِثَ قرارُها أزمة سياسية عالمية، وقد علق رئيس الوزراء البريطاني قائلا لرئيس الوزراء الإيطالي.. “إن الصياد الماهر يجب أن يتريَّثَ فلا يطلق الرصاص حتى تصبح الفريسة في متناول مدى مقذوفته.

وقد توصلت بريطانيا وإيطاليا إلى عقد اتفاقية سرية في 12 فبراير 1883 تقضي بالمحافظة على الوضع القائم في البحرين المتوسط والأدرياتيكي، فضلا عن البحر الأسود. وهو ما يعني ضرورة تأييد كل منهما الآخر فيما يتعلق بمصالحهما في كل من مصر وطرابلس.

إلى أن حصلت إيطاليا عام 1902 عند تجديد الاتفاقية على موافقةٍ بريطانية رسمية على حق إيطاليا في احتلال ليبيا، خاصة بعد سقوط مراكش في يد فرنسا. كما حصلت إيطاليا في فترة حكم “جوفاني جولييتي الأول” من عام 1903 إلى عام 1905 على تعهد من ألمانيا بعدم التدخل العسكري في حال قيام إيطاليا بغزو طرابلس.

وفي فترة حكمه الثانية الممتدة من عام 1906 إلى عام 1909 حصل “جولييتي” على اعتراف النمسا بحق إيطاليا في احتلال طرابلس، بشرط ألا تمتد الحرب الإيطالية إلى تركيا والبلقان.

وفي عام 1902 أعلن السفير الفرنسي في روما عن استحالة تصادم المصالح الفرنسية الإيطالية، وتبعت ذلك اتفاقيات سرية بين البلدين اعترفت فيها إيطاليا باحترام المصالح الفرنسية في مراكش وتونس، واعترفت فرنسا بإطلاق يد إيطاليا في ولاية طرابلس الغرب.

وعندما بات الغزو في الأفق مع اقتراب شهر سبتمبر من عام 1911، فإن الدولة العثمانية التي كان ضعفها سببا في نجاح المؤامرة ضد ليبيا وضد كل الأقاليم العربية الأخرى التي انتزعت من جسد الرجل المريض إقليما تلو الآخر، لم تقم بمجهود حقيقي لتجنب الغزو قبل حدوثه، بل ما كان لها أن تقدر على فعل شيءٍ يذكر على هذا الصعيد.

فلا هي استطاعت أن تنال مساعدة بريطانيا التي كانت صاحبة المصلحة الأكبر في احتلال إيطاليا لليبيا، ولا هي استطاعت الحصول على دعم حليفتها ألمانيا التي تملصت من مطالبة تركيا لها بالتدخل لمنع الغزو، ما يكشف عن حقيقة ودلالة التحالف، عندما يربط بين دولة أوربية استعمارية، وبين دولة لا ينظر إليها إلا بوصفها مخزنا استراتيجيا للأقاليم التي تعتبر مشاريع مستعمرات ليس إلا.

ثقافة المقاومة الاستبقاية ضد المشاريع الاستعمارية

وفي ضوء هذه التجاذبات والتحالفات والاتفاقات العلنية والسرية، وفي ضوء ما كشفت عنه حالة التداعي والانهيار التي كانت تعاني منها السلطة العثمانية في منظومة العلاقات الدولية آنذاك، تأسست “الجمعية الخيرية السرية” في ليبيا كرد فعل على كل هذه العوامل.

أي انها نشأت في الأساس بوصفها وعاء للمقاومة الاستباقية للمشاريع الاستعمارية الأوربية في ليبيا بعد أن تأكد للنخب الليبية آنذاك أن أوروبا قد فوضت إيطاليا باستعمار ليبيا كنوع من قسمة الترضية والتوازن التي فرضتها معادلات التنافس العالمي في تلك الحقبة من الزمن.

ولقد كان من الآثار الإيجابية للجمعية الخيرية السرية في خلق ثقافة المقاومة الاستباقية لدى الليبيين قبل الغزو والاحتلال، أنها جعلت الشعب الليبي يستشعر تمادي التسلط الأوربي واشتداد خطر الغزو الإيطالي الذي أصبح قريبا كما كانت تعكسه عدة مؤشرات سياسية واقتصادية، منها:

ـ منح السلطات العثمانية لشركات إيطالية عقودا وامتيازات بإنشاء ميناء لمدينة طرابلس، وتمديد خط للسكك الحديدية في الدواخل،

ـ وكذلك النشاط المكثف للبعثات الإيطالية ذات الصبغة التعليمية والخيرية في البلاد، ما دفع الأهالي إلى التعبير عن غضبهم إزاء تزايد الخطر الإيطالي، عبر قيامهم بمظاهرات احتجاج في برقة ضد السلطان العثماني، وجعل الساحة الفكرية والإعلامية والنضالية مواتية لظهور العديد من المقالات الصحفية حادة اللهجة، تنتقد سياسة المهادنة العثمانية للعدوان الإيطالي المرتقب.

يقضة النخبة الليبية في مواجهة المؤامرات الدولية

ما أدى إلى اتساع نطاق سياسة لوم السلطات العثمانية والتي عبرت عنها آنذاك وثيقة وطنية موقعة من قِبَل مائتين وعشرين مواطنا من نخب المجتمع الليبي موجهة للوالي العثماني، تدين الأنباء المنتشرة في طرابلس عن تزايد الامتيازات الاقتصادية الإيطالية في البلاد.

وقد طالبت هذه العريضة بإنشاء شركات وطنية ذات صبغة أهلية، يدعمها رأس المال الوطني، ليقوم على عاتقها تمويل المشاريع التي تعتقد السلطات العثمانية أنها حيوية، وبالتالي تسد الطريق أمام هيمنة رأس المال الإيطالي.

تمكنت “الجمعية الخيرية السرية” من جعل الليبيين يدركون في ضوء مجريات الصراع الأوربي الأوروبي آنذاك، أن إيطاليا إذا أرادت أن تلعب دورا في السياسة الأوربية وهي بالفعل تسعى لأن تلعب مثل هذا الدور، فعليها أن تعمل على مقاسمة الدول الأوربية الكبرى حقها في شمال إفريقيا مهما كلف الأمر.

وبما أن تونس والجزائر قد أصبحتا من نصيب فرنسا، وبما أن مصر أصبحت من نصيب بريطانيا، فلا بد من أن تحظى إيطاليا بليبيا المنطقة الوحيدة المتبقية من الشمال افريقي خارج نطاق السيطرة الاستعمارية الأوروبية.

أدرك الليبيون إذن وبتأثير من الرؤى السياسة العميقة للجمعية الخيرية السرية، أن سيرورة الصراع الفرنسي البريطاني على المستعمرات في شمال إفريقيا، فتح الباب واسعا أمام إيطاليا لتتيسر لها سبل غزو ليبيا والحصول عليها من الرجل المريض “الدولة العثمانية”.

فبعد احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830 ثم لتونس سنة 1881، احتلت بريطانيا مصر سنة 1882.

وأمام هذه التطورات المأساوية في الأقاليم العربية الإفريقية من الدولة العثمانية، أصبحت ولاية طرابلس وبرقة “ليبيا”، هي الفاصل الوحيد بين الوجود الاستعماري الفرنسي والبريطاني على الساحل الإفريقي الشمالي، ومن هنا جاء اهتمام بريطانيا بأن تُحَدِّد مستقبل هذه الولاية العثمانية، حتى لا تكون مجاورة لفرنسا في الشمال الإفريقي، فأخذت بريطانيا ترنو ببصرها إلى دولة أقل شأنا من فرنسا لتجاورها في ليبيا.

فقررت أمام الطموحات الفرنسية فيها أن تجعل هذه الولاية التركية تقع بعد زوال الصفة العثمانية عنها تحت سيطرة دولة لا تصطدم مصالحها المادية مع المصالح البريطانية. فكانت إيطاليا هي هذه الدولة.

كما أن الليبيين انتبهوا في تلك الحقبة من الزمن إلى أن الإيطاليين يفكرون في إيجاد “المستعمرة المنفى” للتخلص من الفئات الإيطالية التي تُعَدُّ خطرا سياسيا مستمرا على دولة إيطاليا الموَحَّدَة.

كما أنهم فهموا أن التوسع الاستعماري خيار لابد منه لإيطاليا لكي تواجه سلبيات البطالة العمالية والمجاعة السكانية التي تفرضها طبيعة النظام الرأسمالي الجائر، كما فعلت الدول الأوربية الصناعية الإمبريالية الكبرى قبل ذلك “فرنسا” و”بريطانيا”.

خطورة الغزو الاقتصادي الاستعماري

هذا ولم تغب عن النخب الليبية مخاطر نفوذ وتغلغل مصرف روما في الحياة الاقتصادية لبلدهم. فقد امتلك هذا المصرف شبكة واسعة من الفروع المصرفية في مناطق اقتصادية حيوية مُطِلَّة على البحر المتوسط، كمصر وجزيرة مالطة ثم طرابلس وبرقة فيما بعد.

فإيطاليا اعتبرت منذ وقت مبكر أن طرابلس وبرقة ميدانٌ مناسب لاستثمار رؤوس الأموال، وسوقٌ لبيع البضائع والصناعات الإيطالية.

فقد بدأت الأموال الإيطالية تتسرب إلى الولاية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي فبراير عام 1873 تحقق لإيطاليا بفعل الاتفاق الموقع بينها وبين تركيا، أن تكون أكثر الدول الأوربية حظوة في مجال الاستثمار بالولاية. وبالنشاطات المصرفية لمصرف روما احتلت إيطاليا في طرابلس وبرقة المرتبة الثانية بعد بريطانيا في مجال الهيمنة الأجنبية على الأعمال التجارية والمصرفية.

فبالإضافة إلى سيطرة المصرف على بعض الأعمال، فإنه تحكم في توريد العديد من السلع الإيطالية إلى الإقليم، كالنسيج والأخشاب والرخام والنبيذ والسكر والأرز والجبن والورق وغيرها من السلع التجارية الإيطالية، بحيث تحولت طرابلس وبرقة مع مطلع القرن العشرين إلى مستعمرة اقتصادية إيطالية.

وكانت العلاقة التعاونية بين المصرف وبين حكومة روما دالةً في خطوط تناميها على قرب لحظة الغزو الإيطالي لليبيا. وهو ما أدركه الوطنيون الليبيون جيدا وحذروا منه.

كانت مساحات الأراضي الشاسعة التي اشتراها المصرف في طرابلس وبرقة، إيذانا بقرب الغزو الذي سيستحضر الآلاف من المستوطنين الإيطاليين الذين سيحتاجون إلى هذه الأراضي لتوطيد دعائم وجودهم في الولاية.

ولكن عندما تأجل الغزو لأسباب إقليمية، فإن المصرف عانى من أزمة أُجبر على إثرها على إعلان إفلاسه وبيع موجوداته في المزاد العلني، وهو ما جعل الدول الاستعمارية الأوربية تتسابق كي تحصل على ما تستطيعه من غنائم هذا المصرف الرخيصة، إلا أن هذا الإفلاس الذي اعتبره غلاة القومية الإيطالية إهانة لكرامة ومجد الإيطاليين، عزز لديهم النزعة الاستعمارية التي أسفرت عن تسمية طرابلس وبرقة في كتاباتهم بـ “أرضنا الموعودة” في تشابه تام مع فكرة “أرض الميعاد” في الفكر الصهيوني الذي راج في تلك الفترة بحثا عن مدخل للحظوة بفلسطين.

دعم المسيحية الكاثوليكية (الفاتيكان) لتسهيل احتلال ليبيا

لاحظ الليبيون بفعل نشاطات الجمعية الخيرية السرية وشبيهاتها من الجمعيات والمنظمات التي انتشرت في طول البلاد وعرضها في تلك الفترة أن الفاتيكان يُعد داعما أساسيا ولاعبا رئيسا في معادلة إعداد الساحات الإقليمية والدولية لتسهيل أمر احتلال إيطاليا لطرابلس وبرقة.

فقد أسهم الفاتيكان بنشاط عملي مكثف في تهيئة الرأي العام الإيطالي روحيا لجعله يقتنع بأهمية الحملة الإيطالية على ليبيا، لما يتوقع منها من إعادة لأمجاد المسيحية الكاثوليكية في الشمال الإفريقي.

وفي المقابل فقد حرص الفاتيكان على إعطاء صورة مؤلمة للتأخر وللفقر ولممارسة العبودية في طرابلس وبرقة، وهي الوسيلة التي ما فتئ الاستعمار الأوربي بكل مؤسساته التي يعد الفاتيكان أحدها وأهمها، يبرر بها حملاته المتلاحقة في هذا المكان من العالم أو في ذاك، وخاصة في الولايات العثمانية العربية المسلمة.

لهذه الأسباب مجتمعة تخلَّقَت حالة من الوعي المتميز لدي نخب الشعب الليبي بضرورة الاستعداد لمواجهة هذه المخاطر القادمة لا محالة، ما جعلهم يتحركون بكل ما في وسعهم لمحاولة منع هذا المشروع الاستعماري الجديد من أن يتحقق على أرض الواقع، بعد أن تمكنت الجمعية السرية الخيرية من أن تبث الوعي بذلك في صفوف قطاعات واسعة من أبناء الشعب الليبي، فكانت بحق أول منظمة عربية تنشأ في ذلك التاريخ المبكر على قواعد من الوعي بضرورة نشر ثقافة المقاومة الاستباقية.

***

د. أسامة كعنان ـ كاتب وباحث أردني من أصل فلسطيني

___________

المصدر: صحيفة رؤية ليبية

مواد ذات علاقة