بقلم عبد المنعم الجهيمي

كان ما تعرض له خمسة شباب بالجنوب الليبي من اختطاف وتعذيب وابتزاز علامة فارقة في تعامل سكان فزان وتعاطيهم مع المشهد الأمني في المنطقة كلها.

فبعد تكرر حالات الاختطاف على يد عصابات تشادية وفي عمق الأراضي الليبية صار من المعيب أن نعترف بوجود عسكري ليبي في الجنوب سواء لجيش الشرق أو كتائب الغرب.

دأبت القوى المتنفذة في الشرق على تبيان أنها من تسيطر على مشهد الجنوب وأنه صار يتبعها وهي من تُديرهُ وتتحكم في مجريات أحداثه، دليلها في ذلك مراكز وقواعد عسكرية تتواجد فيها فعلا قوات تتبعها، وبوابات تتناثر في الطرق الرئيسة بين المدن، وأخيرا بيانات بعض المجموعات والتشكيلات المحلية التي تُغير ولاءتها كما يٌغيرُ أحدنا ملابسه.

بالمقابل لم تنعكس هذه السيطرة على الوضع الأمني والمعيشي بالجنوب، فقد انعدم الوقود المدعوم ليسيطر تجار السوق السوداء على أسعاره، وازدهرت رحلات تهريب البشر من الجنوب إلى الشمال سعيا وراء قوارب الموت، واستمر نهب وتخريب المؤسسات الحكومية، فضلا عن سلسلة الهموم اليومية التي فاقمت الحياة في الجنوب وجعلتها صعبة على ساكنيه، وأخيرا سلسلة من الحروب والاضطرابات والانقسامات التي لاتنتهي، وتحصد في كل مرة أرواح الأبرياء من هنا وهناك.

وفي الطرف الآخر دأبت حكومة الوفاق وآلتها الإعلامية في التأكيد على أنها من تسيطر على الجنوب وتتحكم في سير أحداثه، دليلها في ذلك تبعية أغلب المؤسسات الخدمية لحكومة الوفاق حيث المرتبات والخدمات، إضافة لمواقف بعض التشكيلات المسلحة التي لا تزال منضوية تحت لواء حكومة الوفاق مستفيدة من المزايا التي قد يوفرها هذا الولاء.

وبالمقابل لم تنعكس هذه السيطرة المزعومة على وضع سكان الجنوب، فلا يزالون تحت وطأة نقص السيولة وارتفاع الأسعار والفلتان الأمني وفوضى الإدارات المحلية.

هذه الفوضى وإصرار كلا الطرفين على إدعاء السيطرة عليها مكنت المسلحين والعصابات الأجنبية في الجنوب، فصار المواطن يسافر بعد أن يستوثق ويتأكد من سلامة الطريق قدر الإمكان، أو يسافر في مجاميع كبيرة ظنا منه أن هذه المجاميع قد تحميه، وحين يقع أحدهم فريسة تلك الجماعات يبكي عليه البعض على وسائل التواصل الاجتماعي، ويشرع أهله في جمع فديته قبل أن يقع قتله.

في الحادثة الأخيرة التي وقعت في السابع من أكتوبر الجاري تغيرت الموازين، وتوقف الناس عن استجداء عطف الجيش في الشرق أو حكومة الوفاق، وظهر دور أكثر فاعلية للكتائب المحلية في أم الأرانب وتمسة تراغن وغيرها، والتي سعت جميعها إلى ملاحقة العصابة التي كانت قد اختطفت الشباب، وقادت في سبيل ذلك عملية عسكرية أفضت لإطلاق سراح المختطفين وفرار الخاطفين، وكان الثمن باهظا فقد سقط عشرة أشخاص من القوى التي كانت تلاحق الخاطفين وجرح اثنين.

فداحة الثمن المدفوع وضعت الكتائب المحلية تحت خيار واحد وهو تشكيل جسم يقع بواسطته محاصرة أوكار العصابات في حي عمارات الشركة الصينية بأم الأرانب وملاحقة فلولها وتأمين الصحراء.

هذا الانتصار الذي حققته كتائب محلية أوجد لها تأييدا شعبيا في الجنوب، كون أغلب سكانه اكتووا بنار العصابات إما خطفا أو قتلا أو تهديدا أو إذلالا ومهانة، وصعُب على القوى الفاعلة في شرق البلاد أو غربها أن يمضي هذا الانتصار دون أن يكون لها فيه نصيب، فشرعت كل منهما تعلن عن ترتيبات وإرسال قوات أو دعم لتلك الكتائب من أجل تأمين الجنوب.

ولكن هنا يقع الخلط الذي يقع فيه الكثيرون، الجنوب مقسم إلى مناطق نفوذ وسيطرة بين القبائل الكبيرة، ولكل قبيلة أو مكون كتائبها المسلحة، والتي تعمل وفق حسابات معقدة ومتداخلة بين أهواء ومصالح أمراء الكتائب وبين مصلحة القبيلة وأعيانها.

هذا المشهد الذي ترسخ عبر سنين من الحروب والنزاعات والشرعنة يصعب تفكيكه أو محاولة تغييره بسهولة، فكل حكومة تأتي للجنوب ترى أنها مضطرة لإقرار هذه التقسيمات واللعب معها بما تسمح به المصلحة، وبعد فترة تزول الحكومة ويأتي غيرها وتظل التقسيمات موجودة ومترسخة.

الحل في الجنوب ينبع من تلك القبائل الكبيرة التي تتحكم في مناطق نفوذها بشكل اعتباطي لا تراعي فيه إلا مصالحها، أما محاولة زيادة إرباك المشهد بإدخال تشكيلات مسلحة جديدة أو شرعنة تشكيلات على حساب أخرى فلن يفيد هذا بشئ.

من أراد حل مشكلة الجنوب عليه أن يعي هذه الخصوصية ويتحرك وفقها، وإلا فاتركوه في تلك الفوضى حتى يستقيم لكم الأمر وتدين لكم البلاد عندها لن يكون من الصعب احتواء الجنوب أو التخلص منه.

***

عبد المنعم الجهيمي / كاتب وصحفي ليبي

__________

مواد ذات علاقة