بقلم علي عبداللطيف اللافي

لا يختلف اثنان أن الصراعات المُتواصلة في ليبيا وإن كانت بين أطراف ليبية فإنها في حقيقة الأمر واجهة عملية لحروب بالوكالة تخُوضها أطراف ومكونات وتشكيلات ليبية عبر الولاء المباشر وغير المباشر لأطراف إقليمية ودولية.

وهذه الأخيرة لها مصالح ومطامح في ليبيا تاريخيا واقتصاديا وثقافيا واستراتيجيا، بل أن كل ما يهم تلك القوى الدولية وأذرعها الإقليمية هو فقط ترسيخ حضورها الاستراتيجي واللوجستي المستقبلي في كل أرجاء القارة الإفريقية.

وان كان الهدف المرحلي، هو بسط النفوذ وتطويع الثروات الباطنية في شمال افريقيا وبعض دول الساحل والصحراء الافريقية، فماهي ملامح توازن القوى محليا واقليما ودوليا وهل سيؤدي ذلك للجلوس على طاولة الحوار باعتبار أن الحل السياسي أصبح ضرورة حتمية فرضتها التطورات والمتغيرات خلال الأشهر والأسابيع الماضية؟

الجزء الثاني

توازن الضعف داخل وبين مكونات الأطراف الدولية

معطيات وملاحظات أساسية

أغلب الأطراف الدولية سعت وتسعى للتأثير في مسارات الملف الليبي لأسباب متعددة ومختلفة بناء على مغانم الاستثمار وإعادة الاعمار المنتظرة في ليبيا إضافة الى ثروات غدامس وغيرها من المدن والأراضي الليبية وهي ثروات هائلة ونادرة لا تُقدر بثمن وأهمية استراتيجية.

إضافة الى الموقع الجغرافي غير العادي والنادر لليبيا بناء على اطلالتها الاستراتيجية على البحر المتوسط  ثم تماسها الجغرافي مع دول الساحل والصحراء وباعتبارها منفذا استراتيجيا وفريدا للعمق الافريقي، وبغض النظر عن المواقف الدبلوماسية المعلنة فانه لابد من التأكيد على الملاحظات التالية:

أ القوى الدولية التي لها هامش قرار غير مرتبط بقوى دولية أخرى هي عمليا الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين بينما يمكن تصنيف كل القوى الدولية الأخرى أنها على ارتباط فعلي واستراتيجي بالسياسات الامريكية.

بينما تحاول قوى دولية وإقليمية أخرى أن تكتسب هوامش في التحرك والتأثير وخاصة في الملف الليبي والبحث عن الخروج من جبة الدور الوظيفي. كما تحاول دول إقليمية على غرار تركيا وإيران أن تكتسب أدوارا خارج الدور الوظيفي في ابراز واكتساب أدوار أخرى في عدد من الملفات من بينها الملف الليبي وهو أمر جلي وواضح في مرحلة ما بعد مايو 2014.

ب في ليبيا بالذات لا يمكن للألمان والايطاليين وحتى البريطانيين التصادم مع الخيارات الأمريكية أو حتى السباحة بعيدا عن تكتيكات الدولة العميقة الامريكية بغض النظر عن الإدارة الامريكية والتي هي في الحقيقة لا تمثل سوى إعطاء النكهة للقرار والسياسات الامريكية.

ويعرف المختصين والمتابعين أن بعض الدول من بينها من ذكرنا أعلاه تلعب أدوارا رئيسية في ما يظهر أن الأمريكيين غير مهتمين بالملف الليبي في السنوات الأخيرة كأولوية وخاصة بعد اغتيال السفير الأمريكي في 2012 ولكن المسألة اعمق من ذلك بكثير حيث أن بعض الدول والقوى الاقليمية تخدم منهجيا وعمليا أدوارا بالوكالة للأمريكيين (أو أدوارا وظيفية) والبعض الآخر يلعبا أدوارا مرحلية وتكتيكية حتى لبعض الأجهزة الأمريكية والدفع نحو أجنداتها المرحلية والاستراتيجية.

ت أدوار ومواقف قوى إقليمية على غرار الجزائر والسودان والأردن غير متمركزة ضمن المحورين الاقليمين الرئيسيين (التركي القطري – الاماراتي السعودي المصري) كما اسلفنا ذكره في الحلقة الأولى.

وهي تدير سياساتها بهوامش معتبرة على بعض القوى الدولية ولكنها لا يمكن لها استراتيجيا التصادم معها ويقع الضغط عليها بطرق مختلفة فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وان كان النظام الأردني يلعب دورا وظيفيا منذ عقود بل منذ نشأته فان الجزائر والسودان أدوارها غير وظيفية ولكنها لن تكون مستقبلا مصطدمة مع السياسيات الأمريكية في المنطقة وخاصة في العلاقة بالملف الليبي.

ث دول مجاورة ودول لها علاقات مباشرة وغير مباشرة بالملف الليبي على غرار تونس والمغرب وموريتانيا والسينغال والكونغو لم ولن يكون لها أدوار تأثيرية مباشرة نتاج العقل السياسي للديبلوماسية فيها.

إضافة الى أنها لم تصطف بشكل مباشر ضمن المحورين الإقليميين المذكورين أعلاه ولكنها ستكون خادمة بشكل آلي للسياسات الأمريكية وستقترب من الايطاليين في الملف الليبي وان كان للبعض منها هوامش مصالح مع الفرنسيين ثقافيا واقتصاديا وحتى سياسيا.

توازن القوى بين أجهزة الإدارات الفاعلة في القوى الدولية

من البديهي أن أي إدارة حاكمة لأي قوة دولية ليست وحدة متكاملة وان هناك صراع بأشكال مختلفة بين أجهزة كل دولة لطبيعة المصالح الاقتصادية والسياسية والصراع بين اللوبيات.

وينعكس ذلك في فعل دبلوماسية أي دولة تجاه كل القضايا الدولية وفي التفاعل مع أي أزمة، وهو أمر جلي في تضارب المواقف تجاه تطورات الأزمة الليبية منذ 2014 ، وتعود أسباب ذلك الى تأثير اللوبيات في كل دولة إضافة الى تضارب مصالح شركات عابرة للقارات ولوبيات ومحافل عالمية وتأثيراتها من دولة الى أخرى وخاصة في مواضيع تتعلق بالغاز والنفط والمعادن الهامة والنادرة.

وبالتالي فان الملف الليبي لم يكن يوما متفق عليه من حيث القرارات ودعم هذا الطرف أو ذاك او اتخاذ سياسيات معينة تجاهه وعلى سبيل الذكر فان هناك خيارين متصارعان في وسط الإدارة الفرنسية حيث يحبذ وزير الخارجية الحالي ( وهو وزير دفاع سابق) التمسك بحفتر كخيار مرحلي لحكم ليبيا ودعم المؤسسة العسكرية لحكم ليبيا أي استنساخ فعلي للنموذج المصري (أي تكريس خيار “سيسي ليبيا”) أو “قذافي ثاني” لحكم ليبيا مستقبلا.

بينما ترى أجهزة فرنسية أخرى وفقا لتحاليل الخبراء أنه وجب تفعيل الحل السياسي واجراء وفاق بين فرقاء الصراع وهذا الخيار تم دعمه منذ بداية أكتوبر الحالي وخاصة بعد تعيين السفيرة الجديدة والاعلان المبدئي عن فتح السفارة في أبريل المقبل.

توزان القوى بين الفرنسيين والأمريكيين في الملف الليبي

لا شك أن القارة السمراء ومنذ سنوات ان لم نقل منذ عقود هي محور صراع بين دول عديدة فالحضور المتنامي للإيرانيين والصينيين والأتراك والامريكيين والروس لم يلاق الارتياح من طرف القوى التقليدية او التي استعمرت الدول الإفريقية على غرار بريطانيا وفرنسا.

ولعل ليبيا هي أكبر تجسدات ذلك الصراع وهناك صراع وتسابق فرنسي أمريكي غير معلن حول الحضور في ليبيا وخاصة بعد امتداد الحضور الفرنسي في الشرق الليبي وقدرتهم منذ اشهر على الاحتواء المتدرج لعملية الكرامة بقادة حفتر بناء على تعامل عسكري وأمني ولوجستي في معاركه في كل من بنغازي ودرنة وحتى عند سيطرته المؤقتة على الحقول النفطية أواخر يونيو/جوان الماضي.

بل أن الأمريكيين لم يكونوا مرتاحين ابدا للحضور الفرنسي منذ ربيع 2017 وهناك نقاط استفهام حول سقوط المروحية الفرنسية يومذاك وتساؤل حول من أسقطها تحديدا كما أن مسارعة الأمريكيين الذين تفاعلوا بديبلوماسية مع الافتكاك الذكي للفرنسيين للملف الليبي وأعادوه للإيطاليين بطرق ناعمة وهادئة وبروية.

إضافة الى أن ما قام به الجضران في بداية يونيو الماضي وانسحابه بطريقة شبه آمنة تدل على صراع أجهزة بين دول في الهلال النفطي الليبي وهو ما اثبتته الوقائع اللاحقة من مؤتمر روما الى لقاء السراج بالسفراء السبع وإعادة إدارة الحقول النفطية لطرابلس وحكومة الوفاق، وما ترتب على الحضور القوي لستيفان وليامز في أدوار البعثة الأممية منذ مباشرتها لمهامها في بداية يوليو الماضي.

توازن القوى بين الروس أو بقية الأطراف الفاعلة في الملف الليبي والامريكيين

على غرار تفاعلهم مع التقدم الفرنسي في ليبيا عسكريا وسياسيا تفاعل الأمريكيين مع الحضور الروسي عسكريا وسياسيا بدبلوماسية والاعلان عن قلقهم الهادئ وخاصة عندما تطورت العلاقات بين حفتر والروس سنتي 2016 و2017 .

كما أنهم لم يرتاحوا لتفعيل الصينيين لطريق الحرير في القارة الافريقية أو بتطور العلاقات التركية الافريقية، كما أنهم بقوا رهين سياساتهم الاستراتيجية التي تؤكد على عدم التدخل المباشر في كل الساحات وخاصة بالتوازي وفتح الجبهات المتعددة.

وما يمكن تأكيده أنهم يقرؤون التطورات الكبيرة للحضور الإقليمي والدولي لعدد من القوى الأخرى بما فيهم حلفائهم الأوروبيين.

والخلاصة في هذه النقطة أن هناك توازن بين الحضور الأمريكي ومطامح قوى أخرى بنت استراتيجيتها منذ سنوات من أجل الحضور الفاعل في القارة الافريقية وما ليبيا الا مثال لذلك.

توازن القوى بين الايطاليين والفرنسيين

استطاع العقل السياسي الفرنسي مع وصول ماكرون للحكم استقراء مستقبل القارة الافريقية وتطور حضور قوى دولية أخرى فيها، فتم بناء استراتيجيات ديناميكية لقوة الحضور والفعل والتأثير.

وتم منذ يوليو 2017 امتلاك الملف الليبي واداراته والتواصل مع القوى السياسية والاجتماعية في ليبيا وصولا لمؤتمر باريس في نهاية مايو الماضي وطبعا وظف الفرنسيون الازمة السياسية ـ الإيطالية والتي قاربت الست أشهر.

كما وظفوا لاحقا تردد الايطاليين في إرساء سياسة استراتيجية مع تطورات الملف الليبي، الا أن الايطاليين ومنذ يونيو الماضي سارعوا الى تبني خطاب أن الملف الليبي وادارته حق تاريخي وجيوسياسي لهم وسارع أهم الوزراء على غرار الدفاع والخارجية والسفير في طرابلس القيام بلقاءات متعددة ومؤثرة وتعددت الزيارات المكوكية لعواصم دول الجوار ولطرابلس وطبرق وحتى القاهرة حيث بقي الملف الليبي لأسابيع رهين مفاوضات مستمرة بين الايطاليين والمصريين خلال شهر أغسطس الماضي.

ولاحظ جميع المتابعين يومها تمسك الايطاليين بإدارة الملف الليبي وهو ما بينته مقابلة السفير الإيطالي مع أحد القنوات الليبية، كما تمسكوا بأن يكونوا شركاء في ملفات المنطقة ككل على غرار مقترحاتهم للدول المغاربية بخصوص ملف الهجرة غير الشرعية.

وبعد ذلك أصروا على رفض مخرجات اتفاق باريس التقنية بالذات من حيث تأجيل الانتخابات حتى إقرار دستور واجراء مصالحة فعلية ولعل تحديدهم لموعد مؤتمر باليرمو يومي 12-13 الحالي أهم مؤشرات امتلاك زمام الأمور في إدارة الأمور بمباركة الأمريكيين وأغلب الدول الأوروبية ورضا متنامي من دول الخليج والمصريين والتونسيين والجزائريين أيضا.

ولكن نتائج المؤتمر التي تتجه نحو برمجة اتفاق سياسي معين لاتفاق الصخيرات عبر حضور دولي قوي في باليرمو رغم تواسط التجاذبات نتاج معطيات محلية وإقليمية ودولية خلال الأسابيع الماضية ونتاج رهانات إيطالية داخلية تهم الميزانية وملفات أخرى في اطار التجاذبات بين راي الائتلاف اليميني الحاكم في روما.

مستقبل تطورات الملف الليبي في أفق سنة 2018

هناك توازن قوى محلي بين أطراف الصراع وتوازن قوى اقليمي ودولي في التعامل مع مفردات المشهد الليبي المعقدة والمتداخلة ويظهر أن الجميع سيضع بيضه في سلة مؤتمر باليرمو لحل مرحلي وتكتيكي للازمة الليبية المستفحلة منذ منتصف سنة 2014.

ويظهر أن خيار الاستئناس بالتجربة التونسية أصبح أقرب وهو ما يمكن استنتاجه من تراجع المصريين وحلفائهم الإماراتيين عن شروطهم ومناوراتهم السابقة وقبولهم بالإدارة الإيطالية أي الذهاب في اتجاه مقولة ترامب عند لقائه بوزير الخارجية الإيطالي منذ أشهر أن الحل في ليبيا هو ان تتوافق أطراف الصراع في ليبيا ضمن سياق المضي في مصالحة وطنية ليبية تدفن آلام الماضي وتوافق سياسي بين تياري فبراير أي الإسلاميين والليبراليين من جهة وبين تيار فبراير وتيار سبتمبر من جهة ثانية رغم أن أنصار القذافي لم ولن يكونوا وحدة متكاملة يوما ما.

________________

المصدر: صحيفة الرأي العام

مواد ذات علاقة