مقالة الاستاذ عبد الرزاق العرادي كشفت عن حالة التدافع السياسي بين أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الليبية وعلاقة ذلك التوتر بمشكلة الجماعة مع مواقف وسياسات حزب العدالة والبناء الذي يعتبر بمثابة الواجهة السياسية للجماعة.

***

نورد هنا مداخلتين مهمتين لكاتبين على معرفة وثيقة بشؤون بجماعة الإخوان المسليمنو حزب العدالة والبناء”:

الأولى: مداخلة الاستاذ السنوسي بسيكري

ما الذي وقع بين “العدالة والبناء” وجماعة الإخوان الليبية؟

إن من أكبر التحديات التي تواجه التنظيمات الإسلامية التي تتبنى طرحا شموليا يغطي مختلف مناحي الحياة هي الوصول إلى صيغة مثلى تجسد التكامل بين المجالين: السياسي المعقد والاجتماعي الواسع.

وراجع تجارب الحركات الإسلامية التي تعتبر أن مفهوم الدعوة لا ينحصر في المساجد وأن أصداءها تصل إلى قباب البرلمانات ودهاليز السلطة التنفيذية، فستجد أنها إما انحازت كليا إلى أحدهما وهو غالبا السياسي، أو أخفقت في تحقيق إنجاز في كليهما، والاستثناءات محدودة جدا.

أسباب الخلاف

هذا هو المدخل الصحيح لفهم الخلاف الواقع اليوم بين حزب العدالة والبناء وجماعة الإخوان المسلمين الليبية، أكبر المؤسسين له، وما كان للخلاف ألا يقع، كما أن كل أوجه التجاذب الأخرى متفرعة عن الأصل وهو الإخفاق في الجمع أو الفصل بين المسارين الأساسيين، السياسي والدعوي.

كل المؤشرات تؤكد على أن الأزمة الراهنة إنما نجمت بسبب تزايد شعور جماعة الإخوان، أو شريحة مهمة فيها، بعدم الرضى عن نتائج مقاربتها في تأسيس حزب بمشاركة آخرين يكفيها عناء العمل السياسي، وعندما تقع الأزمة تتحرك عوامل أخرى تغذي الخلاف، ومن ذلك اختلاف محاضن التكوين، وتعدد المشارب، أو تضارب المصالح، ولا نستبعد الحزازات الشخصية والتي تقع بين القيادات ليس بالضرورة لأسباب فكرية أو سياسية أو إجرائية.

المقاربة التنظيمية شديدة المركزية وشديدة الإنضباط بقيم تكوينية في جماعة الإخوان تجعل مسألة الاستقلالية التامة للحزب غير مقبولة. ولقد واجهت قيادة العدالة والبناء ممثلة في رئيسه هذا الموقف بصرامة فصار الحزب بالفعل مستقلا والدليل أن مساره السياسي شكل قلقا للجماعة في عدة محطات منه وعبرت عن قلقها هذا في بيانات عدة.

الجماعة، أو شريحة ذات وزن من أفرادها، ترى أن الحزب يحمِّلها وزر ما تعتبره أخطاء، خاصة بعد مشاركة الأخير في الوفاق بشكل منفرد وانعزاله عن الكتلة الإسلامية والوطنية والذين شكلوا بمجموعهم عملية فجر ليبيا، تماما كما يعتقد الحزب أن ربطه بالإخوان يشكل عبئا عليه داخليا وخارجيا.

أزمة الحزب أم أزمة الجماعة

ما ذكره الأستاذ عبد الرزاق العرادي من وجود خلاف داخل جماعة الإخوان حول ما ينبغي فعله إزاء حالة الشلل الذي تعانيه الجماعة ـ صحيحٌ، فهناك تدافع عالي الوتيرة حول شكل التغيير المنشود واتجاهه، لكني أميل إلى الرأي القائل بأن إطلالة العرادي ليس بهدف مناقشة وضع الجماعة، وأن توقيت المقال له علاقة بمشكلة الحزب مع الجماعة.

أتصور أن ما حفَّز العرادي لفتح الموضوع هو الخلاف داخل الحزب بين كتلتين، الأولى هي التي تمثلها القيادة الحالية، والثانية تتزعمها قيادة غائبة في الماضي وحاضرة اليوم وترغب في المنافسة على منصب الرئيس في الانتخابات المقبلة على خلفية أن الحزب في حالة جمود وأنه اكتفى بالشراكة في الوفاق وتوقف عنده

مربط الفرس

الزج بالجماعة في الخلاف الواقع داخل الحزب والذي أشار إليه العرادي، وصرح به بشكل مباشر القيادي في الحزب عبد السلام جويد يعكس تأثير أعضاء الجماعة في الحزب.

أفراد الجماعة يمثلون ثقلا ضمن قاعدة حزب العدالة والبناء، وحظوظ من يحوز على تأييدهم أكبر في الفوز برئاسة الحزب،

ليس خافيا وجود عدد لا بأس به من أفراد الجماعة يتحفظون على الاتجاه الغالب في الحزب وكان من مظاهر تحفظهم مطالبة رئيس الحزب، في بيان انتشر على الفيس بوك، بتجميد نشاط القيادي البارز في العدالة والبناء صلاح الشلوي، وذلك على خلفية تصريحات متكررة له أثارت سخطهم.

أفراد الجماعة يمثلون ثقلا ضمن قاعدة حزب العدالة والبناء، وحظوظ من يحوز على تأييدهم أكبر في الفوز برئاسة الحزب، ويمكن أن يفهم تصريح جويد برفض تدخل الجماعة في الحزب ضمن هذا السياق، كون جويد ضمن قيادة الحزب المتحفظة على الطرف الذي يدفع باتجاه التغيير في الانتخابات المقبلة والذي على رأسه عماد البناني.

إلى أين يتجه الخلاف؟

أحسب أن الأزمة الحالية داخل الحزب، وبين الحزب والجماعة، تدور في السياقات التي أشرت إليها أعلى، وزخمها الراهن إنما أخذ حيزه باقتراب موعد انتخابات رئاسة الحزب، والبحث عن بديل لمحمد صوان الرئيس الحالي الذي استنفد حقوقه في الترشح بعد أن قاد الحزب لدورتين متتاليتين.

على أي حال ليست هذه الخلافات بالشيء الغريب على التكوينات السياسية حتى الإسلامي منها، ومن الخطأ الاعتقاد بأن التجمعات الإسلامية مبرأة من الخلافات والنزاعات.

ونحتاج أن ننتظر ما ستسفر عنه الإنتخابات المقبلة، إذ ليس من المستبعد أن ينفصل أنصار القيادة الحالية في حال فاز معارضوهم، وهناك احتمال أن تقع انشقاقات داخل الجماعة، لكن أتوقع أن تكون معدودة وتأثيراتها محدودة.

وينبغي التنويه إلى أن الوزن السياسي لكلا الجسمين في حال وقع انقسام في الحزب سيعتمد على تأييد أغلبية أفرد الجماعة، ولا يعني ذلك أن الخلاف الراهن لن يتكرر، فهو محتمل جدا لأن أسبابه قائمة وتتعلق بإشكالية الجمع أو الفصل بين المسارين السياسي والدعوي.

***

الثانية: مداخلة الاستاذ على أبوزيد

الجماعة ومغامرة السياسة

لا يستطيع المتابع للمشهد الليبي أن يتجاوز حالة التجاذب بين جماعة الإخوان المسلمين الليبية وحزب العدالة والبناء، ورفض الأخير ما سمّاه محاولة الجماعة الاستحواذ على الحزب والسيطرة على القرار فيه بما يخالف نظامه الأساسي الذي ينص على استقلاليته عن الجماعة –حسب بيان دائرة الإعلام في الحزب-.

حدث هذا نتيجة ما سُرِّب عن إصدار الجماعة بياناً داخلياً تحرّض فيه أعضاءها المنتسبين لحزب العدالة والبناء على تجديد عضويتهم استعداداً للانتخابات الداخلية للحزب والتي ستفرز قيادة جديدة له بعد إعلان رئيسه الحالي “محمد صوّان” رفضه التمديد لنفسه أو ترشيح نفسه مرة أخرى لرئاسة الحزب، وهذا يشير بوضوح إلى نية الجماعة العودة بقوة إلى معترك السياسة خاصة وأن البلاد مقبلة على انتخابات عامة محتملة العام القادم.

حالة التجاذب التي ربما بلغت درجة من الحدّة غير خافية بين قيادة الحزب والجماعة تؤكد بصدق اختلاف التوجه السياسي عمق الخلاف بينهما، وأن قيادة الحزب مستقلةٌ في قرارها بعكس ما يروّج له المناوئون للحزب ومواقفه من التيارات الأخرى.

وعند البحث عن جذور الخلاف نجده بدأ منذ انخراط الحزب في مسار الحوار الذي بدأ أواخر سنة 2014، حيث أدركت قيادة الحزب من خلال تعاطيها مع الواقع ضرورة هذه الخطوة للبقاء بفاعلية في المشهد بينما رفض الطيف الأوسع من الجماعة هذه الخطوة مما أدى إلى تصدعات وشروخ كادت تودي بالحزب لولا تماسك قيادته وحسن استثمارها للإمكانات المتاحة لديها على الصعيد السياسي الذي يعتبر نجاحاً هاماً إذا قورن بما آلت إليه غيره من الأحزاب.

استقال بعض أعضاء الجماعة الرافضين لتوجه الحزب المنحاز لمسار الحوار وآثر آخرون الانعزال ليشاهدوا ما يؤول إليه الحزب، والذي تمكن من البقاء في المشهد كأكثر الأحزاب تأثيراً وأقدرهم مرونة على التعاطي مع المتغيرات السياسية.

وبإعلان قيادة الحزب الحالية عدم ترشحها مرة أخرى يبدو أن الجماعة تريد العودة إلى المشهد السياسي مرة أخرى من بوابة حزب العدالة والبناء التي ساهمت في تأسيسه، والذي له الرصيد الأكبر بين الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة.

ولكن يبدو أنها هذه المرة تريد العودة بسيطرة أكبر على الحزب وعلى قراره السياسي، وهنا لا بد من التساؤل هل الجماعة بوضعها الحالي قادرة على خوض غمار السياسة والتأثير في المشهد الوطني؟

بعيداً عن الخطاب المعادي للجماعة الذي يصورها محوراً للشرّ وأصلاً للبلاء، فإن كل منصف يدرك أن أدبيات جماعة الإخوان المسلمين هي أكثر أدبيات الحركات الإسلامية اعتدالاً ومرونة وتجاوباً مع الواقع وتأصيلاً له.

إلا أن الحالة الخاصة بكل بلدٍ يوجد فيه من ينتمي لفكر هذه الجماعة تفرض عليهم أن تكون لهم مرجعيتهم الفكرية المستقلة القادرة على التعاطي مع واقعه بما يحقق رؤيتهم المنسجمة مع المصلحة الوطنية والمؤطّرة في إطارها.

والناظر لحال جماعة الإخوان المسلمين الليبية لا يخفى عليه انعدام هذه المرجعية الذي انعكس تيهاً وشتاتاً بين أفرادها، وغياباً لنشاطها الدعويّ وتأثيرها في المجتمع، بل بعبارة صريحة وواضحة يستغرب المتابع لحال الجماعة كيف يعتبر كثير من أعضائها دار الإفتاء مرجعيته وهي التي يرفض مفتيها فكرة وجود الجماعة أصلاً.

كما أن نهج الجماعة في عمومهيشبه نهج دار الإفتاء في التعاطي مع الشأن السياسي، وهو نهجٌ مربكٌ لكل من يتبناه لعجزه عن التعاطي مع الواقع، فالعمل السياسي لا ينطلق من مبدأ الحق والباطل الذي لا يخفى على أحد، بل العمل السياسي يسعى لدفع الضرر ودرء المفسدة وجلب المصلحة، وموازنة المفاسد والمصالح واعتبار المآلات.

وهذا التعاطي هو ما يفرضه الواقع السياسي، وهذا ما تعجز الجماعة عن الوصول إليه في تعاطيها الشأنَ السياسي ويجعلها معزولةً عن الواقع غير قادرةٍ على التأثير فيه.

كما أن ضمور النشاط الدعوي للجماعة وغياب خطابها جعل قاعدتها محدودة جداً وغير مؤثرة، إضافةً إلى أن الدعاية الشرسة الموجهة ضدها جعلت صورتها النمطية في أذهان الناس مقترنة بالرفض مما يجعل فرص نجاحها مجتمعياً ضئيلةً جداً، إضافة إلى ذلك فإن كثيراً من وجوه الجماعة البارزة بعيدةٌ تماماً عن واقع الحالة الليبية، وهي غير مستعدة للتخلي عن حياة الترف التي تحياها متنقلةً بين عواصم عدّة منشغلة عن الشأن الوطني، لذلك فإن تأثير هؤلاء على قرار الجماعة فيما يخص الشأن الوطني سيكون غالباً مجافياً لما يتطلبه الواقع لبعدهم عنه.

إن ما تحتاجه الجماعة ليس مجرد مراجعات وهيكلة جديدة، إنها في حاجة ملحة إلى إعادة تأصيل يعتبرُ الواقع ويتفهمه جيدا ويبني من خلاله كوادره بعيداً عن خطاب العاطفة والاتكاء على الرصيد الفكري للجماعة في أقطار أخرى.

إن تقحّم الجماعة للمشهد السياسي بهذا التيه والعجز والعزلة سيكرّس حالة الرفض المجتمعية المقترنة بها، وستكون عواقبه مدمّرة على الحزب الذي استطاع أن ينجو وينجح في أخطر وأصعب المنعطفات السياسية التي شهدتها الساحة الوطنية وأثبت أنه عنصر توازن مهم في العملية السياسية وثقل اعتدال لا يمكن تجاوزه، كما أن أي شخصية تدفع بها الجماعة في حالتها هذه لقيادة الحزب مهما كان لهذه الشخصية من قدرات القيادة ورصيد الخبرة ستكون مكبلة بقيود فوضى المرجعية ومشوشة بضبابية الرؤية التي تعانيها الجماعة مما سينعكس سلباً على أدائها السياسي والحزب بشكل عام.

__________

مواد ذات علاقة