بقلم علي عبد اللطيف اللافي

لا يختلف اثنان أن الصراعات المُتواصلة في ليبيا منذ منتصف 2014 وإن كانت بين أطراف وفرقاء ليبيين، فإنها في واقع الأمر واجهة عملية لحروب بالوكالة تخُوضها أطراف ومكونات وتشكيلات ليبية عبر الولاء المباشر وغير المباشر لأطراف إقليمية ودولية وهذه الأخيرة لها مصالح ومطامح في ليبيا تاريخيا واقتصاديا وثقافيا واستراتيجيا.

الجزء الثاني

استراتيجية الفرنسيين الصامتة تجاه الايطاليين والمؤتمر الدولي

مما لا ريب فيه أن الفرنسيين وان بدوا هادئين ظاهريا لافتكاك الايطاليين للملف منهم ما بعد مؤتمر باريس في نهاية آيا/مايو الماضي بعد امتلاكهم العمل واللوجستي له منذ ربيع 2017، فانهم اعتمدوا سياسات خفية وصامتة في انتظار التطورات والمتغيرات وعمدوا الى توخي ديبلوماسية احتوائية وخاصة أثناء وبعد مؤتمر “باليرمو”، وطبعا تم تنزيل ذلك عن طريق حلفائهم الموضوعيين أي قيادات الكرامة ومن ورائهم المصريين والاماراتيين وقوى أخرى غير ظاهرة في الصورة.

ولم يبق الفرنسيون مكتوفي الأيدي حيث تحركوا في كل الاتجاهات مثلما فعل الايطاليون قبل وأثناء وبعد مؤتمر باريس، وتطور فعلهم تكتيكيا عبر عدد من اللقاءات مع الفاعلين الليبيين على غرار استقبال ماكرون للطاهر السني (مستشار السراج السياسي) بداية الشهر الحالي، وأيضا تلاحقت تكتيكات الفرنسيين من خلال استقبال وفد عن نواب مصراتة قبل أسبوع فقط من المؤتمر إضافة الى احداث وتطورات في الداخل الليبي قريبة من فاعلين قريبين من الفرنسيين، ولاشك ان رسائل الايطاليين المعبرة عن مكانة للفرنسيين والتوافق معهم لم تكن مفلحة في استراتيجيات الارباك التي قد تكون أنجزت بطرق مختلفة وعبر اشكال غير مباشرة.

الخلاصة أن الايطاليين وان بدت خطواتهم واستراتيجيتهم قبل وأثناء المؤتمر الدولي مرتبكة، فانهم بدوا متزنين حيث لم يفقدوا البوصلة، ومارسوا ديبلوماسية حذرة تجاه جميع الأطراف وبدلا من الإصرار أن يكون المؤتمر ناجحا بشكل كامل أو ينفجر، اتبعوا سياسة تحقيق وضمان الحد الأدنى عبر اختيار أن يكون المؤتمر مؤديا للمؤتمر الجامع ثم لاحقا تبنى على قراراته عملية انجاز الاستحقاقات الانتخابية في ربيع 2019.

وإضافة الى كل ذلك نجح الايطاليون في:

أ بعث رسائل انهم طرف دولي مهم وشريك مقتدر ورئيسي وخاصة مستقبلي في القضايا الاقليمية وخاصة تلك التي تهم القارة الافريقية حيث امتلكوا الملف الليبي بل وأداروه بحكمة واتزان وشراكة رغم أن النجاح يعتبر نسبيا من حيث النتائج المباشرة.

ب دعموا البعثة الأممية وفكرة اشراك الليبيين في الترتيبات للمؤتمر وفي مخرجاته، ولعل كلمة سلامة كانت دالة عندما قال “ان المؤتمر كان وسيكون جسرا للحل نحو المؤتمر الوطني الجامع”، وبذلك أفلح الايطاليون في إعطاء فكرة إعادة اشراك الليبيين في الحل أبعادها الرمزية والدلالية من خلال أن كان المؤتمر رافعة وحل أولي للتوجهات الكبرى للخارطة الأممية المستقبلية عبر تحيد موعد انتخابي بعد مرحلة مقبولة (نوفمبر – جوان أو سبتمبر) عمليا وأطول من المدة التي منحها لقاء باريس ( جوان – ديسمبر).

كما أقر مؤتمر باليرمو ونص على أسس دستورية متعارف عليها لإجراء الاستحقاقات الانتخابية بينما كان اجراء الانتخابات في 10 ديسمبر 2018 سيكون واردا على أسس غير دستورية.

ت أحبطوا سياسات ارباك المؤتمر وافراغه من محتواه فوضعوا اللواء المتقاعد خليفة حفتر في صورة “المُربك” لتقدم حل الملف الليبي والباحث عن حكم ليبيا عبر أسس غير دستورية، وأثبتوا للعالم أن بعض الأطراف الإقليمية هي أمثلة للتهور والارباك، وأنها تلعب أدوار خفية تخريبية بل وتعمل على هوامش عدة في القضايا الإقليمية عبر لوبيات وقوى عالمية عبر تنزيل سياسات تعتمد المادي واللوجستي وخيارات الارباك والاحتواء والتأثير في السياسات الدولية في معالجة الازمات الاقليمية.

ث أثبت الايطاليون ترهات وأكاذيب الحديث عن محور “قطريتركي – إيطالي – الغرب الليبي”، التي روجت لها قنوات عربية ووسائل اعلام مصرية وخليجية بالأساس، بل وتبين أنها هي مجرد أسطوانة مشروخة تم ترديدها طيلة السنوات الثلاث الماضية، والغريب أنه بعد مؤتمر “باليرمو” قالت تلك الابواق ان الحلف المذكور سقط وانتهى.

وعمليا أكدت دراسات ومتابعات أن مراكز البحوث الأجنبية والفاعلين الرئيسيين التنفيذيين لبعض الأطراف الدولية قد وقفت على سقطات تلك الأبواق ومن يقف وراءها من دول إقليمية وأطراف محلية ليبية…

الفرنسيون: السياسات الصامتة والخيارات الحذرة

استطاع العقل السياسي الفرنسي مع وصول ماكرون للحكم استقراء مستقبل القارة الافريقية وتطور حضور قُوى دولية أخرى فيها، فتم بناء استراتيجيات ديناميكية لقوة الحضور والفعل والتأثير، وتم منذ جويلية/يوليو 2017 امتلاك الملف الليبي وادارته والتواصل مع القوى السياسية والاجتماعية في ليبيا وصولا لمؤتمر باريس في نهاية ماي الماضي.

وطبعا وظف الفرنسيون الازمة السياسية الإيطالية التي طالت لأشهر كما وظفوا تردد الايطاليين في إرساء سياسة استراتيجية تتناغم مع التطورات السريعة للملف الليبي وترتيباته المطلوبة وضرورة الدفع بمبادرات وخيارات للميدان لتحريك السواكن.

ومع دخول الايطاليين على خط إدارة الملف بمباركة امريكية واصطفاف بعض الدول الرئيسية معهم، حدثت خلافات داخل الإدارة الفرنسية وتزامن ذلك مع استقالة أكثر من وزير فرنسي على خلفية ملفات فرنسية داخلية وأخرى اقليمية، وأصبحت السياسة الفرنسية تباعا في حالة تراجع وارتباك وخاصة في قراءة تطورات المشهد في ليبيا.

ومن بين أسباب ذلك الانحسار المستمر للواء المتقاعد خليفة حفتر وهو الذي راهن الفرنسيون عليه، واحتووا كل معسكره السياسي والاجتماعي خلال السنوات الثلاث الماضية، فهالهم تراجع شعبيته حتى في الشرق الليبي وخاصة بعد ورود تجاوزات نجله المالية ومقربين منه في تقارير أممية، فعدلت الإدارة الفرنسية سياساتها ومواقفها عبر بعض الخطوات والعلاقات مع بعض اطراف إقليمية، حيث تم تغيير السفيرة الليبية بأخرى وتم الإعلان عن فتح السفارة الفرنسية  في طرابلس خلال شهر أفريل المقبل.

كما تم الانفتاح أكثر على حكومة الوفاق الوطني وتم فتح علاقات مع بعض الفاعلين في مدينة مصراتة، وبالتوازي مع زيارة غسان سلامة للقاهرة في أكتوبر الماضي أكدت مصادر مقربة من “الإليزي”، أن الفرنسيين قد عبروا أنهم ضد أي مغامرة عسكرية من طرف حفتر باتجاه المنطقة الغربية.

وفي “باليرمو” بدأ الفرنسيون ظاهريا حذرين، وارتاحوا لتصريحات كونتي المؤكدة على التوافق معهم، ولكن وكما بينا أعلاه فان حلفائهم الكلاسيكيين حاولوا ارباك المسارات ومخرجات المؤتمر والبعد التوافقي الذي حرص الايطاليون على ابرازه.

الأمريكيون وسياسات الاحتواء الناعمة والمؤثرة

بدأ الامريكيون في الخفاء والعلن، مُصرين على تنفيذ تطبيق خطة مساعد المبعوث الاممي للشؤون السياسية “ستيفاني ويليماز”، وهي الخطة الموسومة بالخطة ب والتي نُشرت بعض تفاصيلها أثناء الاشتباكات الدموية جنوب العاصمة طرابلس في نهاية أوت/أغسطس الماضي.

و الخلاصة أن الأمريكيين اعتبروا “باليرمو” مجرد محطة وضعوا من خلالها الايطاليين في الواجهة (وهم شريك أساسي لهم بل ويقومون بأدوار وظيفية لهم في أكثر من بلد وفي أكثر من ملف إقليمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)، وهو ما قد يفسر ضعف التمثيل الأمريكي في المؤتمر بعد أن كان مبرمجا ان يحضر ترامب بنفسه للمؤتمر.

كما أن المؤتمر الجامع في بدايات 2019 بالنسبة للأمريكيين سيكون مجرد عملية اضفاء شرعية على خطوات تلميذة رامسفيلد وصولا لهدفهم الأخير وهو الاستقرار في ليبيا للتفرغ لملفات الشرق الأوسط التي ستتفاقم بحدة خلال الأشهر والسنوات القادمة إن لم يكن ذلك بعد أسابيع أو أشهر معدودة.

ورغم البيان المهم والمطول للخارجية الأمريكية اثر نهاية أشغال مؤتمر “باليرمو” فانهم سيعملون على تمطيط الملف الليبي وفقا للمتغيرات والتطورات اللاحقة في المنطقة بما يتناسب مع استراتيجيتهم مع النظام المصري المؤمنين بضرورة احداث تغييرات مستقبلية عليه (على ان تلك التغييرات ستتراوح بين تعديلات واصلاحات أو حتى العمل على رحيل السيسي في فترة لاحقة).

ولا شك ان الموقف الأمريكي يرتكز على نهاية دور حفتر الذي لعبه في المرحلة السابقة مع الاحتفاظ بإمكانيات تطور فسيفساء السيناريوهات المستقبلية عبر إعطاء دور للناظوري مثلا، ومعلوم أن الأمريكيين هم أكثر العارفين بحفتر وهم يعرفون جيدا هوامش تحركاته ومراميه وحتى أسباب اعتقاله وابعاده لبعض المقربين منه، مع العلم أنهم عبروا في أكثر من مناسبة وخاصة سنة 2016 عن انزعاجهم من علاقته بالروس.

حول مواقف بقية الدول الأوروبية

بدت الدول الاوربية الأخرى مشتتة من حيث مواقفه المعلنة والخفية بين الايطاليين والفرنسيين وان كانت أقرب لإيطاليا وتتراوح أدوارها ووظائفها بين القرب من الفرنسيين والأمريكيين واللامبالاة باستثناء الهولنديين والسويسريين، أما الأنقليز وان كانوا أقرب للموقف الأمريكي غان لهم استراتيجيات تنزيل هادئة وذات نفس طويل…

الروس والسياسات غير الواضحة تجاه الملف الليبي

تنتهج روسيا سياسة غير واضحة في ليبيا، ولا تعتبر قائد الجيش الوطني الليبي اللاعب الرئيسي على الساحة السياسية الليبية، لكن يرغب اللواء المتقاعد في إظهار عكس ذلك للغرب من خلال زيارته إلى موسكو يوم 08 نوفمبر الحالي (أي اربع ايام فقط قبل “باليرمو”).

مع العلم وأن المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” قد أكد يومها “لن يلتقي فلاديمير بوتين بخليفة حفتر، بل أن ذلك غير مدرج في جدول أعمال الرئيس الروسي”، ومعلوم ان العلاقات الروسية مع حقتر قد كانت تجرى منذ 2015 بوساطات مصرية، كما تم الحديث عن مقابلة لحفتر خلال زيارته الأخيرة مع تاجر روسي يوفر المرتزقة.

وقد دار حديث في كواليس “باليرمو” عن استراتيجيا مستقبلية روسية خاصة بالمنطقة الافريقية مع التركيز على ليبيا والجزائر تحديدا، الا أن الحضور الروسي المستقبلي في ليبيا ليس موضوعا بسيطا فهو يتراوح بين الممكن السهل والمستحيل نتاج عوامل تاريخية وإرث قديم في المنطقة بكاملها ففي عهد الاتحاد السوفياتي وقوته الضاربة صعب عليه سنة 1951 التموقع في ليبيا يومها.

الخلاصة أن عودة روسيا من حيث الحضور الاستراتيجي واستعادة جزء من رصيد الاتحاد السوفياتي عالميا أمر مرتبط بالقدرة على التماهي مع التطورات والمتغيرات خلال الأشهر والسنوات القادمة.

أما راهنا فليبيا ليست سوريا وما سمح به الامريكيون والأوروبيون هناك لن يسمحوا به في شمال افريقيا نتاج عوامل متعددة في علاقة بالطاقة والنفط ونتاج رؤية استراتيجية للأمريكيين لكل المنطقة المتوسطية والشرق أوسطية.

وهنا لابد من وضع الاعتبار واستحضار فكرة بعض أنصار القذافي السياسيين حول جلب الروس للساحة الليبية عبر الاستئناس بتجربتهم في سوريا وهي الخطة التي تم تقديمها لحفتر واقناعه بها وشرحها المسماري في اوت/اغسطس الماضي خلال تصريحات له اثناء زيارة له للقاهرة.

وعمليا كان الحضور الروسي في “باليرمو” قويا وبدا على الوفد الروسي التحفز والهدوء الحذر مما يعني توضح معالم سياسة مستقبلية ممهدة لاستراتيجيات قادمة لن تكون بالأكيد هي نفسها السياسة الروسية السابقة والمتبعة منذ 2014.

________________

مواد ذات علاقة