بقلم د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

تبحث هذه الدراسة في مدى إمكانية معالجة أزمة النزوح والتهجير في ليبيا بالاعتماد على عملية المصالحة الوطنية، باعتبارها مقاربة لمعالجة التركة التي خلفها النظام السابق.

الجزء الثالث

ثانيا: واقع المصالحة الوطنية في ليبيا

بعد سقوط نظام القذافي في أواخر عام 2011، بدأت تتمظهر أزمات مجتمعية نتيجة السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة على إدارة الشأن العام الليبي، وكذا استفحال الفساد السياسي والمالي والإداري ببنية مترهلة للمؤسسات القانونية، وظهور مشكلات اجتماعية كان تأثيرها أشد وقعا على بعض الفئات والمناطق التي تم تهميشها وإقصاؤها عند صياغة المشهد الليبي، حيث لم يكن ذلك ممكنا لولا تهافت واضمحلال المشروع الوطني، نتيجة للمأزق الذي وصل إليه الفكر السياسي الليبي، والذي أدى إلى الانقسام والتشظي وساهمت ممارسات النخب السياسية المتعاقبة ما بعد الثورة في الشرذمة والتجزئة القائمة بين الليبيين في الداخل والخارج الذين يعيشون ليس مأزقا وطنيا فقط بقدر ما هو وجودي.

ساهم فوز حزب التحالف الوطني الذي يرأسه محمود جبريل في انتخابات صيف 2012، وعدم قبول بعض الأطراف الأخرى التسليم بنتائجها، في توافر أسبابا بنيوية عميقة للتنافر والتشرذم، ومن ثم لمزيد من الإنقسام بين الليبيين.

بدأ الانقسام سياسيا وأيديولوجيا، لكن سرعان ما تحول إلى انقسام مادي جغرافي، ثم تدحرج، وصولا إلى تشظي الوجود الليبي وتعدد مرجعياته وانقسامه على ذاته، وقد ترتب على كل ذلك وجود هوة سياسية عميقة ما زالت تشكل مصدرا للتنافر الحاد نشأت عنه ثنائيات ذلت دلالة على تشظي وتبعثر حال الليبيين، وهو ما جسده تسيير البلاد بجهازين تشريعين وتنفيذيين وتنافسين، برلمان وحكومة مستقلة في الشرق الليبي يرأسها عبدالله الثني وتدعمها قوات المشير خليفة حفتر، يقابلها حكومة الوفاق الوطني في طرابلس الغرب يقودها رئيس المجلس الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات فائز السراج، وتدعمها تشكيلات عسكرية مختلفة، وتداخلت في نطاقهما ليس السياسة والأيديولوجية فحسب، وإنما أيضا، المصالح والأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية المحلية والخارجية في إطار التجاذب الكبير.

كل ذلك عمّق التناقضات، وهدّد الاستقرار، وأدخل البلاد في دوامة من الأزمات عنوانها: العنف، والفساد، إضافة إلى ملامح الاستبداد جرّاء تناحر النخب والزعامات السياسية على المصالح الضيقة، وانعكس ذلك سلبا على حياة المواطن الذي يدفع يوميا الثمن بحياته، وجعل عملية المصالحة بعد مرور تجربة سبع سنوات هشّة والمجتمع غير متماسك، والمواطنة في حالة تراجع أمام الولاءات الضيقة، وما رافق ذلك من أزمات وويلات عصفت بالبلاد وذهبت به إلى حافة التقسيم، وكان المواطن والمجتمع ضحيتها الأولى، حيث وصلت أعداد النازحين داخليا واللاجئين إلى أكثر من مليون مواطن، وكانت معاناة شريحة واسعة من النساء والأطفال والمسنين أشد وطأة وقسوة في ظل انعدام الأمن والغذاء والدواء.

زاد الأمر سوءً أن هناك أطرافا خارجية إقليمية ودولية لا زالت تعبث بالمشهد الليبي وتمارس دور تعطيلي لمسار المصالحة الوطنية من خلال طي صفحة اتفاق الصخيرات وفرض أمر واقع جديد في ليبيا.

فقج شكّل العامل الخارجي قوة دفع باتجاه الفصل المعنوي بعدما فصل بين الشرق الليبي وغربه ماديا، وتزامن ذلك مع وجود نخبة سياسية ليبية مستفيدة من الانقسام، وتعزّز وتكرّس الفكر والوعي المناطقي أكثر فأكثر الذي بدأ يحكم الوجود الليبي الجديد، غير ملتفتين إلى حقوق المواطن الليبي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الأدهى من ذلك، ارتباط بعض النخب بأطراف خارجية وتحاول الاستقواء بالخارج في صراعها الداخلي وحتى مع النخب السياسية الليبية الأخرى، لا سيما تلك النخب التي عُرفت بنفسها القبلي والمناطقي.

ويعد الانقسام الليبي ـ الليبي بعد عام 2014 ضربة موجعة كان لها بالغ الأثر في حياة وسلوك الشعب الليبي، وأدى إلى مأزق خطير انعكس في ثلاثية الفكر ـ الوعي ـ المشروع الوطني، ولم يختلف الليبيون قيادة وأحزابا وشعبا حول المشروع الوطني وحدوده فقط، وإنما حول البرامج الوطنية وأدوات تنفيذها.

وعلى قاعدة أن الثقافة السياسية الليبية مأزومة ومعطوبة أيضا، لعدم استيعابها التعدد والاختلاف، وانطلاقا من مقولة أن الثقافة جوهرها تجسيد الوعي الوطني، فإن الوعي الوطني هو امتداد لمأزق الثقافة السياسية الليبية، وبعد إبراز تجلياتها، وأن التراجع في الوعي الوطني قد غذي بالضرورة قيما سلبية مثل الاغتراب السياسي واللامبالاة بين المثقفين والجماهير والشباب الليبي في الشأن العام.

هذا كان نتيجة هيمنة الخوف ولجم الأفواه وحرية الرأي، من قبل السلطات السياسية في شرق البلاد وغربها، واتهام المخالفين في حال انتقادهم أحداها بأنها تدعم الجهة المناوئة لأي منهما.

وقد غيب الانقسام الليبي الحد الأدنى من رؤية ليبية واحدة للأمور، وبات الجميع بعين الريبة والشك تجسيدا لأطروحة هويس بأنه حرب الكل ضد الكل، وأصبحت أزمة الثقة بين القوى السياسية والمكونات الاجتماعية ، بل داخل المؤسسات نفسها.

قادت إلى تبلور طبقة سياسية منفصة عن بنية المجتمع نفسه، طبقة سياسيين يعيشون حياة خاصة، وباتت تتصرف أولا، وقبل كل شئ بناءً على مصالحها الضيقة، حتى لو كانت على حساب مصالح الوطن العليا، ولذلك فالناس باتوا أكثر تشككا بالسياسيين وفي المؤسسات بأشكالها المتعددة، وهو ما ولّد شعورا بخيبة الأمل والإحباط عند شريحة واسعة في أوساط الشعب الليبي بشأن قدرة النخب السياسية على حل المشكلات الملحّة، فيما فضلت نخب أخرى الإنكفاء على نفسها، والانزواء بعيدا، فأصبح مشروع المصالحة الوطنية قبل أن يخرج من مأزق يدخل إلى آخر أعمق.

ولابد من تحديد حقيقة مفادها أن التعثر في جهود المصالحة الوطنية لا تتحمله النخب السياسية فقط، وإنما الجهات الأخرى، التي حاول ويحاول بعضها وضع العصي في دولاب العملية السياسية أولا، ومن ثم جهود المصالحة الوطنية.

فهناك أطرافا إقليمية عربية ودولية لا زالت تعبث بالمشهد الليبي وتمارس دور تعطيلي لمسار المصالحة من خلال محاولة طي صفحة اتفاق الصخيرات وفرض أمر واقع جديد في ليبيا، وهو ما رسخ الانقسام وأوجد واقعا جديدا على الأرض.

بالرغم من ذلك، فإن النخب هي من تتحمل المسؤولية الأكبر في تأزم المصالحة الوطنية في ليبيا، كونها الطرق القيّم على العملية السياسية، وإدارة الشأن العام الليبي. إذ أن بعض النخب السياسية محمّلة بقناعات تعدّ بمثابة ثوابت قبل الدخول في أي حوار بخصوص المصالحة، مما أفرغ مشروع المصالحة من محتواها، الأمر الذي جعل الساحة السياسية تنقسم بين مؤيد لمصالحة بدون شروط وآخر يصر على وضع شروط لا مناص من التخلي عنها، لكن كلا الطرفين مشتركان بغياب الرؤية الوطنية، لذلك لم يعد من الممكن رؤية أفق المصالحة الوطنية.

لم تكن أزمة النازحين داخليا والمهجرين قسريا بعيدة من التجاذبات السياسية، بل كانت مستهدفة من أجل تطويعها واستغلالها سياسيا واجتماعيا، فدفع النازحون الثمن باهظا لحالة العنف والاقتتال الليبي ـ الليبي المستمر وتحملوا نتائج الانقسام أكثر من غيرهم من الشرائح الأخرى في المجتمع الليبي، إلى جانب العبء الأكبر من خلال استهدافهم من قبل الجماعات المسلحة في أمنهم ومستقر عيشهم.

بل تجاوز أثر الانقسام أبعد من ذلك، فكان له بالغ الأثر على كفاءة الجهود الإنسانية وأثر على المنظمات الدولية الإنسانية في عرقلة دورها الإغاثي في تقديم المساعدة الإنسانية للنازحين، فضلا عن عدم قدرة أطراف الصراع على التمييز بين الخصومة السياسية والعسكرية في ساحة القتال وبين تجنيب الأبرياء آثار هذا الصراع.

غير أن مستقبل البلاد يتأثر أكثر بما نجم عن الانتهاكات والتجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان التي جعلت مناطق تعيش حالة عداء مستمر مع مناطق أخرى، خصوصا بين مدينتي مصراتة وتاورغاء، بما يجعل مسار المصالحة الوطنية وبناء الدولة الجديدة تواجه تحديات هائلة أثبتت ، حتة الآن، أنها عصية على الحل، قبل إحقاق الحق وتقديم الجناة إلى العدالة لينالوا جزاءهم.

لا جدال في أن الأمر يقتضي حكمة متناهية وصبرا، مثلما يقتضي قدرة على التمييز بين المجرم والمتهم والبريء، وهو ما لن يتحقق حتى يمكن للمصالحة الوطنية أن تثبت نجاحا في مناطق أخرى، وحتى يمكن لنظام العدالة الانتقالية أن يقوم بدوره المهم في معالجة هذه المسائل والتحديات.

إن وضع ليبيا اليوم هو أشد ما يكون إلى مصالحة وطنية شاملة، إذ لا يمكن لوضع البلد أن يستقر في حال استمرار سياسة النخب الحاكمة الليبية القائمة، لأن بعضها غير مؤهل، وأخرى غير قادرة على ممارسة الفعل، وثالثة قادرة لكن لا يسمح لها بالعمل من أجل تحقيق مصالحة وطنية حقيقية.

لقد أثبتت التجربة خلال السنوات القليلة الماضية فشل هذه النخب في تحقيق الحد الأدنى من التوافق، وبالتالي فإن الخيار الأمثل والأنسب لتحقيق المصالحة يتم من خلال استبدال النخب العاجزة بنخب جديدة قادرة على تحمل المسؤولية وتستطيع أن تطور مشروعا سياسيا وأمنيا متكاملا خاليا من نزعة الثأر والانتقام والإقصاء، وتتخذ من التوافق السياسي أساسا له، وتستطيع هذه النخبة أن تتعامل مع ميراث عدم الثقة الذي ورثته القوى السياسية منذ ما قبل سقوط القذافي وما بعده، وصياغة عقد جديد بين هذه الأطراف، بالاستناد إلى الدستور الذي يمثل خريطة لتنظيم الحياة السياسية في ليبيا.

لكن على ما يبدو أن لا جديد البتة يمكن أن تقدمه النخب الليبية الحاكمة في سبيل إنجاح المصالحة، فمجمل المؤشرات التي صدرت عن هذه النخب واستجابتها لاستحقاقات المرحلة الراهنة كانت سلبية، ولا تبشر بكثير من التفاؤل، كما أن هذه النخب لن تتردد في اللجوء إلى كل السبل والوسائل مهما كانت بشعة وغير انسانية وحتى غير واقعية، (التحالفات العبثية)، للإحتفاظ بسلطة ليس لها حق أبدي فيها، وأن هناك أملا ضعيفا في اقترارات تنتهجها بعض الأطراف المحلية المدعومة خارجيا لحلحلة الأزمة المتفاقمة وإنهاء حالة الانقسام وإنجاح المصالحة الوطنية، والتي لا يمكن أن تكون واقعية إلا في حالة كانت هناك روافع قوية يترجمها الشارع الليبي تضع هذه الأطراف أمام خيار التصالح الذي لا مفر منه.



البقية في الجزء التالي

سنتناول في الجزء التالي محور مسار المصالحة الوطنية وانعكاساتها على نازحي تاورغاء الليبية

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ – رئيس قسم العلوم السياسية، جامعة الجفرة ـ ليبيا

***

نشر البحث في مجلة الدراسات الأفريقية وحوض النيل : العدد الرابع كانون الأول – ديسمبر “2018” وهي دورية علمية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي “ألمانيا –برلين” . وتُعنى المجلة بالدراسات والبحوث والأوراق البحثية عمومًا في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية وكافة القضايا المتعلقة بالقارة الأفريقية ودول حوض النيل.

____________

مواد ذات علاقة