اعداد : د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

مع التسليم بأهمية وأولوية البعد الإنساني في منطق التدخل الدولي في ليبيا لحماية المدنيين، سوى أن ذلك التدخل وفق الكثير من المراقبين تجاوز روح القرار الأممي عندما منح نفسه إرادة إسقاط القذافي.

الجزء الرابع

المحور الثالث: الأبعاد الإستراتيجية والإقتصادية للتدخل الدولي في ليبيا

نالت قضية التدخل الدولي في ليبيا استناداً إلى قرار مجلس الأمن 1973، اهتماما وجدلا واسعاً من قبل كثير من المهتمين والسياسيين وفقهاء القانون الدولي، حيث انقسم هؤلاء حول طبيعة التدخل بين مناصر ومعارض، وإن كانت الرؤى تلتقي عند أهمية البعد الإنساني في التدخل.

فبين مؤيد يرى أن التدخل لحماية المدنيين من وحشية جرائم نظام القذافي في ضوء مبدأ الحماية هي أسمى وأرفع من مبدأ الدفاع عن فظاعات الاستبداد وكارثيته تحت مبدأ عدم التدخل، الذي يوفر حصانة وحماية تتنافى مع مبدأ الحماية، والذي ما زالت شعوب دول العالم الثالث في أشد الحاجة إليه كي يقيها من طيش جرائم الأنظمة ذات الطابع التسلطي القمعي، ولا تعير للإنسان وكرامته وحريته اعتباراً يذكر.

وفي المقابل هناك المعارضين لمبدأ الحماية تحت مسوغات السيادة واستحقاقاتها في ضوء مبدأ عدم التدخل يمثل انتهاكا لسيادة الدول، ونيلا من استقلالها وهيبتها، وخطرا كارثيا على بنيتها الأمنية والسياسية والإجتماعية، وتمترس في إطار رؤى لا تخدم سوى ديمومة الاستبداد ومنظومته.

وهذا مأخذ أنصار التدخل والداعمين له من سياسيين وقانونيين. وأن دافع التدخل هو فقط مصالح الدول وتكريسها لواقع الهيمنة والاستغلال، واعتبارات تفعيل الحمائية الإنسانية هي آخر من تحضر في أولويات التدخل الدولي.

إن الإشكالية المطروحة حول التدخل الإنساني تتمثل في عدم وجود اتفاق أو إجماع عام حول الظروف التي تسمح بالتدخل الدولي أو المانعة له. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام احتمالات وجود شبهة التصرف وفقاً للإنتقائية والمعايير المزدوجة، فالمدنيين في ليبيا استحقوا حماية الأمم المتحدة والمساعدات الإنسانية.

لكن المدنيين في سوريا لم ينالوا نفس الحماية، بالرغم أن الانتهاكات واضحة في كلتا الحالتين إضافة إلى أن غالبية تدخلات الأمم المتحدة الإنسانية تمت ضد دول ضعيفة ولا تملك نفوذا اقتصادياً أو سياسياً يحميها من التدخل، لكونها لا تتمتع بحصانة نووية، أو حصانة العضوية في حلف الأطلسي، أو حصانة العضوية الدائمة في مجلس الأمن، أو الإحتماء بمظلة إحدى الدول الخمس الكبرى.

وهذا ما يثير الشكوك أيضاً حول مصداقية البعد الإنساني في التدخل الدولي لاسيما مع استمرار تقاعس المجتمع الدولي عن وقف جرائم النظام السوري، برغم مقتل مئات الألاف من المدنيين، وبسبب هذه الإنتقائية الموجودة داخل مجلس الأمن حالت دون أي تحرك دولي لوقف كل هذه الإنتهاكات.

ومرد ذلك إلى توازنات القوى الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا، التي منعت تطبيق مبدأ المسؤولية في الحماية، دون إغفال دور القوى الإقليمية الفاعلة كـ إيران وتركيا. بل أن القوى الكبرى دعمت الأطراف المتصارعة بالأسلحة.

وكشفت من جانب آخر عن معضلة إهمال حماية السكان المدنيين مقابل تحقيق مصالح القوى الكبرى، خاصة أنه طال أمد الصراع، والضحايا لا يزالون يسقطون بالعشرات يوميا.

وتبدو أن الثغرة الأخطر في تطبيق هذا المبدأ تكمن حاليا في الطابع الإنتقائي للتدخل، حيث نرى القوى الكبرى تحبذ التدخل في مناطق بعينها. وتعرض عنه في مناطق أخرى. مما يولد ازدواجية في معايير التعامل مع النزاعات الأهلية وحروب الإبادة الجماعية وقضايا حقوق الإنسان بشكل عام، ووفقا لأهداف التدخل ، فإنه غالبا ما تكون الأهداف المعلنة للتدخل غير الأهداف الفعلية وراء التدخل.

إجراءات التدخل الأممي ومداها دفعت عدداً من النقاد، لاسيما فيما يتعلق بالتهم الموجهة لحلف شمال الأطلسي، بأنه تجاوز حدود تفويض قرار مجلس الأمن 1973\2011 الخاص بليبيا، أو على الأقل توسع نصه إلى حد انتهاك روحه، بحيث بدى في نظر بعض القانونيين والسياسيين، كنوع من انتهاك السيادة الليبية، من وحي تجاوز الخطوط المرسومة والمحددة لجوهر القرار الأممي.

فالتوسع في اجتهاد تطبيق القرار دخل في إطار جدلية مبدأ مسؤولية الحماية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والذي كان محل تحفظ بعض منتقدي ترجمة التدخل الدولي في ليبيا بذات الصورة.

كما أنتج ردود فعل سلبية عن الجامعة العربية، بعد أن أيدت القرار بقوة في البداية، وعن العديد من البلدان التي لم تعارضه في البداية، ومنها روسيا والصين، عبر امتناعهما عن التصويت على القرار الخاص بليبيا، والذي سمح لحلف شمال الأطلسي بشن حرب في ليبيا، حتى سقط النظام، وهو السيناريو الذي لا تريد موسكو تكراره في الحالة السورية رغم الانتهاكات لحقوق الإنسان وعنف ودموية النظام السوري.

كما طرحت علامات استفهام عديدة في حينها حول تدخل حلف الأطلسي في ليبيا، سواء على مستوى العمليات العسكرية أو إطاره القانوني والأخلاقي أو خلفياته الاستراتيجية في السياسات الدولية للقوى الكبرى.

وتركزت تحديداً حول تأخر قوات الحلف في الحسم العسكري سريعا والقضاء على كتائب القذافي التي كانت متجهة إلى بنغازي، ومرد ذلك ربما إلى سعي الحلف لإخضاع الثوار الليبيين، بعدما تبيّن أن هوية المكوّن الرئيس للقوى الثورية هي قوى إسلامية، ووصمها بأنها متشددة، وهو ما كشفت عنه تقارير استخباراتية غريبة، ناهيك عن رغبة الحلف في السيطرة على الثوار وجعلهم في حاجة دائمة ومستمرة للمساعدة، حتى يتم فرض الشروط عليهم أثناء الحرب وفي مرحلة ما بعد القذافي.

في الجزء التالي نتناول (المحور الخامس: تداعيات التدخل الدولي في ليبيا)

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ ـ رئيس قسم العلوم السياسية، كلية إدارة الأعمال – جامعة الجفرة ـ ليبيا

***

المصدر: مجلة الدراسات الإستراتيجية والعسكرية : العدد الثاني كانون الأول – ديسمبر “2018” وهي مجلة ثلاثية دولية محكّمة تصدر من ألمانيا – برلين عن “المركز الديمقراطي العربي” . تعنى المجلة في مجال الدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات الدراسات العسكرية والأمنية والإستراتيجية الوطنية، الإقليمية والدولية.

________________

مواد ذات علاقة