اعداد : د. محمد عبدالحفيظ الشيخ

مع التسليم بأهمية وأولوية البعد الإنساني في منطق التدخل الدولي في ليبيا لحماية المدنيين، سوى أن ذلك التدخل وفق الكثير من المراقبين تجاوز روح القرار الأممي عندما منح نفسه إرادة إسقاط القذافي.

الجزء الخامس

المحور الرابع: تداعيات التدخل الدولي في ليبيا

لا شك أن تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا كانت له تأثيرات متعددة، إذ فتح الساحة الليبية على تأثيرات عميقة أتت على بنية الدولة الأمنية والسياسية بمقتل، وهو ما ألقى بظلاله على منظومة الأمن والاستقرار على المستوى الإقليمي والدولى بدرجة غير مسبوقة.

إن من نجم عن تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، خلق أوضاعا أمنية غير مستقرة، فقد فتح الباب على مصراعيه لإثارة نزاعات وصراعات قديمة من جديد، من خلال تأجيج الانقسام وإعاقة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، فضلا عن انتشار رهيب للسلاح والميليشيات المتنافسة والمتحاربة بوسائل مختلفة.

تتقوى هذه الميليشيات وتزداد عدداً وعدة وبدعم خارجي من أطراف وفواعل إقليمية ودولية، ليمتد أثر ذلك إلى كامل المنطقة، وهذا بدوره فتح الباب على مصراعية لنمو وانتشار جماعات العنف والسلاح التي ساهمت في تلغيم الساحة الأمنية الليبية، حيث وجدت فيها التنظيمات المتطرفة بيئة مناسبة ومرتعاً خصباً لممارسة أنشطتها الإرهابية.

كل هذه الأحداث نتج عنها تردي الأوضاع الإنسانية إلى درجة مفزعة، ولم تنته الأزمة الإنسانية عند هذا الحد بل امتدت إلى ما بعد التدخل، وهو ما جعل أوجه الشك تعتري عملية حلف الأطلسي فهناك من يرى أن تدخل الحلف في ليبيا رغم استلهامه المبدأ الإنساني، إلا أنه لم يستهدف أساسا حماية المدنيين، بل أن الأمر كان في حقيقته يتعلق بإسقاط النظام والتخلص من القذافي كأولوية.

وهذا ما ذهب إليه سيومان ميلن المحرر في صحيفة الغارديان، بقوله إذا كان هدف حلف الأطلسي هو التدخل لحماية المدنيين في ليبيا، فإنه يرى أن مهمته باءت بالفشل، إذ تضاعف عدد الضحايا عشرات المرات، وتعرض العديد من المدنيين للتعذيب والقتل من قبل ميليشيات مسلحة، بمساندة غربية، فضلاً عن أن طريقة قتل القذافي تعد جريمة حرب حتة وإن كانت انقاما من استبداده

وعلى هذا النحو، خلّف الإنهيار الأمني في ليبيا فراغاً استراتيجياً كبيراً في منطقة شمال أفريقيا والمغرب العربي، وهو ما استغلته التنظيمات المسلحة والعصابات الإجرامية العابرة للحدود في إعادة تنظيم نشاطاتها وتوسيع شبكاتها في كامل المنطقة.

وهذا بدوره سهل عملية تهريب السلاح والمخدرات والمهاجرين غير الشرعيين وتهريب بعض الأفراد المطلوبين أمنياً، مما شكل عامل تهديد لاستقرار دول الجوار، كما هي الحال في سيناء المصرية وفي منطقة الشعائبي على الحدود بين الجزائر وتونس، وفي بلدان منطقة الساحل الأفريقي. لأن التهريب والإرهاب مرتبطان.

وهذا ما أكدته الوقائع لاحقاً بعد حادثة القنصلية الأمريكية في بنغازي ومقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنس، وكذا استهداف مركب الغز عين أميناس في الصحراء الجزائرية. فضلا غت استهداف متحف باردو في تونس العاصمة، من قبل مجموعة إرهابية مسلحة، وهو ما أسفر عن 23 قتيلا و50 جريحا، وقد أشارت عدة تقارير أممية أن الأسلحة التي استرجعتها قوات الأمن الجزائرية بعد هجوم أميناس مصدرها مخازن السلاح في ليبيا.

خاتمة

من خلال مناقشة بعض متغيرات هذه الدراسة اتضح أن المبدأ الأساسي الي يقوم عليه التدخل الإنساني هو استخدام القوة العسكرية بهدف حماية حقوق الإنسان ومنع حدوث انتهاكات جسيمة وصارخة لهذه الحقوق، ومع أن التدخل الإنساني يعد هدفا نبيلا وساميا في الوقت ذاته، لكن المؤسف أن يخضع لاعتبارات سياسية شديدة الإنتقائية.

لابد من الإعتراف أن الدافع الإنساني لا يمكن أن يكون مسوّغا أساسيا يسمح بالتدخل الدولي، وإنما توجد في الحقيقة من الدوافع والمسوغات ما يمكن أن تحفز القوى المهيمنة على التدخل في المناطق الساخنة باسم حقوق الإنسان، ولعل أقوى تلك المسوّغات هي المصلحة والمنافسة والحصول على مناطق النفوذ بين الدول القوية داخل الأمم المتحدة، وهي بطبيعة الحال الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة، أي أن الدافع الإنساني ليس هو الهدف العام للتدخل الدولي الإنساني وإنما هو ستار تخفي وراءه الدول القوية مصالحها وأهدافها الأساسية.

لقد كشفت عملية التدخل العسكري في ليبيا من الناحية الاستراتيجية بأنها حرب مصالح بامتياز قبل أن تكون حرب حماية القيم الإنسانية.

فالتدخل الأممي في ليبيا كان تحت المسوغات الإنسانية والمسؤولية الأخلاقية للمجتمع الدولي، سوى أن الأبعاد الأمنية والاقتصادية والأهمية الاستراتيجية لليبيا، كان لها أثر كبير في فاعلية التدخل وسرعته في ليبيا تحت المسمى الإنساني.

فالتغلغل الصيني الاستثماري في ليبيا بشكل خاص، والصراع الدولي على مناطق النفوذ الاقتصادية، والتخلص من الإرباك الذي سببه القذافي للدول الغربية وسياساتها في أفريقيا خصوصا الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، كانت وراء التسريع بالعملية العسكرية الأمريكية والأوروبية في ليبيا، إذ أن سياسات القذافي الاقتصادية في السنوات الأخيرة قبل سقوطه، عرفت نوعا من التهميش للشركات الصناعية الغربية، ذلك في مقابل دور الشركات الصينية الإقتصادي والإستثماري.

وهذا ما جعل هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا تبدي استيائها من هذه السياسات في ليبيا،.

جملة هذه الأسباب شجعت هذه المنظومة الدولية في انتهاز فرصة التخلص من نظم مغامر وغير مستقر في محدداته السياسية، وبالتالي انتهزت فرصة التدخل الإنساني لتكون قريبة من معادلة التفاعل السياسي، ومحاولة صياغة النظام السياسي الجديد في ليبيا، وذلك للحفاظ على مكاسبها العسكرية والسياسية، من خلال التحكم في قنوات اتخاذ القرار، كي تكون أكثر تأثيرا ونفوذا خدمة لمصالحها.

هذا التدخل بطابعه الإنساني غاب في الحدث السوري بكل معطياته الإنسانية الأكثر إلحاحا، حيث إن التباطؤ الدولي في وقف جرائم النظام السوري في حق الأغلبية من أبناء الشعب السوري، وتركه لقمة سائغة من دون تحرك دولي فاعل جعل هذا التدخل محلا لإعادة النظر في حقيقة إنسانية، ويثير نوعا من عدم المصداقية في تطبيق هذا الحق الذي يمارس بنوع من الإنتقائية والإزدواجية في معايير التدخل.

وفي ضوء الشواهد العديدة اتضح أن مبدأ التدخل الإنساني ليس متغير طارئ على واقع العلاقات الدولية المعاصرة، بل أصبح بصورة كبيرة عصا غليظة تستخدمها القوى الكبرى للنيل من أي نظام أو دولة لا تتماشي واعتبارات سياساتها، وقلما تم اللجوء إلى هذا المبدأ لتأديب الأنظمة المستبدة في حق شعوبها.

وفي إطار هذا الوضع المتداخل والمعقد، الذي لم يسعف في خدمة الواقع الليبي، إذ فتح الساحة الليبية على تأثيرات عميقة أتت على بنية الدولة الأمنية والسياسية والتنموية بمقتل، خصوصا في ظل تجاذب إقليمي شبه معاد للثورات، ويسعى للإطاحة بها ورموزها.

فإن أي دولة تسعى لتجنيب ذاتها آثار التدخلات الخارجية السلبية، فلابد أن تحصن جبهتها الداخلة بمزيد من الشراكة والتوافق والتعايش.

***

د. محمد عبدالحفيظ الشيخ ـ رئيس قسم العلوم السياسية، كلية إدارة الأعمال – جامعة الجفرة ـ ليبيا

***

المصدر: مجلة الدراسات الإستراتيجية والعسكرية : العدد الثاني كانون الأول – ديسمبر “2018” وهي مجلة ثلاثية دولية محكّمة تصدر من ألمانيا – برلين عن “المركز الديمقراطي العربي” . تعنى المجلة في مجال الدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات الدراسات العسكرية والأمنية والإستراتيجية الوطنية، الإقليمية والدولية.

________________

مواد ذات علاقة