بقلم عبد الرزاق العرادي

تلوح في الأفق فرصة جرة قلم جديدة قد يضيعها البعض مرة أخرى، إذا تعاملوا معها، بذات الطريقة التي تعاملوا مع الأولى؛ بعاطفة وبدون حكمة وبصيرة وبمواقف متشنجة تغلب فيها المصلحة الضيقة على المصلحة العامة؛ مصلحة الدولة والمواطنين، ويطغى فيها النظر الجزئي والآني على النظر الكلي والاستراتيجي، وتحكمها المواقف المتصلبة والمتخندقة لا المواقف المرنة والمستوعبة.

جرة قلم، النسخة الأولى، فُعّلت في الغرب الليبي ولم تفعل في شرقه. اليوم تلوح في الأفق نسخة جديدة. النسخة الأولى رفضها حفتر وعقيلة والدول الداعمة لهما، لأنهم كانوا يظنون أنها ليست في صالحهم، في المقابل اعترض عليها بعض “تيار الثورة” وحاولوا فرض حكومة لم يعترف بها العالم، وفي نهاية المطاف خرجوا من المشهد ومن التأثير في المشهد السياسي بالكامل. وقبل الحديث عن الجرة الجديدة لابد أن نستحضر ما الذي حققته الجرة القديمة؟

هذا ما حققته جرة القلم…

هناك قاعدة معلومة وهي أن من طبيعة الناس الانشغال بالبحث عن المكاسب التي تحققت أو لم تتحقق، دون الاهتمام بالأخطار والمشاكل التي تم تفاديها.

جرة القلم أرجعت الاعتراف الدولي إلى العاصمة بعد أن غاب عنها سنتين، ولم يعترف العالم بالمؤتمر الوطني العام ولا بحكومتي الحاسي والغويل. جرة القلم أوقفت القصف الذي طال الكلية العسكرية ومصنع الحديد والصلب بمصراتة ومطار معتيقة بطرابلس وزوراة وصبراتة وغريان، وبالتالي أصبحت هذه المناطق خطا أحمر وبعيدة عن المغامرات.

جرة قلم أنهت سيطرة داعش على صبراتة وسرت، من خلال تضحيات أبطال قوات البنيان المرصوص، والقوات المساندة لحكومة الوفاق، ولا يستطيع كائن من كان أن ينكر الغطاء الشرعي والمالي والدعم اللوجستي الدولي بالطيران وعلى الأرض الذي وفرته حكومة الوفاق الوطني.

جرة قلم وضعت النفط تحت شرعية المؤسسة الوطنية للنفط وعوائدها تعود إلى خزينة الدولة تحت إشراف حكومة الوفاق، وعاد ضخ النفط من جديد في منطقة الهلال النفطي وقريبا في حقل الشرارة الذي تعطل.

هذه الجرة رغم أنها لم تنجح في حث المجتمع الدولي على كبح جماح الدول المساندة للفوضى في ليبيا إلا أن هذا المجتمع لم يعترف إلا بحكومة السراج والأجسام المنبثقة عن الاتفاق السياسي، ولم يدعم أيا من الأجسام المعارضة للاتفاق السياسي.

جرة قلم ساهمت في إطلاق سراح المحتجزين، ومن ضمنهم المستشار سليمان زوبي، وتحت مظلتها وقع الاتفاق بين مصراتة وتاورغاء.

رغم الظروف التي واجهت المجلس الرئاسي بعد دخوله إلى العاصمة إلا أن جرة قلم وجهت البوصلة نحو المصالحة قولا وفعلا على الأرض وساهمت بشكل كبير فيما سمي في ذلك الوقت “الإطفاء التدريجي لصوت الرصاص” إلى أن اختفى تماما، وفعلت المصالحات فعلها في حل المشاكل العالقة بين المدن.

جرة قلم، وعلى النقيض مما يحدث في الشرق الليبي، وفرت مستوى مقدّرا من الحريات العامة في الغرب الليبي؛ حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية تكوين الأحزاب والحرك السياسي ومؤسسات المجتمع المدني وحرية التظاهر، ورغم وجود العديد من التحديات في كل هذه الحريات إلا أنها تشكل نواة للدولة التي ننشد؛ دولة القانون والحريات والتداول السلمي.

حفتر يسيطر على ثلثي ليبيا..

لم تنجح الجرة الأولى في إبعاد حفتر لرفضه للاتفاق السياسية من جهة، ووقوف الحاضنة الاجتماعية إلى جانبه من جهة أخرى، بالإضافة إلى قناعة هذه الحاضنة أنه حارب الأرهاب، وهذه حقيقة ولكنه حارب في الوقت ذاته خصومه السياسيين في بنغازي ودرنة.

الجديد في المشهد، بعد أن امتد حفتر جنوبًا، والذي لربما أوجس منه كثيرون خيفة، هو حديث بعض وسائل الإعلام التابعة لقوات حفتر؛ أن قواته تسيطر على ثلثي ليبيا، متناسين أن حفتر لا يسيطر، لا على ثلثي القوة ولا على ثلثي السكان، وأن الصحراء لن يستطيعها إلا بإنهاء الانقسام وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية وإلا فإنها ستبلع كل من يكون خارج السلطة الموحدة.

يقال إن أحد أقطاب النظام السابق عندما سئل؛ لماذا لم تذهبوا إلى الجنوب بعد ضغط ثورة فبراير؟ قال: إذا فعلنا انتهينا مبكرًا. لا قيمة للجنوب بدون الشمال، والعكس صحيح، ولا قيمة لليبيا إلا بوسطها وجنوبها وشرقها وغربها.

حفتر وجد فراغا فشغله دون قتال إلا ما ندر؛ عبر التحالفات القبلية والأموال، وبسد حاجات الناس ومحاربة الجريمة المنظمة، ويسعى جاهدا أن يحد من الهجرة غير القانونية ليكسب رضى المجتمع الدولي. كما أنه قدم الدعم للحكومة التشادية بطلب من بعض الدول الداعمة له بالمال أو التي تعتبر تشاد من مناطق نفوذها أو تلك التي زارت تشاد مؤخرًا.

وقد وفّرَت لحفتر من أجل محاربة المعارضة التشادية مختلف الإمكانيات والكثير من الدعم، وطبقا لتقارير دولية وصحف عالمية فإنه استعان في مجهوده هذا بالمعارضة السودانية ومرتزقة روس.

مهما يكن من أمر فإن العملية في إطارها الأمني رحب بها سكان الجنوب وأشاد بها المجتمع الدولي، الذي أصر على عدم السماح بتجييرها سياسيا ووضع النقاط على الحروف بأن النفط ملك لكل أبناء الشعب الليبي ويكون تحت سيطرة المؤسسة الوطنية للنفط، وأن التصرف فيه يكون تحت سلطة حكومة الوفاق، وبالتالي أصبحت العملية أمنية صرفة ومجردة من أي أهداف سياسية.

لا حل عسكري

لعل حفتر أغضب الولايات المتحدة الأمريكية بعدة أمور؛ أهمها لقاؤه عبر الأثير بوزير الدفاع الروسي على متن الباخرة الروسية، وكذلك استعانته بمرتزقة روس، كما ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية، بالإضافة إلى جرائم الحرب التي قام بها بعض القيادات التابعة له في بنغازي وفي درنة، ولربما في مرزق حسب ما أدلى به أحد أعضاء مجلس النواب عن الجنوب.

حفتر جاء إلى طاولة المفاوضات مضطرا وبضغط من الولايات المتحدة الأمريكية، ومهما يكن السبب فهو أمر إيجابي أن ينضم حفتر إلى الاتفاق السياسي أو إلى النسخة المطورة منه، طالما أن الحل العسكري مستحيل من كل الأطراف، وطالما أن الليبيين كل الليبيين يصرون على عدم التنازل عن وحدة ليبيا.

جرة قلم.. النسخة الجديدة..

كمقدمة للنسخة الجديدة من جرة القلم، وكبادرة حسن نوايا ومن أجل جمع أكبر قدر من الليبيين على هذه الخطوة الجديدة، أرى أن يصدر قانون يؤجل النظر في كل أشكال المتابعة القضائية للقضايا السياسية، إلى أجل، تلك القضايا المتعلقة بفترة حكم سبتمبر أو فبراير أو بمحطات الخلاف المختلفة، فهذه خطوة مهمة وأساسية في سبيل تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.

علينا أن نركز على تضميد الجراح بإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين، ونضمن رجوع اللاجئين في الداخل والخارج إلى مدنهم ووطنهم، وأن نضمن الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان الدستوري، وأن نفتح صفحة جديدة يشارك فيها الجميع.

بعد قيام الدولة يعاد النظر في كل هذه القضايا، والنفوس قد هدأت وهي أقرب للصفح والعفو والقبول بجبر الضرر بدلا من الانتقام والانتقام المضاد. الأيتام والأرامل والجرحى والمتضررين هم ليبيون وهم في نهاية المطاف أبناؤنا وسيقع على المجتمع والدولة عبء رعايتهم ورفع الضرر عنهم مهما كانت الأسباب.

هذه كلها خطوات ضرورية من أجل بناء الثقة والتوجه نحو الاستقرار ومشاركة الجميع في بناء دولتهم على أسس مدنية، تضمن تبعية الجيش للسلطة المدنية دولة القانون والمؤسسات والحقوق والحريات، وهذا مطلب لكل الشعب وبكل فئاته، حتى التي ضد التغيير الذي حصل في فبراير 2011.

أرجو أن يتم هذه المرة اقتناص هذه الفرصة، وأن تتوحد الجهود وتتطور المواقف في اتجاه التفاهم والعمل في سبيل إقامة دولة مدنية يكون فيها الجيش تابعا للسلطة المدنية، ولا يتدخل في السياسة ولا في تأسيس الأجهزة الأمنية.. دولة يسود فيها القانون والحريات والتداول السلمي على السلطة، وتُمنح فيها الحقوق بناءً على المواطنة، لا أحد فوق القانون، ولا أحد يملك فيها أية سلطة غير السلطة التي يمنحها الدستور والقانون

***

عبد الرزاق العرادي ـ عضو المجلس الوطني الانتقالي السابق

______________

المصدر : الصفحة الشخصية للكاتب

مواد ذات علاقة