بقلم محمد عمران كشادة

إن واقع الصراع السياسي في ليبيا والذي طال أمده يؤكد بان استمرار الصراع بدون حسم ، أو حل سياسي سلمي ، سوف يؤدي إلى دخول لاعبين جدد على مسرح الأحداث.

الجزء الثالث

إستراتيجية بوتين للنهوض من الإمبراطورية إلى الاتحادية

شكّل فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية في عام 2000م نقطة بداية لنسق جديد في العلاقة مع الغرب تقوم على التوازن بين الطموحات والإمكانيات لإصلاح المجتمع الروسي واستعادة مكانة روسيا في العالم. لم ترحّب واشنطن بالتغيير في موسكو.

أُعيد انتخاب بوتين لولاية ثانية في عام2004م فعمل على إخراج الاقتصاد الروسي من حال الأزمة النظاميةالتي كان يتخبّط بها، وأصبحت الطاقة مصدر مناعة لهذا الاقتصاد، وامتلأت الخزينة بالاحتياط الأجنبي بفضل أسعار النفط، وصارت روسيا سابع أكبر اقتصاد في العالم.

مع عودة بوتين إلى السلطة في 4 مايو من عام 2012 م ، عمل على إحداث علاقة توازن بين أجهزة الدولة، وأكّد التمسُّك بالمبادئ ومنها الوضوح والبراغماتية وحماية المصالح القومية، من دون الانزلاق إلى نزاعات أو مواجهات، خصوصًا مع شركاء روسيا.

في بداية عام 2014م ، دعم الغرب انقلابًا في أوكرانيا ضد يانوكوفيتش، وبدت هذه الدولة السوفياتية السابقة تبتعد عن تأثير روسيا. أثار هذا الأمر حفيظة بوتين فلم يتردّد في توجيه ضربة عسكرية إلى أوكرانيا في شباط من عام 2014م ، استولت من خلالها القوات الروسية على معظم شبه جزيرة القرم في منطقة جنوب شرق البلاد. وقد دعم لاحقًا استفتاءً شعبيًا في القرم في 16 مارس  من عام 2014م أدّى إلى ضم شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي.

وثيقة الأمن القومي الروسي

دعا بوتين في تموز من عام 2015م إلى ضرورة تعديل إستراتيجية الأمن القومي الروسي الصادرة في عام 2009م ، والمقرّر العمل بها حتى عام 2020م . وقال بوتين خلال اجتماع مجلس الأمن الروسي: “من الضروري تحليل التحدّيات والأخطار المحتملة جميعها، لتشمل السياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها، خلال فترة قصيرة، وتعديل إستراتيجية الأمن القومي الروسي، بناءً على نتائج هذا التحليل“.

وبالفعل في31 ديسمبر عام 2015م صدرت وثيقة الأمن القومي الروسي المعدّلة، حيث شكّل ضمان هذا الأمن أولويّة في إطار عمل الدولة، وتبلور الهدف الرئيس منها في استعادة روسيا لمكانتها كقوة عظمى موازية للغرب، وبخاصةٍ في الشرق الأوسط، للاستجابة الملائمة للتهديدات التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين، ومن أبرز ما جاء فيها:-

(1)- تلقي ممارسة روسيا لسياستها المستقلة داخليًا وخارجيًا مقاومة من قبل الولايات المتحدة والدول الحليفة لها والتي تسعى إلى تكريس هيمنتها على شؤون العالم. كما أنّ سياسة الردع هذه تشمل ممارسة الضغط عليها اقتصاديًا، سياسيًا وإعلاميًا.

(2)- إنّ تعزيز قدرات حلف الناتو وتكليفه وظائف كونية تنفَّذ بما يخالف القوانين الدولية، يشكِّل تهديدًا واضحًا للأمن القومي الروسي، وانتهاكًا للشرعية الدولية، كما أنّ إبقاء منطق الكتل العسكرية في حلّ القضايا الدولية يؤثِّر سلبًا على التعامل مع التحدّيات والتهديدات الجديدة، أمّا استمرار تدفُّق المهاجرين وتناميه من أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، فيعكس مدى عجز نظام الأمن الأورو أطلسي.

(3)- تدعو روسيا إلى تحويل منظمة معاهدة الأمن الجماعيإلى منظمة دولية شاملة قادرة على التصدّي للتحدّيات والتهديدات الإقليمية، بما فيها الإرهاب الدولي والتطرف وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية، وإلى ضرورة تنبُّه المجتمع المدني إلى زيادة عمليات إسقاط الأنظمة السياسيّة الشرعية، مع تحوُّل الأراضي التي تستعر فيها هذه النزاعات إلى قواعد للإرهاب والنعرات الطائفية.

(4)- إنّ ظهور المنظمة الإرهابية التي أطلقت على نفسها اسم الدولة الإسلاميةوتعزيز نفوذها كانت نتيجةً لسياسة المعايير المزدوجة التي تبنّتها بعض الدول في مكافحة الإرهاب “.

(5)- تعتمد روسيا سياسة عقلانية وبراغماتية في مواجهة التحدّيات بما فيها التسلّح . أمّا في مجال الأمن الدولي، فإنّ ألإستراتيجية أشارت إلى أنّ روسيا متمسّكة باستخدام وسائل سياسيّة وقانونية وآليات دبلوماسية هادفة إلى حفظ السلام قبل غيرها، أمّا استخدام القوة فليس ممكنًا إلّا في حال لم تؤدِّ الوسائل السلمية مفاعيلها .

(6)- يستمرّ قلق روسيا من تدخّل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الدائم في أوكرانيا، والهادف إلى إحداث انشقاق عميق داخل المجتمع الأوكراني، كما أنّ خطّة الولايات المتحدة لـنشر الدرع الصاروخي في أوروبا على مقربة من الحدود الروسيةتشكل مصدر قلق للأمن القومي الروسي .

(7)- تهدّد الثورات الملوَّنةفي المحيط الروسي، وخصوصًا في أوكرانيا، السيادة الروسية وسط تغذية الأيديولوجيات القومية المتطرفة لإظهار صورة روسيا على أنها العدو في عقول المواطنين الأوكرانيين“.

(8)- تنبع أهمية شرقي أوروبا بالنسبة للأمن القومي الروسي من ارتباطه بخطوط إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا ، العنصر الأبرز في الاقتصاد الروسي، خصوصًا مع التدهور الأخير الذي أصابه بسبب انخفاض أسعار النفط، والعقوبات الغربية على أثر الأزمة الأوكرانية.

(9)- تؤكّد موسكو اهتمامها ببناء شراكة متكاملة مع الولايات المتحدة الأميركية على أساس المصالح المتطابقة بين البلدين وتأثير  العلاقات الروسية– الأميركية على الوضع الدولي العام كذلك أبدت روسيا استعدادها لبناء علاقة مع الناتو على أساس المساواة من أجل تعزيز الأمن العام في المنطقة الأوروبية الأطلسية، شرط احترام القوانين الدولية.

مما سبق يتضح بأنه هناك مؤثرات تفرض نفسها على صناع القرار السياسي، ولها تأثير كبير في رسم معالم السياسة الخارجية لروسيا.

الجغرافيا لها تأثيرها حيث تحتاج روسيا دائما إلى إن يكون لها وجود في المياه الدافئة ومنها البحر المتوسط حيث ليبيا تمتلك أطول ساحل يبلغ 1900 كم، عدم قدرة روسيا على الاستفادة من موانئها في الشمال نظرا لصعوبة إلابحار بها ، وعدم قدرتها أيضا على الاستفادة من بحر البلطيق يجعل للبحر المتوسط أهمية قصوى .

كما إن فقدان روسيا لنفوذها في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق أمام زحف الاتحاد ألأوروبي وحلف الناتو يجعل روسيا تشعر بالخطر فلابد إن يكون لها وجود في ألاماكن ألإستراتيجية حول العالم ومنها البحر المتوسط ، هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى لها علاقة بالمصالح الاقتصادية والتجارة والنفط والغاز .

أبعاد الدور الروسي في ليبيا

لكي نفهم طبيعة ومسارات الدور الروسي في ليبيا ، يجب أن نأخذ في الاعتبار عدة أبعاد وهي البعد التاريخي، البعد السياسي، البعد الاقتصادي. إن نظرة عميقة بالدراسة والتحليل لهذه ألأبعاد تمنحنا القدرة على وضع تصور منطقي لمالأت واتجاهات الدور الروسي والسياسة الروسية في  ليبيا.

إننا نحتاج دائما إلى استدعاء التاريخ والبحث عن الحقائق ، التاريخ هو سياسة ألامس ، وكثيرا ما يعيد التاريخ نفسه ، ونرى ظهور سياسات في الحاضر أو في المستقبل ، ولها أبعاد تاريخية ، وكثيرا من أوجه الشبه في السياسات ما بين اليوم وألامس البعيد.

إن استدعاء التاريخ يعني الربط بين الحاضر والماضي للوصول إلى حقائق هامة، ليس فقط في تفسير خفايا وأبعاد سياسات اليوم، بل التنبؤ أيضا بسياسات المستقبل ، من المهم أن  نعلم ماذا فعلت روسيا في بعض الفترات التاريخية السابقة.

في الفترة التاريخية التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945م هناك أحداث وحقائق تفرض نفسها ، وليس من الحكمة أن نغفل عنها ونحن نريد أن نحدد وجهة السياسة الخارجية لروسيا تجاه ليبيا.

كانت ليبيا جزءا من المستعمرات الإيطالية التي دار النقاش حول مصيرها بعد الحرب ، إذ كانت هذه المستعمرات من الناحية القانونية خاضعة للسيادة الإيطالية ولا يمكن البت في مصيرها ، وقد استفادت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها من هذا الجانب بإدعائها أن الحركة الوطنية في ليبيا لا يمكنها المطالبة بالاستقلال ما دامت قضية المستعمرات الإيطالية معلقة .

بحثت أول مرة قضية المستعمرات الإيطالية في مؤتمر بوتسدام في تموز عام 1945م  بعد أن أكمل الحلفاء احتلالهم لألمانيا ، فجاء المؤتمر ليضع قرارات مؤتمر يالطا في شباط موضع التنفيذ الذي حضره الرئيس الأمريكي هاري شيب ترومان ، والرئيس السوفييتي ستالين ، ورئيس الحكومة البريطاني تشرشل .

 وفي هذا المؤتمر طرح الاتحاد السوفييتي فكرة الوصاية علي طرابلس ، وكان طبيعيا أن يجابه هذا الاقتراح بالرفض من الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها بريطانيا وفرنسا.

، كما أن إيطاليا التي لم تكن حاضرة في المؤتمر طالبت بالاحتفاظ بليبيا كاملة تحت سيادتها مع ضمان وجود القواعد الأمريكية والبريطانية بل إنها عدت وجود مثل هذه القواعد ضروريا لحفظ الأمن ، مع أنها كانت مع الموقف البريطاني الداعي بأحقيتها في ليبيا التي حررها الجيش البريطاني وتعني بذلك برقة وطرابلس” .

ولكن المجتمعين لم يتفقوا على رأي معين لاختلاف وجهات النظر بينهم ، كما أن القضية لم تبحث بكاملها فأحيلت إلي وزراء الخارجية الدول الأربعة الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ، لإيجاد حل لمشكلة المستعمرات الإيطالية وتحديد مستقبلها السياسي وفي مقدمتها ليبيا .

***

محمد عمران كشادة ( باحث ليبي)

__________

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

 

مواد ذات علاقة