بقلم سمير حمدي

أعاد الحضور القوي لمنتسبي السلفية المدخلية، ضمن قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا هذه الجماعة إلى الأضواء، ما يطرح جملة من الإشكالات بشأن طبيعة التحالف القائم بين مليشياتٍ تزعم أنها تمثل الجيش الوطني الليبي والهيمنة الواضحة لتيار ديني مغلق عليها.

ولا يتعلق الأمر بليبيا وحدها، فقد شكل التيار المدخلي كما يُسمى اصطلاحاً، معضلةً حقيقيةً في المشهد السياسي العربي، منذ ظهور تشكيلاته الأولى مع حرب الخليج الثانية، والاجتياح العراقي للكويت، وما رافقه من استقدام قوات غربية إلى السعودية، وما أثاره من جدل ديني.

وكان أن تصدّر ربيع المدخلي واجهة الدفاع عن السلطة، في استعانتها بقوات عسكرية أجنبية، بكتاب سمّاه صدّ عدوان الملحدين وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين“.

لم يكن غريباً أن يظهر تيار ديني يساند السلطة السياسية في بلاده، فقد كان من المعتاد تشكل مثل هذه التحالفات بين جماعاتٍ دينيةٍ ذات خلفيات مختلفة، سواء صوفية أو سلفية أو حتى جماعات ذات منحى سياسي، مثل الإخوان المسلمين وغيرها.

غير أن الجديد في التيار المدخلي هو ما يتميز به هذا التشكيل، بما يمكن وصفه التعبير الأمثل عن المساندة المطلقة للاستبداد السياسي، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن المدخلية هي الجناح الديني لأجهزة المخابرات العربية (القريبة من السعودية تحديداً).

المدخلية، من حيث موقفها الذي يجعل من طاعة الحاكم من أصول العقيدة، ويحرّم أي شكل من الاحتجاج، ويعتبر الديمقراطية كفراً، والانتخابات التعدّدية والأحزاب ضلالاً، هي في النهاية حلم كل نظام استبدادي عربي، يطمح إلى إقناع شعبه بأن بقاءه في السلطة جزء من الأوامر الإلهية التي تضمن لمن يطيعها الجنة.

فالتيار المدخلي هو الوجه الآخر للسلفية العنيفة التي تكفر الشعوب (نموذج داعش)، إنها السلفية التي تدمر آليات المقاومة، والرغبة في التحرّر لدى الشعوب، وتحويل الدّين إلى أفيون فعلي، يبرّر كل الممارسات السلطوية مهما كانت، بإضفاء الشرعية الدينية عليها.

 

ليست الفكرة المدخلية مجرد إيديولوجيا سلطوية لإيجاد الولاء للحاكم، وضمان عدم تمرّد الشعوب فحسب، بل هي كيان تنظيمي قريب من أجهزة المخابرات السعودية، ومن كل الأجهزة القمعية المماثلة لها.

وهذا ما يفسر اضطراب مواقفها، عند وصول خصوم السعودية إلى السلطة، وخصوصاً إثر الثورات العربية، إذ وجد أتباع هذا التيار أنفسهم في حالة خمود سياسي، رفضوا في أثنائه إبداء أدنى أشكال التأييد لنظام الحكم الذي قاده الإخوان المسلمون سنة واحدة في مصر، أو أن يتخذوا مواقف محددة من نظام الحكم في تونس أو في ليبيا قبل ظهور حفتر، وانحدار البلاد إلى مربع العنف.

إلا أن المدخلية وجدت المجال واسعاً لدعم عبدالفتاح السيسي، واعتباره ولياً للأمر لا تنبغي منازعته، حتى بمجرد الترشح معه، وصولاً إلى حمل السلاح، والانتقال من مجرد الخطابة إلى ممارسة العنف والإرهاب، ضمن مليشيات خليفة حفتر، وإثارة نزعات كامنة من الغلوّ المذهبي، انجر عنه نبش قبر مؤسس الحركة السنوسية في ليبيا.

المدخلية السياسية هي التأويل الديني لفكرة تبرير الطغيان، وهو تقريباً الموقف نفسه الذي يستند إليه مثقفون حداثيون، يرفضون الثورات تحت شعارات الوطنية، وسلاحهم التخوين والتشكيك في المعارضين، فما الفرق بين مثقفٍ يبرّر قتل جمال خاشقجي، لأنه يمثل خطراً على الأمن، أو يعتبر سجن المعارضين خطوة احترازية لحماية المصالح العامة، وسلفي مدخلي يبرّر ذلك كله، تحت زعم كفر كل الخوارج الذين يتمرّدون على السلطة، من خلال استعادة مصطلحات قديمة في تصنيف الفرق الإسلامية وتنزيلها في غير سياقها.

وقديماً كان الفقهاء يقولون إن الإرجاء دين الملوك، غير أن المدخلية تجاوزت مجرد أن تكون ديناً لحاكم معين، لتصبح أداة في لعبة دولية أوسع، فمراكز القرار الغربية (فرنسا مثلاً) تدرك أن المداخلة يشكلون العمود الفقري لجيش حفتر، ولكنهم يغضّون الطرف عن هذا المؤشر خدمة لمصالحهم، فتغيب قيم الثورة الفرنسية والشعارات التنويرية، لتحلّ محلّها رائحة النفط المغلفة بشعارات التيار السلفي المدخلي، المضمّخة بدماء الأبرياء.

***

سمير حمدي ـ كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.

__________

 

مواد ذات علاقة