بقلم مأمون خلف

«أنا قلق، أعتقد أن خلف الأحداث الأخيرة هناك أحدًا ما. أحدهم أطلق شرارة حرب كانت لا يجب أن تندلع أبدًا، ودعا لعقد انتخابات دون العودة لحلفائه ودون التواصل مع كل الأطراف المحلية المعنية.

أحدهم ذهب لهناك لفرض إملاءاته، ولتصدير ديمقراطيته، هذه الطريقة لن تجدي نفعًا أبدًا».

الجزء الثاني

يبقى السؤال، بما أن المشكلة مشتركة على اختلاف تفريعاتها والحل يقتضي إيجاد حكومة تضمن استقرار البلاد، وضبط حدودها فلما يختلف الطرفان الإيطالي والفرنسي على الحل السياسي في ليبيا؟ بل يعرقل كل طرف مبادرة الطرف الآخر، ويجهض محاولات التوصل لحل سياسي دائم.

ففي الوقت الذي تتمركز فيه إيطاليا في الغرب الليبي وتدعم حكومة الوفاق الوطني، ولها هناك في بنغازي سفارة يحميها ألف جندي، ومستشفى عسكري بمدينة مصراته يعمل فيه أكثر من 200 عنصر، أكثر من نصفهم جنود.

تدعم فرنسا قوات خليفة حفتر المتمركزة في الشمال والشرق الليبي بوجود سفارتها الليبية مؤقتا في تونس، مع بعض الخبراء العسكريين لتقديم المساندة والمشورة الميدانية.

ومن جهة أخرى، في الوقت الذي تدعو فيه باريس إلى إجراء تفاهمات بين كل الأطراف السياسية للتمهيد لعقد انتخابات برلمانية ورئاسية في أسرع وقت ممكن، تدعو روما للتريث في إجراء هذه الانتخابات إلى حين استتباب الأوضاع الأمنية.

فأين المشكلة؟

مدعومة بتاريخها الاستعماري لليبيا في الفترة من 1911 إلى 1943، تعتبر روما ليبيا منطقة نفوذ جيوسياسي واستراتيجي لها، لا يمكن أن تسمح لفرنسا أبدًا بدخوله.

اعتبرت صحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية، في إحدى افتتاحياتها أن التحرك الفرنسي في الأراضي الليبية يعتبر تهديد مباشر لأمن إيطاليا القومي، يجب إيقافه والحد من تداعياته المستقبلية فورًا.

فموقف روما مدعوم بتفاهمات دولية من هذه الناحية، وتعتبر صاحبة اليد الطولى في ليبيا أمام المجتمع الدولي، وتتلقى دعما استراتيجيًا من الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص.

فهي أول دولة أوروبية أقامت سفارة في طرابلس بعد عام 2011، وهذه نقطة تحسب لروما على حساب باريس.

أما فرنسا التي حفظت لنفسها موطئ قدم استعماري في الجنوب الليبي باحتلالها منطقة فزان الجنوبية 1943-1951، فيستند موقفها على تبني البعثة الأممية ومجلس الأمن لكثير من مبادراتها السياسية، لحلحلة الأوضاع في ليبيا سياسيًا.

والأهم أنها تعتمد على حقيقة أنها من قاد التحالف الدولي للإطاحة بنظام القذافي.

وقياسًا على التجربة الأمريكية في العراق؛ ونصيبها من ثروات «عراق ما بعد صدام حسين»، فإن لها الحق بنصيب وافر من ثروات «ليبيا ما بعد القذافي»، وهو ما قد يفسر حقيقة الصراع بين إيطاليا وفرنسا على ليبيا.

فتش عن الطاقة.. من سيجني بترول ليبيا؟

يبدو أن مصالح البلدين لا تتوقف عند حدود ضبط عملية الهجرة غير الشرعية، وتدفق المقاتلين عبر ليبيا إلى إيطاليا وفرنسا؛ بل إن المصالح الاقتصادية أطغى وأكثر حضورًا من مشكلة تدفق المهاجرين والمقاتلين على حد سواء.

فبينما يشير موقع عملاق الطاقة الفرنسي «توتال» الرسمي إلى أنه يملك 75% من حقوق التنقيب عن النفط في حقل الجرف في المناطق 15، 16، 32، و16% من حقوق التنقيب في حقل الواحة، و30% من حقوق التنقيب في حقل الشرارة بلوك 129 و130، وأخيرًا 24% من حقوق التنقيب في قاع مرزوق بلوك 130 و131؛

فإن عملاق الطاقة الإيطالي «ايني» يعمل على الأراضي الليبية منذ العام 1959. وله 50% من إنتاج المنطقة (أ)، ومثلها من حقول المناطق (ب)، (و)، (د). و33% من إنتاج المنطقة (و)، وبمقارنة حصة البلدين تجد أن هناك بونًا شاسعًا لمصلحة الشركة الايطالية التي تملك الحكومة 30% من أسهمها.

ويمكن القول إنه منذ الإطاحة بنظام القذافي ركزت فرنسا كل تواجدها في الشمال والشرق الليبي، وآثرت الابتعاد عن الشمال والغرب الليبي الذي بقي تحت سيطرة القذافي وأتباعه حتى سقوطه، والذي لسبب أو لآخر كان مكان تواجد الإيطاليين ونفوذهم. لكن المثير للدهشة هو استثمار فرنسا في خليفة حفتر بعد 2014 تحديدًا، عام انفصال وافتراق أخوة السلاح ضد نظام القذافي.

منذ ذلك الحين، تدعم فرنسا حفتر في محاولاته المستمرة لبسط سيطرته على الغرب الليبي المعترف به دوليًا من حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج، ممثلا للشعب الليبي في مرحلة ما بعد القذافي. إذ تبرر أن غياب الأمن هو لب المشكلة الواجب حلها أولًا في ليبيا، لا الهجرة.

فمن وجهة نظر فرنسا؛ حول غياب الأمن البلاد إلى مسرح للتهريب بكل أنواعه، وساحة آمنة لأنشطة المسلحين، سواء كانوا أبناء تنظيمات دينية أو غيرها؛ مما يهدد مصالح فرنسا في أفريقيا انطلاقًا من الصحراء الكبرى.

وهذا ما قد يفسر دعم باريس، على الأقل من وجهة نظرها، لقوات حفتر ودفعها من أجل إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن.

من جهة أخرى، انتصار رجلها عسكريًا في ليبيا سيدعم حظوظه بالفوز في أي انتخابات قادمة؛ ما يعني أن باريس ستضرب أكثر من عصفور بحجر حفتر.

أولًا: تحقيق الهدف المعلن سياسيًا، إعادة الأمن لليبيا، والحد من خطر المسلحين والتنظيمات المتشددة بمواجهتهم على أراضيهم قبل انتقالهم إلى أوروبا، ومن ثم إلى فرنسا.

ثانيًا: ستحل اشتباكًا سياسيًا مؤرقًا مع روما فيما يخص مهاجرين العمل والبحث عن فرص حياة، وتمكن روما والاتحاد الأوروبي من ورائها من ضبط تدفق الهجرة.

ثالثًا: وهو الأهم أن باريس من خلال رجلها ستحظى بفرصة تاريخية لتوقيع عقود التنقيب عن النفط والغاز في عموم ليبيا الذي تستورد شركة «توتال» حاليًا منه ما نسبته 15% فتضمن مصدرًا جديدًا لتدفق الطاقة. إلى جانب ذلك ستحصل على عقود مغرية جدًا لإعادة بناء ليبيا وتسليح جيشها الجديد، وبذلك ستحرك سوق العمل، وتحد من الأزمة الطاحنة فيه.

وعلى العكس من الاندفاع الفرنسي في ليبيا؛ فضلت إيطاليا الهدوء في إدارة الملف الليبي، وتأمين مصالحها الاستراتيجية بعيدًا عن العنتريات السياسية. لذا حافظت روما على علاقات طيبة مع مختلف الحكومات الليبية منذ الإطاحة بالقذافي، وعملت مع الجميع في الشمال والغرب الليبي على ملفين، هما:

الحيلولة دون تواصل تدفق المهاجرين، والحفاظ على مكتسباتها التاريخية من قطاع الطاقة، وزيادتها.

فإلى جانب دعم حكومة الوفاق في طرابلس، تدعم ايطاليا كذلك مليشيات وقبائل الغرب الليبي علنًا، حيث تتركز استثماراتها ومصالحها، وتزودهم بالمال والمعدات ودعتهم إلى اجتماعات دورية عقدت في العاصمة روما.

لذا نجد أن الحكومة الإيطالية لا ترى لحفتر مكانًا في مشروعها السياسي في ليبيا، بل ترى فيه تهديدًا خطيرًا لمصالحها.

ولهذا السبب تتعامل روما بحذر مع رؤية باريس السياسية للوضع في ليبيا لإدراكها لأبعاده الأمنية والاستراتيجية. بل تعمل على بقاء الوضع على ما هو عليه الآن لأنه الوضع الذي يؤمن مصالحها، ويبقي أطماع فرنسا في النفط والغاز الليبي مجرد أحلام يقظة غير قابلة للتحقيق.

بل إنها بعملها على إفشال تحركات حفتر والمشروع الفرنسي خلفه؛ تحقق روما أكثر من هدف في مرمى باريس.

فبالإبقاء على الوضع كما هو، ترفع إيطاليا تكلفة فاتورة دعم حفتر على فرنسا سياسيًا واقتصاديًا كنوع من حرب استنزاف بالوكالة. فبدءًا من الإعلان عن مقتل ثلاثة جنود فرنسيين بتحطم طائرتهم عام 201، إلى توقيف 13 فرنسيًا من جهاز المخابرات الفرنسية في تونس الأسبوع المنصرم، كلها فواتير تدفعها باريس ثمنًا لتبنيها حفتر سياسيًا وعسكريًا، فكم يمكنها أن تصمد؟

من جهة أخرى تبقي روما على حصة «ايني» من استيرادها النفط الليبي 25% ومن الغاز 10% على ما هو عليه، وفي المستقبل بإمكانها أن تزيدها، خصوصًا أن إيطاليا تستورد 48% من نفطها، و40% من غازها من ليبيا.

ويمكن القول إنه ما لم تحسم هذه القضايا في ليبيا، إما عن طريق مبادرة دولية حقيقية ما، أو بأيدي الليبيين أنفسهم، فإن الصراع بين إيطاليا وفرنسا حول ليبيا سيستمر ويتصاعد، إذ ستواصل فرنسا تبني أجندتها بالدفع باتجاه انتخابات في ظرف سياسي غير ناضج من خلال دعمها لحفتر، فيما ستواصل إيطاليا هدوئها في الدفاع عن مصالحها الاقتصادية من خلال دعم حلفائها في الغرب الليبي.

وفي الأثناء ستستمر معاناة ليبيا والليبيون، وستستمر صراعاتهم بالوكالة وتبقى البلاد ساحة صراع مصالح دولية، بينما يتسع الرتق في النسيج المجتمعي بين أبناء البلد الواحد.

***

مأمون خلف ـ باحث فلسطيني/ إيطالي

_________

مواد ذات علاقة