يحقق أتباع المذهب السلفي المدخلي حضوراً بارزاً على جانبي الانقسام الليبي، الأمر الذي يثير المخاوف حيال الأجندات المتشددة التي يتم فرضها من خلال المؤسسات العسكرية والدينية. ينبغي أن يضمن المفاوضون أن تكون قوات الأمن التي تجري إعادة بنائها حيادية سياسياً وأن يتعهد المداخلة باحترام التعددية.

الجزء الأول

ما الجديد؟ لقد اكتسب السلفيون المداخلة، وهم أتباع مذهب مسلم سني شديد المحافظة نشأ في السعودية، نفوذاً كبيراً في سائر أنحاء ليبيا، بما في ذلك في مجموعات مسلحة ومؤسسات دينية رئيسية. رغم أنهم ساعدوا في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية ويوفرون الأمن، فإن صعودهم مثار انقسام ومن شأنه أن يعقّد الجهود الرامية إلى تسوية الصراع الليبي.

ما أهمية ذلك؟ يشعر كثيرون، من أنصار المجتمع المدني إلى السلفيين إلى التيارات الدينية الأخرى، بالرعب من النفوذ الذي يحظى به المداخلة، ومن أفعالهم التي تنضح بعدم التسامح ومن أجندتهم المعادية للديمقراطية. كما أن أيديولوجيتهم تضعهم على الطرف النقيض من الإسلاميين السياسيين مثل الإخوان المسلمين، الأمر الذي يعكس انقسامات إقليمية. إن وجودهم في مجموعات مسلحة قوية يجعلهم لاعبين محوريين في الصراع الليبي.

ما الذي ينبغي فعله؟ ينبغي على الأطراف الساعية إلى التوصل إلى حل سياسي للصراع الليبي أن تضمن، في سياق بناء الجهاز الأمني، منع تسييس قوات الأمن عبر أي نوع من التأثير الأيديولوجي. كما ينبغي على المداخلة الالتزام باحترام حرية التيارات الدينية والفكرية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني وحيادية المؤسسات الدينية.

الملخص التنفيذي

يتنامى نفوذ السلفيين المداخلة (“المداخلةاختصاراً)، وهم أتباع مذهب إسلامي سني شديد المحافظة، في سائر أنحاء ليبيا منذ سقوط نظام القذافي في العام 2011. إنهم يمارسون نفوذاً عسكرياً كبيراً من خلال وجودهم في مجموعات مسلحة رئيسية في شرق وغرب البلاد على السواء؛ ونتيجة لذلك، فإنهم يمارسون نفوذاً سياسياً على الحكومتين المتنافستين اللتين نشأتا بعد العام 2014.

إن صعودهم داخل القطاع الأمني يتماشى مع نمط شائع لدى الفصائل الليبية المتحاربة الأخرى، الإسلامية وغير الإسلامية، التي سعت إلى توسيع نفوذها باختراق الجهاز الأمني وتغيير منظور أفراده للعالم. أما الآن، فقد أثارت أجندتهم المعادية للديمقراطية ورفضهم للتنوع الديني والثقافي في ليبيا مخاوف متنامية لدى الكثير من الليبيين.

ينبغي على اللاعبين السياسيين الليبيين الذين يتفاوضون على حل للصراع أن يسعوا إلى بناء جهاز أمني احترافي معزول عن أي نفوذ أيديولوجي من أي نوع كان. كما ينبغي على المداخلة من جهتهم أن يعلنوا التزامهم باحترام التيارات الدينية والفكرية الأخرى.

يشكل المداخلة مكوناً مهماً في القوات العسكرية الشرقية التي تشن حالياً هجوماً على مقر الحكومة في طرابلس، لكن صعودهم والتوترات التي يثيرها في ليبيا لا تشكل بأي حال من الأحوال خط الصدع الرئيسي في الصراع.

ثمة خطوط صدع أخرى عديدة تلعب دوراً مهماً، مثل الادعاءات المتناقضة للحكومتين بامتلاك الشرعية، والمحاولات الفاشلة لتوحيد الجيش المنقسم في البلاد، والانقسامات بين القوى الدولية المعنية، والعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة التي وصلت إلى طريق مسدود، والحوافز الاقتصادية القوية للاعبين المحليين لإطالة أمد الأزمة.

بعبارة أخرى، فإن المداخلة يشكلون عاملاً واحداً فقط. لكن تم التغاضي عنهم، على الأقل جزئياً بسبب وضعهم المبهم وغموض أهدافهم السياسية. غير أن دورهم المتنامي يضيف بُعداً آخر إلى الصراع متعدد الأبعاد أصلاً.

كما في مناطق أخرى من العالم العربي، فإن التيار المدخلي – الذي يحمل اسم الشيخ ربيع المدخلي، رجل الدين السعودي الذي يلتزم أتباعه أيديولوجيا محافظة متشددة لكنها تنزع إلى المهادنة سياسياً – نما بسرعة في ليبيا في السنوات الأخيرة. التيار، الذي تساهل معه القذافي قبل انتفاضة 2011 بسبب تبعيته السياسية، والذي أصبح لاعباً ثانوياً بعد سقوط النظام مباشرة، اكتسب عدداً كبيراً من الأتباع منذ بداية الصراع الحالي في العام 2014 وعزز وجوده في مؤسسات رئيسية.

في طرابلس، للمقاتلين المداخلة تمثيل كبير في المجموعات المسلحة الرئيسية التي عملت مع حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً لتحقيق الأمن في العاصمة. إنهم يسيطرون أو يمارسون نفوذاً كبيراً على بعض مرافقها ومؤسساتها الرئيسية، التي يوفرون لها الحماية. في الشرق، يشكلون مكوناً مهماً في الجيش الوطني الليبي، ولعبوا دوراً محورياً في معركة استعادة بنغازي بقيادة المشير خليفة حفتر، ويتحركون الآن غرباً مع الجيش الوطني الليبي لانتزاع السيطرة على طرابلس من حكومة فايز السراج المدعومة من الأمم المتحدة والمجموعات المسلحة المتحالفة معها.

كما سيطر المداخلة على مؤسسات دينية مهمة، واستخدموها لنشر معتقداتهم التي تثير الانقسام أحياناً.

رغم عدم انخراطهم مباشرة في السياسات الانتخابية بسبب رفضهم للديمقراطية، فإنهم رغم ذلك يشكلون مجموعة ضغط مهمة تدعو إلى إعطاء دور أكبر للدين في الحياة العامة، بما في ذلك تطبيق الحدود القصوى للشريعة، وهو ما يرون أنه ينبغي أن ينعكس في أي دستور مستقبلي. حتى الآن، لم يرفضوا نظام محاكم الدولة (كما فعلت فصائل إسلامية أخرى في ليبيا بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية والمجموعات المتحالفة مع القاعدة في الماضي). على نحو مماثل، ورغم أن بعض أعضائهم دعوا إلى درجة أكبر من الفصل بين الجنسين، فإن الحركة لم تحاول حتى الآن فرض تطبيق مثل هذه المطالب بشكل شامل.

إلا أن السلوك السري للجماعة واستعدادها للانخراط في تعاون تكتيكي مع القوات شبه العسكرية في شرق وغرب ليبيا على حد سواء يطرح أسئلة حول أهدافها بعيدة المدى.

يتمتع المداخلة – أو تمتعوا في الماضي – بدرجة معينة من الشعبية في أوساط الليبيين، الذين يتفقون مع نزاهتهم المفترضة، وفي بعض المناطق، لمساعدتهم في استعادة النظام. لقد جعلتهم أيديولوجيتهم ذات الطبيعة المميزة – التي تعارض في الوقت نفسه الإسلاميين السياسيين غير العنيفين من جهة والمجموعات الجهادية العنيفة من جهة أخرى – حلفاء في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكنها أدت أيضاً إلى تعميق أحد الانقسامات في الصراع الليبي بين أنصار وخصوم تنظيمات مثل الإخوان المسلمين.

في الواقع، فإن معارضتهم الأيديولوجية للإخوان المسلمين تضعهم مع أحد طرفي انقسام إقليمي أوسع أطال أمد الصراع. على عكس بعض المجموعات الثورية التي ظهرت في العام 2011، فإنهم لم يسعوا إلى معاقبة أو تهميش الموالين السابقين للقذافي؛ إذ تسمح لهم أيديولوجيتهم بالتسامي على الانقسامات القبلية، والعرقية والجهوية؛ وقد يكونون فريدين ربما في فرض وجودهم في سائر أنحاء البلاد، والتحالف مع القوى المحلية على طرفي الصراع.

لكن بالنسبة لمنتقديهم، فإن المداخلة متطرفون ينفذون أجندة لتغيير المجتمع. ويرون في الهجمات اللفظية، وأحياناً الجسدية، للمجموعة على جملة من الأهداف تتراوح بين العلمانيين، والإسلاميين الآخرين، وأفراد الطرق الدينية مثل الإباضيين، والصوفيين، والنشطاء من نساء وشباب، واستخدام المؤسسات الدينية للدولة لنشر عقيدتهم المحافظة المتشددة كاستراتيجية لفرض أعراف ثقافية ومجتمعية جديدة.

إن هذا، إضافة إلى النفوذ العسكري المتزايد للمداخلة على المراكز السياسية والقوى الأمنية الرئيسية، وعدم وضوح طموحاتهم النهائية، وصعودهم السريع منذ العام 2011، بات مصدراً كبيراً للقلق.

إضافة إلى ذلك، فقد قدم المداخلة دعمهم العلني لحفتر، وهو شخصية مثيرة للانقسام العميق، حيث دعا إلى إجراء الانتخابات لكن يتهمه خصومه بالرغبة بتأسيس ديكتاتورية عسكرية، ما يطرح احتمال أن يلجأ المداخلة المتحالفون حالياً مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، التي يعارضها حفتر، إلى تغيير ولائهم. كما دفعت الشكوك بأن فتاوى المداخلة مدفوعة بالمصالح السياسية والأمنية للسعودية إلى ظهور مخاوف من أن التيار يخدم أجندة خارجية.

وقد عزز الدعم الظاهري الذي أبدته الرياض للهجوم الذي يقوده حفتر على طرابلس في مطلع نيسان/أبريل مثل هذه المخاوف.ينبغي على أولئك الساعين إلى دفع الأطراف الليبية المتصارعة إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى حل سياسي للصراع أن يأخذوا بالاعتبار ليس فقط الموقع الفريد للمداخلة، بل أيضاً احتمالات إثارة الصراع التي يمكن أن يؤدي إليها صعودهم.

لدى المداخلة حضور مهم فيما من المرجح أن يصبح اللبنات الرئيسية لقوات الأمن الموحدة المستقبلية، كما أن لديهم آراء قوية بشأن العمليات الدستورية والانتخابية التي يحضّر لها اللاعبون الليبيون والأمم المتحدة حالياً. في الحد الأدنى، ينبغي على الأطراف الليبية والخارجية القيام بما يلي:

  • ضمان أن تعالج الترتيبات الأمنية التي يتم تصميمها حالياً – سواء تلك التي تسعى الجهود المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس والتي تسعى حكومة الوفاق الوطني إلى تنفيذها، أو القرارات الأمنية الأحادية التي ينفذها الجيش الوطني الليبي وحكومة المنطقة الشرقية التي تدعمه، أو الجهود المستقبلية لإعادة إحياء المبادرات التي وصلت حالياً إلى طريق مسدود لتوحيد قوات الأمن المتشظية – المشكلة التي يطرحها النفوذ الأيديولوجي لأي مجموعة مسلحة في الجهاز الأمني. وينبغي أن يشمل هذا بنوداً تقضي بإدماج الأفراد في الأجهزة الأمنية طبقاً لمؤهلاتهم وليس لارتباطاتهم الأيديولوجية أو انتماءاتهم الأخرى، وأن تحث الحكومتان المتنافستان على عدم النشاط الديني في الجهاز الأمني، سواء كان من قبل المداخلة أو غيرهم.

  •  فرض مبدأ وجوب تسامح المؤسسات الدينية حيال الحرية والتنوع الدينيين في إجراءاتها القانونية والإدارية. وينبغي على الحكومتين المتنافستين، وأيضاً على أي حكومة وحدة وطنية قد يتم تشكيلها في النهاية، إلغاء أي فتوى من شأنها أن تعرّض التيارات الدينية في ليبيا للخطر وأن تؤكد على أن جميع التيارات والطوائف الدينية تستحق الحماية والتسامح – وهي حقوق ينبغي أن يصونها الدستور.

  • الضغط على حكومة الوفاق الوطني وعلى الحكومة المنافسة لها في شرق ليبيا للسماح لمنظمات وشخصيات المجتمع المدني العمل بأمان دون مضايقة أو تهديدات، وعدم التساهل مع أي محاولة مستقبلية للتعدي على الجهاز القضائي أو فرض فصل أكثر تشدداً بين الجنسين.

  • حث السعودية على تقييد سلطاتها الدينية والأشخاص المقيمين على أراضيها ومنعهم من التحريض أو المشاركة في العنف في ليبيا.

إن غياب دولة فعالة واستمرار الصراع على النفوذ بين المجموعات السياسية المتنافسة والفصائل العسكرية يعقّد هذه الجهود. لقد مزقت ثماني سنوات من الصراع النسيج الاجتماعي وقوضت الثقة بجهاز الدولة، وأتاحت المجال لمجموعات ذات أيديولوجيات دينية لتحقيق مكاسب. لقد انخرط بعضها علناً في العنف أو أقحم نفسه في قوات الأمن. إن عدم احتواء هذه المجموعات يشكل عاملاً إضافياً يمكنه أن يقوض التقدم نحو تحقيق الاستقرار في ليبيا، بل يمكن أن يعكسه، أو حتى يدخل البلاد في حرب مهلكة جديدة.

____________

مواد ذات علاقة