بقلم خليفة حداد

بدخول العملية العسكرية التي تشنها القوات التابعة لخليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس شهرها الثاني، يتضح أن حسابات المهاجمين وحلفائهم الإقليميين، لم تكن دقيقة، وأن الآمال التي كانت معقودة على حسم عسكري سريع يلحق طرابلس ببنغازي ودرنة والجنوب، بددتها معطيات الميدان.

الجزء الثاني

2 / مشهد سياسي جديد

لم تتوقف تداعيات الهجوم على طرابلس عند نسبية حسابات الميدان، بل تعدتها إلى إفراز مشهد سياسي جديد في المنطقتين الوسطى والغربية.

فقبل أسابيع من انطلاق العملية العسكرية تواتر الحديث عن ضرورة إعادة النظر في صيغة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني، وصولا إلى التشكيك في جدوى المؤسسات المنبثقة عن اتفاق الصخيرات برمتها.

وتوازى هذا الطرح مع التحضيرات الجارية لعقد المؤتمر الوطني الجامع الذي كان مبرمجا في 14 من شهر أبريل/ نيسان المنقضي بمدينة غدامس بإشراف بعثة الأمم المتحدة للدعم.

والذي كان على رأس جدول أعماله طرح خريطة طريقة لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية تفرز مشهدا سياسيا ومؤسساتيا جديدا، يكون فيه للجنرال حفتر موقعا عسكريا رسميا متقدما، وقد يفتح أمامه الطريق لخوض الانتخابات الرئاسية.

ولاشك أن الهجوم على طرابلس طوى فكرة المؤتمر الوطني الجامع، وأن التأجيل الذي أعلنه رئيس البعثة الأممية غسان سلامة مجرد إعلان دبلوماسي عن أن مرحلة ما بعد الهجوم لا مكان فيها لمثل هذه المشاريع، وأن الفرقاء اختاروا حوارا ساخنا بالرصاص والقذائف على تخوم طرابلس.

وما يرجح أكثر استبعاد أي حوار قريب تواتر التصريحات الصادرة عن معسكري النزاع، ففي حين يعلن حفتر وقادة عملية الكرامةأن الحل العسكري هو الخيار الوحيد للتعاطي مع من يصفونهم بـالجماعات الإرهابيةفي طرابلس، يذكّر رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج وأعضاء المجلس ووزير الداخلية فتحي باشاغا، في كل ظهور إعلامي لهم، بأن على القوات المهاجمة العودة من حيث أتت قبل الحديث عن أي عملية سياسية، وأن حفتر لم يعد شريكا في أي ترتيبات قد تعقد مستقبلا.

ويجدر التذكير في هذا السياق بأن رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج تحاشى طيلة السنوات الثلاثة المنقضية توجيه أي إشارة سلبية يمكن أن تثير حفيظة قائد عملية الكرامةخليفة حفتر، وأشاد، في أكثر من مناسبة، بالعمليات العسكرية في بنغازي والجنوب.

بل أن كتائب محسوبة على المجلس الرئاسي اعتقلت العديد من النشطاء المعارضين لعملية الكرامةمن نازحي بنغازي ودرنة في طرابلس، وحتى من الشخصيات السياسية من المنطقتين الوسطى والغربية بتهمة مد يد العون لمعارضي حفتر.

كما تجدر الإشارة، أيضا، إلى أن المجلس الرئاسي، بصفته القائد الأعلى للجيش الليبي بموجب اتفاق الصخيرات، لم يتخذ أي إجراءات عسكرية احترازية للحيلولة دون اقتراب قوات حفتر من العاصمة قبل الهجوم الأخير رغم تواتر التقارير عن توجيه حفتر قوات كبيرة إلى الحزام الجنوبي لطرابلس، رغم التغطية الإعلامية المكثفة التي رافقت انتقال الأرتال من الجفرة والمنطقة الشرقية والجنوب إلى المنطقة الغربية.

من المبكر الحديث عن تغير مبدئي في خيارات رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بشأن التعاطي مع تفاصيل المشهد السياسي والعسكري الليبي.

ففي اللحظة الحالية، التي يعلو فيها صوت المعركة عن أي صوت آخر، وجد السراج نفسه من جهة تحت ضغط اندفاع حفتر الذي لا يرغب في أي شريك في السلطة في ليبيا مدعوما بشركاء إقليميين يمنحون المال والسلاح بسخاء، رغم اللقاءات المتكررة بين الرجلين في أبي ظبي والقاهرة وباريس.

ومن جهة أخرى فهناك ضغط ارتفاع سقف مطالب المحسوبين على ثورة 17 فبراير من القيادات والمقاتلين الميدانيين الذين تنادوا من مختلف مدن المنطقة الغربية، والذين يدفعونه ليكون واجهة سياسية في مستوى المرحلة ويطالبونه بالقطع مع سياسة المهادنة ومسك العصا من الوسط.

ورغم أن السراج ووزير الداخلية فتحي باشاغا؛ أصيل مدينة مصراتة، وعضوي المجلس أحمد معيتيق ومحمد عماري زايد، تميزوا برفع سقف خياراتهم، في أغلب تصريحاتهم الإعلامية، إلا أن خطاب وزير الخارجية محمد الطاهر سيالة وأداءه، كانا محل نقد في وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي واعتبرا تعويما للقضية في لحظة سياسية وعسكرية لا تحتمل مثل هذا السلوك الدبلوماسي.

وطالما مازال المشهد العسكري يراوح مكانه دون تراجع واضح ومعلن من طرف حفتر، وهو أمر مستبعد حاليا، فإن المشهد السياسي في طرابلس والمنطقة الغربية سيظل محكوما بمعطيات الميدان، ومن المستبعد أن تفلح الجهود الدولية الداعية إلى الحوار في جمع الطرفين، مجددا، على طاولة واحدة وضمن أي صيغة من الصيغ.

ويبدو أن زيارة السراج والوفد المرافق له إلى عدد من الدول الأوروبية ذات العلاقة بما يجري في ليبيا، تتنزل في إطار الترويج لإمكانية ترتيب مشهد سياسي ليبي جديد يطوي الصيغ التي ظلت متداولة حتى 4 من أبريل / نيسان المنقضي تاريخ إطلاق حفتر عملية طوفان الكرامة“.

3 / مشهد مفتوح على احتمالات عدة:

دأبت قيادة عملية الكرامة، منذ الأيام الأولى للهجوم على طرابلس، على الترويج إلى أن العملية العسكرية تسير وفق ما تم التخطيط لها، غير أن جميع المؤشرات ترجح أن المهاجمين، وحلفاؤهم الإقليميون، كانوا يتوقعون دخولا سريعا وسهلا إلى العاصمة وأن المعطيات الميدانية الحالية لم تكن في حسبانهم.

ومن الجلي، حاليا، أن العجز عن الحسم العسكري يتكرس يوما بعد يوم، من خلال التراجع عن عديد المحاور التي تمت السيطرة عليها في الأيام الأولى، ومن خلال ظهور مصاعب حقيقية في الإمداد عبر الطرقات الطويلة من المنطقة الشرقية والجفرة والتي تتعرض إلى قصف متكرر من طيران الكلية العسكرية بمصراتة، إضافة إلى الفشل في استمالة أي من كتائب العاصمة لتسهيل دخول المهاجمين.

وتتضاعف الورطة العسكرية باللجوء إلى القصف بالأسلحة الثقيلة وصواريخ الغراد والطيران داخل مناطق مكتظة بالسكان، ما أدى إلى ظهور أزمة إنسانية تجلت في تدمير عدد كبير من المساكن والمنشآت المدنية ونزوح ألاف الأسر من عين زارة ووادي الربيع وقصر بن غشير وغيرها من مدن وبلدات الحزام الجنوبي للعاصمة.

ورغم بطء التحرك الذي ميّز أجهزة حكومة الوفاق في الترويج للمسألة الإنسانية إلا أن مشاهد آثار العملية العسكرية على المدنيين بدأت تأخذ طريقها إلى وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية والقانونية، وهو ما يمكن أن يمثل عبئا جديدا على قيادة عملية الكرامةمن شأنه الرفع من تكاليف المعركة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي.

وفي السياق ذاته، تمثل عملية النزوح الجماعي من الحزام الجنوبي إلى داخل العاصمة ضغطا مضاعفا على حكومة الوفاق الوطني وأجهزتها التنفيذية والخدمية، المطالبة بإيواء النازحين وإعاشتهم وتأمينهم وتقديم الرعاية الصحية ومختلف الخدمات إليهم، والتي لم تتخذ أي استعدادات استباقية لمثل هذا الوضع.

أما على المستوى الاجتماعي، فقد ساهم الهجوم على العاصمة في توسيع الشرخ الاجتماعي وحالة التشظي التي أصابت الكيان الليبي منذ 2014.

ولوحظ تصاعد خطاب الفرز الجهوي على وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، من خلال تصوير العملية على أنها صراع بين شرق البلاد وغربها وعدوان من إقليم برقة على المنطقتين الوسطى والغربية والعاصمة، وتواتر بث أشرطة الفيديو التي تظهر قيادات عسكرية توجه خطابات تتضمن حطا من شأن أهالي العاصمة.

ولم تتوقف إثارة المسألة الجهوية عند العامة، بل تعدتها إلى الأجهزة الرسمية، على غرار الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة للحكومة المؤقتة بالمنطقة الشرقية، التي أصدرت بيانا (فتوى)، في ثاني أيام شهر رمضان، يحمل تشبيها ضمنيا للعملية العسكرية على العاصمة بالغزوات التي خاضها المسلمون الأوائل ضد الكفار.

ورغم أن هذا السلوك ووجه باستنكار واسع من طرف النخب السياسية، وعلى رأسها أعضاء المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، وحتى قيادات من المنطقة الشرقية، إلا أن الأكيد أن العملية خلفت ندوبا في الكيان الاجتماعي الليبي لن تندمل في الأمد القريب.

ورغم أن الانقسام يعد أمرا واقعا منذ 2014 رغم عدم الاعتراف به رسميا من معسكري الفرقاء، إلا أن الأحداث الأخيرة تجعل من مأسسته وتعميقه أمرا واردا على المدى المنظور.

خاتمــة

بعد أكثر من شهر من الكر والفر بين قوات خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني على تخوم طرابلس الجنوبية، يتضح، جليا، أن الحسم العسكري مازال بعيد المنال، كما تتراكم المؤشرات إلى أن مشهدا سياسيا وعسكريا ليبيا جديدا بصدد التبلور،

وأن ليبيا ما بعد 4 أبريل/ نيسان لن تكون كما كانت طيلة السنوات الثلاثة السابقة في كثير من تفاصيلها، وأن تداعيات الهجوم وما تبعه من حرب استنزاف على أكثر من محور، ستعمق حدة الشرخ الاجتماعي والتنازع المناطقي.

***

خليفة حداد ـ باحث في الحضارة

_________

المركز المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة