يحقق أتباع المذهب السلفي المدخلي حضوراً بارزاً على جانبي الانقسام الليبي، الأمر الذي يثير المخاوف حيال الأجندات المتشددة التي يتم فرضها من خلال المؤسسات العسكرية والدينية. ينبغي أن يضمن المفاوضون أن تكون قوات الأمن التي تجري إعادة بنائها حيادية سياسياً وأن يتعهد المداخلة باحترام التعددية.

الجزء الثالث

ب ـ ظهور التيار السلفي المدخلي في ليبيا

عندما ظهر التيار في ليبيا للمرة الأولى في تسعينيات القرن العشرين، تعاملت الأجهزة الأمنية، المتيقظة لأي علامات على وجود محتمل للتطرف، مع السلفية المدخلية بتشكك. أدخلت هذه الأيديولوجيا إلى البلاد من قبل الليبيين الذين كانوا قد درسوا في مؤسسات مرتبطة بالمدخلية في السعودية واليمن، أو الذين كانوا قد تعرفوا على السلفية المدخلية خلال الحج والعمرة في مكة والمدينة.

لقد درس عدد من الشخصيات الرئيسية في التيار المدخلي في ليبيا اليوم ـ بمن فيهم أبرز أئمتها الشيخ أبومصعب مجدى حفالة، الذي يروج له بعض انصاره لشغل منصف المفتي العام في المستقبل (وهو أعلى منصب ديني تعينه الدولة) ـ في مدارس دينية في السعودية واليمن.

بعد إدراكه لمزايا التيار السلفي المدخلي الذي كان ضد المعارضة السياسية، سمح نظام القذافي للمدخلية بالتوسع، وسيطر عدد من أنصار المدخلي على عدد من المساجد الموجودة وافتتحوا مساجد جديدة، كما أداروا مراكز لتحفيظ القرآن للأطفال، ووزعوا الكتب الدينية والخطب المسجلة المستوردة من السعودية.

لاحقا، ومع شروع المدخلي باستخدام القنوات الفضائية والإنترنت لنشر عقيدته خارج السعودية، اكتسب المزيد من الأتباع في ليبيا.

بمرور الوقت، سمح نظام القذافي للسلفية المدخلية بالازدهار أيضا كثقل مواز لنفوذ المجموعات الجهادية التي شكلها المقاتلون الليبيون السابقون في حروب أفغانستان والعراق.

في خطبهم وأدبياتهم، حذّر المداخلة من حركات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين والمجموعات الجهادية المعارضة لنظام القذافي (رغم أن الإخوان والجماعة الإسلامية المقاتلة ـ التهديد الأكثر خطورة على النظام في التسعينيات ـ توصلتا إلى تسوية مع النظام لاحقا). البعض في هذه المجموعات يعتقد أن القذافي وضع المداخلة في أجهزته الأمنية للمساعدة على مراقبة المساجد والأماكن الأخرى لاكتشاف إي علامة على تحديات لنظامه بوحي ديني.

في العشرية الأولى من الألفية بدأ إبن القذافي الساعدي بالانخراط مع التيار المدخلي، والتردد إلى مساجدهم في طرابلس، وطلب المشورة من رجال الدين المداخلة وأطال لحيته وحلق شاربه كما يفعل أعضاء التيار.

أكسب هذا المداخلة لقب جماعة الساعديفي السنوات التي سبقت انتفاضة العام 2011. في ذلك الحين حققت السلفية المدخلية اختراقات في عدد من الأحياء الفقيرة في طرابلس ـ في أبو سليم، والهضبة وسوق الجمعة، وفي بلدات عدد من المداخلة الذين باتوا الآن شخصيات بارزة في الجهاز الأمني في المدينة ـ وفي بنغازي عبر الدعوة والأعمال الخيرية.

كما اكتسب أتباعا في مصراتة، ثالث أكبر مدينة في ليبيا، وفي بلدات أصغر من الزنتان والخمس في الغرب والمرج والأبيار في الشرق.

خلال الأسابيع الأولى من الاحتجاجات التي خرجت ضد النظام في العام 2011، ظهر رجال الدين المداخلة على التلفزيون الحكومي لإدانة المظاهرات. المدخلي نفسه حث الليبيين على عدم المشاركة فيما وصفه بالفتنة ضد حاكم شرعي.

أوحى هذا بلقب آخر، حيث أصبح المداخلة يعرفون بجماعة ألزموا البيوت“. لكن في المراحل اللاحقة من الانتفاضة، انضم بعض أعضاء التيار ـ خصوصا بعد سقوط طرابلس في أيدي قوات الثوار ـ إلى المجموعات المسلحة التي كبرت في النهاية لتصبح لاعبة رئيسية في اللانظام الجديد.

ج ـ بعد القذافي

بحلول العام 2018، كان عدد المداخلة في ليبيا يقدر بعشرات الألاف، ما يجعلهم أكبر تيار سلفي في البلاد. غالبا ما يكون أتباع التيار رجالا في العشرينيات والثلاثينيات من العمر، والكثيرون منهم انجذبوا إلى أيديلوجيا توفر سبيلا إلى تجاوز الأعراف التقليدية تتعلق بالإنتماء العرقي والطبقي.

إلا أن بعض الليبيين يحذرون من المبالغة في تقدير أعدادهم، ويلاحظون أن تصنيف مدخلييستعمل في كثير من الأحيان بشكل غير سليم لوصف مجموعات سلفية تتبع أيديولوجيات مشابهة، لكنهم ليسوا بالتحديد أتباعا لهذا التيار من السلفية.

في الشهور التي سبقت أول انتخابات أجريت في حقبة ما بعد القذافي في تموز\يوليو 2012، أطلق المداخلة حملة ضد الانتخابات، التي اعتبروها غير إسلامية، ولتحذير الليبيين من الإسلاميين السياسيين مثل الإخوان المسلمين والسلفيين من غير المداخلة الذين كانوا يشكلون أحزابا ويقدمون مرشحين. كما أسسوا مجموعات خاصة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكرفي طرابلس ومدن أخرى، تم استيعاب بعض أعضائها لاحقا في ميليشيات، بما فيها تلك التي هيمنت على طرابلس منذ العام 2016.

في الفترة نفسها، بدأ المدخلي استهدافا نشطا للصوفيين، وهم أتباع تيار أكثر زهدا وتقشفا في الإسلام له عدد كبير من الأتباع في ليبيا. وكان المداخلة مسؤولين عن تدمير مقام ومسجد سيدي عبدالسلام الأسمر الفيتوري في زليتن في آب\أغسطس 2012، ويشتبه بأنه كان لهم دور في الهجمات التالية على المساجد والأضرحة الصوفية في طرابلس، وبنغازي وعدة بلدات أخرى.

دعاة إسلاميون دعموا أيضا هدم الأضرحة السلفية، وفي كثير من الأحيان اتهم السكان المحليون خطأ مسلحي القاعدةبتنفيذ هذه الهجمات، ما يشير إلى أن الدور المدخلي الفعلي لم يكن واضحا مباشرة في البداية.

رغم ذلك، أثارت الهجمات أولى الهواجس لدى أجهزة المخابرات الليبية والسكان بشكل عام بشأن استعداد المداخلة لاستخدام القوة سعيا لتحقيق أجندتهم.

طبقا لتقرير استخباري سُرِّب في العام 2017: تزامن الحديث عن الدور العسكري للمداخلة في ليبيا مع تدمير وتفجير الأضرحة في مختلف مناطق البلاد، في وقت مبكر بعد سقوط نظام القذافي. وقد أكد شهود عيان أن هدم الأضرحة بطريقة عسكرية، وكان أولئك الذين قاموا بالهدم برفقة مجموعات عسكرية لتوفير الحماية والأمن.

إلى هذه الدرجة وصلت قوة المداخلة اعتبارا من مطلع العام 2012 فصاعدا، بحيث إنه في صيف العام 2013، أثار علي زيدان، رئيس الوزراء حينذاك، هذه الهواجس مع كبار المسؤولين السعوديين. ويذكر زيدان أن الرياض ساعدة في معالجة القضية، قائلا: “كنا متخوفين لعدة أسباب، بما في ذلك حقيقة أن المداخلة كانوا يتحدثون ضد الديمقراطية. قلت للسعوديين لا نريد أن يستخدم أحد الدين بهذهة الطريقة. أخبرونا بأنهم تحدثوا إلى ربيع المدخلي بشأن هذه الهواجس. وأخذوا المسألة على محمل الجد.”

أصدر المدخلي لاحقا فتوى تسمح لأتباعه في ليبيا بالمشاركة في الانتخابات العامة في شباط\فبراير 2014 لاختيار لجنة من 60 عضوا مهمتها وضع مسودة الدستور لحقبة ما بعد القذافي والتصويت من أجل تحقيق الخبر الأعم“.

أتت الفتوى ـ التي تتعارض مع آراء المدخلي بشأن الانتخابات من حيث أنها أقرت التصويت لانتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور ـ مدفوعة بمخاوف بشأن الدور الذي سيعطي للشريعة في الدستور وكيف سيؤثر ذلك في التشريعات المستقبلية، وهي قضية تظل جوهرية بالنسبة للتيار.

ثمة استقطاب في الأراء في ليبيا بشأن المداخلة، كثيرون يعتقدون أنهم غرباء عن الأعراف والتقاليد الاجتماعية في البلاد، التي تستند إلى تقاليد أقرب إلى التيار العام في الإسلام، ويرون في نفوذهم في المجالات الأمنية، والدينية والاجتماعية في ليبيا تهديدا.

طبقا لعارف النايض، السفير الليبي السابق في الإمارات العربية المتحدة والباحث الصوفي: حاول المداخلة إعاقة حرية المذاهب الأخرى في الإسلام، خصوصا المذهب المالكي. هدموا الأضرحة، وحرقوا الكتب، وحاولوا تقييد تحركات النساء. في هذا المجال، أنا لا أتفق معهم. أطلب منهم أن يكونوا متواضعين بما يكفي للقبول بالآخرين والتعايش معهم. واعتقد أن سياسية استخدامهم عسكريا خطيرة. إن أي مجموعة دينية مسلحة ستشكل خطرا في النهاية.

لكن آخرين، بمن فيهم بعض المسؤولين في الحكومتين الليبيتين المتنافستين، عبروا عن دعمهم للمداخلة، سواء بالقول إنهم يقدرون تعالميهم الدينية أو عبر امتداح المجموعات المسلحة التي يهيمن عليها المداخلة بأنها أكثر انضباطا وأقل فسادا، أو كلا الأمرين معا.

مسؤول في مؤسسة حكومية في طرابلس دافع عن عمل الردع، وهي مجموعة مسلحة فيها مكون مدخلي قوي، في العام 2014، قائلا إنه لولا حمايتهم، لكانت المؤسسات الحكومية قد سقطت ربما في أيدي مقاتلي الدولة الإسلامية.

رجل أعمال من طرابلس عبر عن وجهة نظر مماثلة عندما قال: أنا لا أشاطرهم أيديولوجيتهم لكني لا أرى فيهم مشكلة كبيرة بالمقارنة مع المجموعات الجهادية. في الوقت الراهن، لديهم دور يلعبونه في توفير الأمن وكثيرون يقبلون بهم. لكن سيكون هناك رد فعل إذا استخدموا ذلك بشكل أكثر قوة للدفع بأجندتهم الدينية.

لكن حتى المسؤول في المؤسسة الحكومية المقتبس أعلاه عبر عن مخاوف حيال التحول الذي شهده المداخلة من قوة حماية قبل بضع سنوات إلى لاعب عسكري مهم يحمل أيديولوجيا غير متسامحة وطموحات سياسية غير معروفة.

بعض المسؤولين الذي تربطهم علاقات وثيقة بالمجموعات المدخلية يرفضون تماما وجود مشكلة، بشكل أساسي لأنهم لا يعتبرون المداخلة مجموعة متجانسة ذات أجندة تغييرية معرّفة بوضوح.

على حد تعبير وزير في الحكومة المؤقتة في المنطقة الشرقية: لا يشكل المداخلة مشكلة لنا. أولا، إنهم ليسوا تنظيما له مشروع وأجندة واضحة. بهذا المعنى، فإنهم مختلفون جدا عن الإخوان المسلمين والجهاديين، ولهذا السبب حكمنا بالسجن في عهد القذافي على أعضاء من الإخوان المسلمين والجهاديين لكن ليس على السلفيين. علاوة على ذلك، فإن هؤلاء القادة السلفيين في ليبيا اليوم رجال بسطاء. إنهم لا يمتلكون الثقل الفكري وعمق المعرفة التي تمتلكها المجموعات الأخرى، بالكاد يحمل أي منهم شهادة عليا.

وبشكل مماثل أيضا، فإن عددا من الليبيين العاديين في شرق وغرب ليبيا على حد سواء أشاروا إلى أنهم لا يعتبرون المداخلة مصدرا للمخاوف. رغم ذلك فإن النفوذ المتزايد للمداخلة أمر ملفت.

لقد انظموا تدريجيا إلى قوات الشرطة المحلية وباتوا في نظام السجون في عدة أجزاء من البلاد، بما في ذلك المدينتين الأكثر أهمية، طرابلس وبنغازي. وقد سمح هذا لهم بالتأثير بمؤسسات حكم مهمة والسيطرة على المؤسسة الحكومية التي تدير الأوقاف والمساجد، والتي يمكنهم أن يمارسوا من خلالها نفوذا كبيرا على المدارس الدينية والمجتمعات المحلية.

البقية في الجزء التالي

_____________

مواد ذات علاقة