يحقق أتباع المذهب السلفي المدخلي حضوراً بارزاً على جانبي الانقسام الليبي، الأمر الذي يثير المخاوف حيال الأجندات المتشددة التي يتم فرضها من خلال المؤسسات العسكرية والدينية. ينبغي أن يضمن المفاوضون أن تكون قوات الأمن التي تجري إعادة بنائها حيادية سياسياً وأن يتعهد المداخلة باحترام التعددية.

الجزء الخامس

دور المداخلة في المجموعات المسلحة

ب ـ في الغرب

في حين أن المداخلة أعضاء في عدد من المجموعات المسلحة الأصغر في سائر غرب ليبيا، خصوصا في صبراتة، وصرمان، والزاوية، وكذلك في العديد من وحدات مكافحة الجريمة (وهي في العادة جزء من جهاز الشرطة التابع لوزارة الداخلية) في مختلف البلديات، فإن القوة الأكبر التي يلعب فيها المداخلة دورا واضحا هو قوة الردع الخاصة، المعروفة اختصارا بالردع.

الوحدة التي يقودها عبدالرؤوف كاره، تابعة رسميا لسلطة وزارة الداخلية (رغم أنها تعمل بشكل مستقل عمليا) وهي إحدى أكبر التشكيلات الأمنية في العاصمة. يقع مقر الردع في طرابلس في مطار معيتيقة، لكنها تشغل وحدات أصغر في مناطق أخرى وتطمح إلى افتتاح المزيد من الفروع في سائر أنحاء البلاد.

تقدم الردع نفسها على أنها قوة شرطة بشكل رئيسي وتقوم بعمليات ضد المجرمين، بمن فيهم المتاجرين بالبشر، ومهربي السلاح، وتجار المخدرات والمختطفين. كما أنها تركز بشكل كبير على مكافحة الإرهاب، وتعتقل من يشك بانتمائه إلى تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة في سجنها في مجمع معيتيقة حيث تجري عمليات ترسيخ التعاليم الدينية.

العديد من كبار الشخصيات والجنود العاديين في الردع مداخلة منتظمون، وبعضهم معروف بتشدده وعدد قليل منهم يعرّفون بأنفسهم بالتحديد على أنهم من طلاب حفالة.

لكن الردع تضم أيضا ضباط أمن احترافيين غير أيديولوجيين من حقبة القذافي، انضم العديد منهم إلى القوة منذ العام 2015.

قائد الردع كاره، ليس مدخليا هو نفسه، لكنه محافظ متشدد (فهو على سبيل المثال لا يلتقي بالنساء) ويلتزم باللباس السلفي، يشير رجال الدين إلى أنه يتبع منهجا سلفيا مهادنا آخر وهو مذهب سلفي يتبع الشيخ الألباني الذي سبق ظهور المداخلة.

الضباط الكبار في الردع ينكرون بشدة أن المجموعة أي توجه أيديولوجي. ضابط رفيع المستوى عبّر عن ذلك في أعقاب اشتباكات في طرابلس في سبتمبر 2018 (يضعها بعض خصوم الردع صراحة على أنها محاولة لطرد الميليشيات الأيديولوجية“):

يتهمنا الناس بأننا مداخلة، لكن لا صلة لنا بذلك. كاره مسلم معتدل بسيط. ما المدخلية على أي حال؟ إنه رجل في الخليج يصدر فتاوى. من المبالغة الاعتقاد بأن مثل ذلك الرجل لديه القدرة على حشد القوات في ليبيا. نحن لسنا ميليشيا، نحن قوة تابعة لوزارة الداخلية. نحن جميعا ضباط ذوي رتب عسكرية، بما في ذلك كاره الذي يحمل رتبة رائد“.

لكن ثمة علامات على أن التيار المدخلي داخل يزداد قوة، حيث يشتكي بعض الأعضاء السابقين وغيرهم من المرتبطين بالقوة بأنها باتت مدفوعة أيديولوجيا أكثر مما ينبغي. لقد اتهمت شخصيات بارزة من صوفيي ليبيا أفراد الردع بأنهم يشاركون بالهجمات على المساجد والأضرحة الصوفية في طرابلس.

كما اعتقل ضباط الردع رجال دين ومسؤولين من دار الإفتاء التي تتخذ من طرابلس مقرا لها ومن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية، يعارضون التيار المدخلي. تزامنت ملاحقة الردع لأفراد مرتبطين بمجلس شورى ثوار بنغازي وسرايا الدفاع عن بنغازي في طرابلس مع صدور رسائل المدخلي حول الحاجة لردع المجموعات المرتبطة بالإخوان المسلمين أو بالمفتي العام في طرابلس، الصادق الغرياني.

تصاعدت التوترات بين المداخلة المسلحين في طرابلس وحلقة الغرياني ـ والعديد منهم كانوا قلقين أصلا من سيطرة المداخلة على عدد من مساجد المدينة ـ في أواخر العام 2016 عندما اختفى الشيخ نادر العمراني، وهو عضو بارز في دار الإفتاء التابعة للغرياني والذي كان قد انتقد المداخلة علنا، في أعقاب سلسلة من عمليات الخطب المتبادلة.

أحد أعضاء اللجنة التي شكلت من قبل الحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها للتحقيق في القضية قال: “كان العمراني عالما محترما يحظى بالنفوذ ويشكل تحديا للمداخلة. على عكس كثيرين غيره، لم يكن يخشى انتقادهم علنا، سواء في المسجد أول على التلفاز“.

في الشهر التالي، انتشر فيديو يظهر فيه رجل يدعى بأنه قاتل العمراني (لم يتم العثور على جثة العمراني)، ادعى بأنه جهاز مكافحة الجريمة، وهو إحدى الوحدات الفرعية للردع والمعروف بقوة العناصر المدخلية فيه، كان قد قتله. وقال الرجل : “أردنا قتل الشيخ لأنه يقدم أيديولوجيا مختلفة عن تلك التي يقدمها رجال الدين والعلماء السلفيين، خصوصا تعاليم ربيع المدخلي، وأضاف أنه كان قد تصرف بناء على أوامر من الداخلة المدخلي المصري البارز محمد سعيد رسلان.

الردع ورسلان كلاهما أصدرا بيانات تنكر أي صلة لهما باختفاء العمراني وما ذكر عن مقتله.

على قناته التلفزيونية، أدان الغرياني القتل وأدان المدخلية كمظهر من مظاهر التدخل السعودي في ليبيا، وقال: “نريد من الأيديولوجيا المدخلية السعودية أن ترفع أيديها عن الأزمة الليبية. نعرف أن المداخلة هنا في ليبيا هم الذين قتلوا العمراني، لأنه معتدل في الإسلام وهم متطرفون.

الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الدينية ومقرها طرابلس حظرت لاحقا أحد عشر إماما مدخليا من إلقاء الخطب في مساجد المدينة وحظرت الأدبيات الدينية المرتبطة بالمدخلي ورسلان.

لقد غذت التصورات بأن التيار المدخلي يزداد قوة داخل الردع وفي طرابلس بشكل عام صدامات بين الردع ومجموعات مسلحة أخرى، خصوصا مجموعات حي تاجوراء القريب من قاعدة معيتيقة التي تتخذ منها الردع مركزا لها. عيسى منصور، عضو مجموعة مسلحة من تاجوراء تعرف بالكتيبة 33 التي هاجمت مقر الردع في يناير 2018، قال: “ليسوا مختلفين عن تنظيم الدولة الإسلامية، إنهم يستلهمون أيديولوجيا خارجية وهذا غير مقبول بالنسبة لنا، إنهم يستهدفون الصوفيين والإباضيين. وهم ضد الانتخابات، في حين أننا نريد دولة مدنية ديمقراطية. إذا ظلت إمارة الردع هذه موجودة بعد عام من الآن، سترون حربا ضدها.

مسؤولو الردع يقولون إن خصومهم، الذين شنوا هجمات على قاعدتهم في معيتيقة، مهتمون فقط بإطلاق سراح المحتجزين في سجونهم، وأدعوا أو مشكلتهم مع الإرهابيين الذين نحتجزهم. لدينا نحو 500 عضو في تنظيم الدولة الاسلامية. نعتبر هؤلاء إرهابيين، بينما يعتبرونهم ثوارا.

عندما اندلعت المواجهات المسلحة في طرابلس في أواخر أغسطس 2018، وجرت إليها الردع وقوات أخرى متحالفة مع حكومة الوفاق الوطني، ظهرت تقارير عن تنسيق بين العناصر المدخلية في الردع ورفاقهم من المداخلة في المدن الغربية، فما في ذلك صرمان وصبراتة.

بعض الإدعاءات التي بنيت عليها هذه التقارير تبدو مبالغا فيها، وتشير إلى نزعة بين أولئك الذين ينافسون الردع على السلطة لإبراز مكوناتها المدخلية كفزاعة عندما يناسبهم ذلك.

بعض أنصار المجموعات المسلحة التي حاربت الردع وحلفاءها في أغسطس 2018 صوروا هجومهم على أنه يستهدف جزئيا مقاومة النفوذ المدخلي في المدينة وفي غرب ليبيا بشكل عام، وأشاروا إلى أنهم يرون أن هذه المقاربة المعادية للمدخلية تحظى بدعم واسع. لكن بدا أن الاشتباكات أدت إلى حشد بعض العناصر المدخلية في طرابلس.

نشر مسلحون مقنعون فيديو على وسائط التواصل الاجتماعي أعلنوا أنفسهم قوة حماية طرابلسوأعلنوا إطلاق عملية بدرضد من وصفوهم بـ المجرمين المرتدين والخوارجـ وهي لغة شبيهة بتلك التي يستخدمها المداخلة الذين يقاتلون مع حفتر في شرق ليبيا.

الفصائل المعادية للمداخلة في غرب ليبيا تتهم حكومة الوفاق الوطني التي تتخذ من طرابلس مقرا لها ومجلسها الرئاسي، اللذان يرأسهما فائر السراج، بدعم وتمكين قوات الأمن المتحالفة مع المداخلة منذ تأسيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في مطلع العام 2016.

إزداد ذلك الدعم وأصبح أكثر صراحة في مايو 2018، عندما وافق المجلس الرئاسي على القرار رقم 555، الذي أعاد تسمية الردع بـ جهاز الردع لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهابومنحها تفويضا في سائر أنحاء البلاد.

منح هذا القرار للردع صلاحيات واسعة، بما في ذلك الاعتقال والاحتجاز والمراقبة. بعد أن أثارت جهات ليبية ودولية، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان، مخاوف . أرسل السراج القرار لوزارة الداخلية لمراجعته، لكن يبدو أنه نفذ بصيغته الأصلية.

سياسي من مصراتة عبّر عن مخاوف واسعة الانتشار بأن الصلاحيات غير الرسمية للميليشيات المدخلية تقوض المؤسسات، وقال: يتمتع السراج و (محافظ مصرف ليبيا المركزي) الصادق الكبير بحماية كاره، لكن هذا خطير على المدى البعيد لأن (كاره) ضد الدولة والأمة.

الترتيب الذي عقدته الحكومة مع كاره يقوض النظام القضائي ويتلاعب بالنظام السياسي. كاره يعتبر أن السراج يعمل لصالحهم وبموجب أوامرهم. هذا خاطئ وخطير. الردع سرطان يتغذي على فشل الدولة.

كما تنامت الهواجس من النفوذ المدخلي المتزايد داخل أجهزة الدولة وأيضا داخل مؤسسات تستخدم قوات الردع لأمنها. مسؤول رفيع في إحدى تلك المؤسسات قال: في البداية رأينا فيهم الكثير من الخير، بدوا منضبطين، وقوة أمن فعالة قادرة على تنفيذ ما يطلب منها. لكننا قلقون على نحو متزايد، لقد بتنا نشك بالعناصر الأيدولوجيا المتشددة داخل الردع ودرجة تغلغلهم داخل النظام. إنهم خطيرون بذلك المعنى. لكن السؤال يبقى: ما هي البدائل؟ إذا لم نتعامل معهم، ماذا يحدث؟

يتبع

______________________

مواد ذات علاقة