بقلم محمد أحمد القابسي

تتابع تونس، الحديقة الخلفية لليبيا، تطورات الوضع في العاصمة طرابلس باهتمام بالغ، اعتبارا لانعكاسات ذلك مباشرة على استقرارها ونسق الحياة فيها.

والمؤسف أن كل المؤشرات تدل على أنه ليس من الهيّن التكهن بالفترة التي ستستغرقها هناك المعارك التي أشعل شرارتها الأولى الضابط المتقاعد خليفة حفتر مساء الرابع من إبريل/ نيسان الماضي، متكهنا بأن غزوته العاصمة الليبية لن يتجاوز زمنها يومين.

من هذه المؤشرات الدالة على أن حفتر ما زال يمارس هروبه إلى الأمام حديثه أخيرا (26 /05 /2019) لصحيفة لوجورنال دوديمانش الفرنسية، واستبعد فيه وقف إطلاق النار في القتال السائر للسيطرة على العاصمة طرابلس، وكان حفتر أكّد، عقب لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن شروط وقف إطلاق النار لم تكتمل بعد، يضاف إلى ذلك اتهامه مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة، بأنه تحول إلى وسيط منحازفي النزاع الليبي.

وجاء ذلك في ظل تصعيد ميداني للعمليات العسكرية، حيث أكد شهود عيان قادمون من طرابلس إلى تونس أن قتالا ضاريا اندلع في العاصمة الليبية خلال الساعات الأخيرة، مع بدء قوات حفتر محاولة جديدة للتقدّم إلى داخل المدينة.

وتجعل هذه الأوضاع وغيرها التكهن بالفترة التي ستستغرقها الحرب بين الطرفين صعبا، كما يصعب رسم صورة محدّدة للنهايات التي ستؤول إليها. وبالتالي، يبدو استئناف التفاوض بين حكومة الوفاق في طرابلس وحكومة برقة في ظل هذه المعطيات أمرا بعيد التحقق.

وفي انتظار ذلك، وما سينجلي عنه غبار الصراع الدائر، يعتقد متابعون وديبلوماسيون في العاصمة التونسية أن من الضروري، بالنسبة إلى تونس، أن تباشر وبجدّ تحليل مجريات الأوضاع المعقدة في جارتها الشرقية، وتطوراتها المحتملة والمرجّحة، من خلال خلية أزمة دائمة.

هذه الخلية ينبغي أن تعمل على تحديد الموقف التونسي ديبلوماسيا وعلى صعيد الواقع مما يحدث في ليبيا تحديدا لما يمكن تسميتها مسوغات غزوة طرابلس، ثم ثانيا التركيز على مزيد التمعن في ميزان القوى بين الأطراف الداخلية المتصارعة وداعمي كل طرف منها، إقليميا ودوليا، خصوصا أن جهات عديدة نعتت أخيرا الدبلوماسية التونسية إزاء الوضع في ليبيا بالبرود واللاجدوى“.

فقد تمّ رصد مواقف صدرت عن سياسيين وزعماء أحزاب وخبراءتلتقى في وصف الموقف التونسي من الملف الليبي بأنّه ضبابي ومتردّد، لم يتجاوز الدعوة إلى ضرورة الخروج من هذه الأزمة في أسرع الأوقات، وتجنيب البلاد مزيدا من الخسائر والمعاناة من خلال الإنهاء الفوري للاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، والتزام جميع الأطراف بالتهدئة وضبط النفس وتغليب المصلحة العليا للوطن“.

ذلك بعض ما جاء في بيان الرئاسة التونسية الذي كشفته الصفحة الرسمية للرئاسة، عقب استقبال رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، رئيس حكومة الوفاق، فائز السرّاج، حيث يضيف بيان الرئاسة أنه ليس لدى تونس أي أجندة في ليبيا سوى عودة الوئام والأمن والاستقرار إلى ربوعها.
ويقول العاتبون على الديبلوماسية التونسية تجاه الوضع في ليبيا إن قراءة تونس الوضع الليبي منذ 2015 لم تتجاوز كلمات مفتاحية، تتمثل في إنهاء الاقتتالوالحواروالعملية السياسيةووحدة ليبياورعاية الأمم المتحدةوالابتعاد عن التدخلات الخارجية“.

الواقع أن هذه القراءة للموقف التونسي إزاء الوضع في ليبيا قد حجبت الجهود الديبلوماسية المضنية والمتواترة التي قامت بها تونس في الداخل وفي الخارج، ما جعل تونس، خلال الأسابيع الأخيرة ومنذ هجوم حفتر على طرابلس، غرفة عمليات ديبلوماسية دائمة لمختلف الأطراف الليبية، تجاوزا لاتهام حفتر علنا تونس مثل الجزائر لا تحب ليبيا والليبيين، ولكنها تطمع في ثرواتها، وهي اتهامات ما فتئ يطلقها حفتر كيفما اتفق.
وتجاوزا لذلك كله، وبالعودة إلى مسوغات الوضع في طرابلس، وفي غيرها من مناطق الشرق والجنوب، تؤكّد المعطيات أن الشعب الليبي الذي ما فتئ يعاني، منذ ثماني سنوات، لم يعد قادرا على تحمل مزيد من العذابات، وبات يطلب حسم الأمور بأي وسيلة، بعد أن تعذّر حسمها سياسيا، وأن هجوم حفتر على طرابلس لن يزيد الوضع إلا تأزما، قد يفضي، مع مرور الأيام، إلى تكريس حالة الانقسام بين بنغازي وطرابلس.

وقد يؤدي، تبعا لتقارير استراتيجية دولية، إلى اندلاع حرب أهلية في بلاد ينتشر فيها حسب منظمة الأمم المتحدة ما يقرب من 29 مليون قطعة سلاح، ويرتع في أراضيها الشاسعة، حسب تقدير رئيس الوزراء الليبي الأسبق، محمود جبريل، أكثر من 1600 مليشيا مسلحة، تمارس الاحتراب وتنهب الثروات بلا حسيب ولا رقيب، ما جعل حفتر، بدعم من مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا، يسيطر على شرق ليبيا وجنوبها (!!)، ويشد الرحال محاولا غزو العاصمة طرابلس، لضمّ الغرب إلى الشرق.

وقد بات مكشوفا دعم هذه الدول الخمس حفتر، من خلال تزويده بمعدات ثقيلة، مثل طائرات هيلوكوبتر وغيرها. وكانت تقارير إعلامية واستخباراتية دولية قد كشفت عن مشاركة جنود فرنسيين وطائرات فرنسية مقاتلة إلى جانب قوات حفتر في عدة معارك، منها معركتا درنة والجنوب، حيث مارس الضابط المتمرد جرائم حرب.

وجاءت حادثة المجموعتين اللتين تم إجبار أفرادهما على تسليم أسلحتهم لدى اجتيازهم الحدود التونسية لتكشف أيضا أن مجموعة من المستشارين الفرنسيين توجد في مدينة غريان التي تبعد عن طرابلس 75 كلم، حيث تستعين بطائرات درونزمن صنع صيني، يرجح أن أبو ظبي زودته بها، لتقييم الأوضاع الميدانية، وتقديم المشورة لقوات حفتر لحملتها على طرابلس.

وإلى هذا الأمر، قالت مصادر ديبلوماسية إن فرنسا عرقلت إصدار بيان للاتحاد الأوروبي، يدعو حفتر إلى وقف الهجوم على طرابلس، حيث كانت مسودة البيان تنص على أن هذا الهجوم يعرّض السكان المدنيين للخطر، ويعرقل العملية السياسية، ويهدد بمزيد من التصعيد الذي ستكون له عواقب وخيمة على ليبيا والمنطقة، بما في ذلك التهديد الإرهابي“.

ويبقى المستجد الأهم هو موقف الرئيس الأميركي، ترامب، إذ أجرى في 15 إبريل/ نيسان الماضي مكالمة هاتفية مع حفتر، أكد له فيها إنه يقدر جهوده في مقاومة الإرهاب، وفي تأمين المنشآت النفطية، ما اعتبره متابعون ضوءا أخضر لمواصلة حملته على طرابلس.

وفي رصد مآلات تطور الوضع الراهن في طرابلس، والنتائج التي يمكن أن يصل إليها، في ظل مجمل المعطيات المتقدمة وغيرها، يعتقد متابعون وديبلوماسيون وخبراء العاصمة التونسية أن معركة طرابلس يمكن أن تتطور وفقا لاحتمالات ثلاث:

ـ صعوبة أن تنجح قوات حفتر في السيطرة على طرابلس، على الرغم من الدعم الإقليمي السياسي والعسكري الذي أصبح الرجل يحظى به. وبالتالي مزيد من تدهور الأوضاع الإنسانية.

ـ إمكانية التوافق بين الأطراف المتصارعة تحت الضغط الدولي، وإيقاف القتال مع جمود كل طرف في المواقع التي يحتلها ليفتح باب التفاوض بين حفتر والسرّاج.

ـ تمكّن القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني من صد قوات حفتر، مستفيدة من طول المعركة وفداحة الخسائر البشرية والمادية، وتحول وارد جدا في الموقف الدولي.
وفي ضوء هذه الاحتمالات وغيرها، يبقى الموقف التونسي بحاجة أكيدة إلى مزيد من المراجعة والتعديل، والالتزام بثوابت الدبلوماسية التونسية العريقة، وعنوانها الأكبر الدعوة إلى الحل السياسي، ورفض كل التدخلات العسكرية.. ديبلوماسية اللاعسكر التي أسسها بورقيبة، وأصبحت علامة مميزة للدولة التونسية.

***

محمد أحمد القابسي ـ كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

__________

مواد ذات علاقة