يصف أساتذة العلوم السياسية «العصيان المدني» بأنه سلاح المستضعفين في الأرض لمواجهة كل طغيان.

وذلك السلاح قد يؤدي إلى الوصول إلى ثورة سلمية عبر مخاطبة حس العدالة لدى غالبية المجتمع من أجل تعمّد مخالفة القوانين وأوامر القوة الحاكمة دون اللجوء للعنف، وقد جابهت تلك الوسيلة أعتى أنظمة الاحتلال، وأشد الأنظمة الشمولية في العالم، وبالرغم أنها فشلت في السودان طيلة ثلاثة عقود، إلا أنها نجحت أخيرًا – بشكل جزئي على الأقل – ضمن تصعيد المعارضة ضد الجيش.

بعد نحو 45 يومًا من سقوط عمر البشير، بدأت «قوى الحرية والتغيير» تصعيدها الأكبر ضد المجلس العسكري بالدعوة للإضراب العام لمدة يومين، والذي مثّل اختبارًا علنيًّا لقياس الثقل السياسي للطرفين؛ والذي توّج في النهاية بمحاولات الجيش فض اعتصام القيادة العامة بالقوة.

هذا التقرير يعود بك إلى دول العالم الثالث التي تتشابه مع السودان، والتي سبقتها بالتجربة الناجحة.

مصر.. كيف قاد العصيان المدني آخر الثورات الناجحة؟

في عام 1919، شهدت مصر أول ثورة قومية في تاريخها المعاصر ضد الاحتلال البريطاني (1882- 1936) الذي أنهى تبعيتها للدولة العثمانية، ثم سخّر قواها لصالحه في الحرب العالمية الأولى من خلال فرض الأحكام العرفية، والتجنيد القسري للمصريين للعمل في الصفوف الخلفية، وبعدما هُزم العثمانيون في الحرب، برز تيار مصري يدعو بأنه لم يعد ملتزمًا بقبول السادة العثمانية، وتطلع للاستقلال التام عن دولة الخلافة، والاحتلال البريطاني على السواء.

اشتعلت الثورة المصرية عبر إلقاء بريطانيا القبض على الوفد المصري الذي سافر إلى باريس لعرض قضية استقلال البلاد، لتشتعل الثورة للمطالبة بالإفراج عن سعد زغلول – زعيم حزب الوفد المعارض – ورفاقه، لتندلع أعمال العنف التي انتهت بانقطاع الصلة بين القاهرة ومدن الأقاليم بعدما استولى الثوار في بعض المدن على السُلطة.

أدركت المعارضة بعد المواجهة، أنّ العصيان المدني هو السبيل الوحيد لإنجاح ثورتهم، فبدأ الإضراب العام بعد ثلاثة أيامٍ من المواجهات، واشتمل على إضراب عمال الترام والسكك الحديدية، وسائقى التاكسى وعمال البريد والكهرباء والجمارك، وعمال المطابع وعمال الفنارات والورش الحكومية.

انتهى الإضراب بنجاح الثورة المصرية، وإجبار بريطانيا على الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه وإلغاء الأحكام العرفية، وتوقيع معاهدة 1936 التي نصت على الاستقلال.

اليمن.. حين هزمت الشوارع الفارغة ديكتاتورًا داهية

في اليوم الذي انتصرت فيه ثورة الغضب المصرية في 11 فبراير (شباط الثاني) عام 2011، اندلعت ثورة الشباب في اليمن في نفس اليوم، وبالرغم من أن اليمنيين من أكثر شعوب العالم حملًا للسلاح، إلا أن أهلها حافظوا على سلمية التظاهرات منذ البداية، وهو ما شكّل خطرًا كبيرًا على بقاء الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح.

كانت خُطة صالح الناجحة تتمثَّل في طرح مبادراتٍ سياسية ترفضها المعارضة ليظهر وكأنّ ما يحدث في اليمن هو أزمة سياسية وليست ثورة شعبية، وكان أشهرها مبادرة الانتقال من النظام الرئاسي إلى نظامٍ برلماني، والاستفتاء على دستور جديد للبلاد؛ تزامنًا مع الصمت الخليجي الذي غضّ الطرف عن الجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن التي أطقت الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين.

أعلن الثوار خطط تصعيدية بهدف إسقاط النظام تبدأ المرحلة الأولى منها بالعصيان المدني الشامل، وبدأ الإضراب يتسلل لكافة أرجاء البلاد بداية من مدن الحراك الجنوبي من عدن، حيث توقفت حركة المواصلات، وأغلقت المحال التجارية، وأصيبت البلاد بالشلل التام، وفي الوقت الذي قطع فيه المتظاهرون الطرق الرئيسة والفرعية بين المديريات، كان قادة المعارضة يدعون المواطنين للالتزام بعدم تسديد فواتير الكهرباء والمياه والتخلف عن دفع الضرائب.

وبالرغم أنّ النظام تجاهل بوادر سقوطه، إلا أنّ انفصال لواءٌ كامل من الجيش وتبعه قبيله الأحمر أكبر القبائل اليمنية، اضطر السعودية والإمارات بعد تسعة أشهرٍ من الأزمة للتدخل لإنقاذ حليفهما عبر «المبادرة الخليجية» التي حصل علي عبد الله صالح بموجبها على حصانة من المحاكمة مقابل التنازل وتسليم السُلطة إلى الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي.

جنوب أفريقيا.. سياسة الحراك السلمي في وجه السلاح

في عام 1948، وصل «الحزب الوطني» للسًلطة في جنوب أفريقيا الذي سُرعان ما أقرّ سياسة الفصل العنصري بين البيض وذوي البشرة السوداء، لتصبح جنوب أفريقيا هي الدولة الأولى في العالم التي حافظت على سياسة الفصل بين الأعراق ومنع الزواج للأصول المختلفة.

برز «حزب المؤتمر» المعارض على الساحة، وكان نيلسون مانديلا صاحب الصوت الأعلى داخل الحزب الذي شكّل حركة «مناهضي الفصل العنصري»، لتبدأ سياسة الكفاح السلمي التي امتدت حتى عام 1959، وفيما حُوكم مانديلا ورفاقه بتهمة الخيانة، والتآمر لقلب نظام الحكم، كانت ثورة الحراك السلمية تمتد إلي ربوع البلاد وشملت مقاطعة الحافلات، ووسائل المواصلات العامة، والوصول إلى مقرات العمل وإعلان العصيان بداخلها احتجاجًا على انخفاض أجورهم.

واجهت الحكومة الإضراب بإصدار قانون السلامة العامة عام 1953 الذي أقر الحبس لمدة خمس سنوات كعقوبة على الاشتراك في العصيان، بينما حُوكم نيلسون مانديلا قائد الحراك بالسجن مدى الحياة، ليخرج بعد نحو 27 عامًا وسط حربٍ أهلية متصاعدة عام 1990.

انتخب مانديلا عقب خروجه رئيسا لـ«حزب المؤتمر الوطني الأفريقي»، وقاد المفاوضات مع  الرئيس دي كليرك – آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا – لإلغاء الفصل العنصري وإقامة انتخابات متعددة الأعراق، وفي عام 1994، انتخب مانديلا رئيسًا وشكل حكومة وحدة وطنية مختلطة، وأسس دستورًا جديدًا للبلاد مُنهيًا آخر عهود الاستعباد في أفريقيا.

جورجيا.. الديكتاتور الذي أسقطته وردة

في عام 2003، لم يتوقع الرئيس الجورجي «إدوارد شيفردنادزه» المدعوم من روسيا أن تُطيح به ثورة بيضاء، إذ أُجبر على الاستقالة عقب اقتحام المحتجين جلسة البرلمان حاملين في أيديهم زهورا دون إراقة قطرة دم واحدة.

اندلعت الثورة الجورجية في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2003، بعد يومٍ واحد من تنظيم الانتخابات البرلمانية التي قوبلت بتنديد أممي عقب اتهامات التزوير لصالح الحزب الحاكم، وعلى مدار 20 يومًا خرجت التظاهرات الحاشدة التي نظمتها المعارضة التي انتهجت الحراك السلمي، والانخراط في العصيان المدني الشامل لإجبار الرئيس على تقديم استقالته، إلغاء نتائج الانتخابات.

أعلن الرئيس فرض حالة الطوارئ، ودعا الجيش للنزول للشوارع لمقاومة الاحتجاجات، لكنّ رفض العسكر الانخراط في السياسة كتب الفصل الأخير في القصة بنجاح الثورة البرتقالية عقب الإضراب الذي شمل جميع المدن والبلدات الرئيسية في جورجيا شاملًا نحو 5 مليون متظاهر.

فيتنام.. 491 ألف مضرب عن العمل

تعد حرب فيتنام (1955- 1975) هي الهزيمة الأكثر دويًا لسمعة العسكرية الأمريكية خاصة أنها استنزفت قواها المالية حتى الاحتياطي الأمريكي من الذهب، على جانبٍ آخر قاد الفيتناميون سلسلة من سلسلة من الكفاح التحرري ضد الاحتلال ومحاولات التقسيم عبر سياسة الإضراب الناجحة.

قادت «جبهة التحرير القومية الفيتنامية» عدة نقابات للقيام بإضراب شمل 491 ألف مضرب عن العمل عام 1964، وهو ما وّحد الطبقة العاملة في وجه الاحتلال الأمريكي، حيث توقفت الصناعات والمزارع وحتى الموانئ عن العمل، وهو ما مثّل فاتورة إضافية لإثقال الحالة الاقتصادية للولايات المتحدة.

وبينما كانت فيتنام منقسمة بين فيتنام الشمالية المتحالفة مع «جبهة التحرير الوطنية»، ضد جمهورية فيتنام الجنوبية المتحالفة مع واشنطن، سعت «جبهة التحرير الوطنية» إلى عدم الدفع بالفيتناميين للدخول في حربٍ مباشرة بينهم، لذا وصلت دعوات العصيان داخل الجيش الجنوبي، وبدأت حملات هروب الجنود من الجيش.

استمرت سياسة العصيان المدني تزامنًا مع تراجع معنويات الجنود الأمريكيين عقب الهزائم التي شكّلت رأي عامٍ مضاد داخل الويات المتحدة، وبنهاية الحرب خسرت الولايات المتحدة إلى جانب احتياطها من الذهب نحو 58 ألف جندي، بينما أصيب أكثر من 150 ألفا، لتكون آثار الإضراب متساوية إلى حدٍ كبير مع خسائر الحرب.

__________

مواد ذات علاقة