بقلم أحمد زيدان

الخصم الوحيد الذي برز للربيع العربي الممتد من الماء إلى الماء كانت مؤسسة العسكر، في حين اختفت كل مؤسسات الدولة الأخرى.

وعلى امتداد دول الربيع العربي تلاشت كل مؤسسات الدولة الأخرى التي ثبت أنها لم تكن إلاّ صوراً كرتونية شكلية لخدمة المؤسسة الحقيقية الراسخة وهي مؤسسة العسكر المدعومة من المؤسسة الأمنية، والتي بحق وحقيقة الدولة الأعمق، وفوق هذا المدعومة بعلاقات دولية،

تجلى ذلك بوقوف الدول الغربية بشكل منقطع النظير إلى جانب الاستبداد العربي العسكري، لتنقلب بذلك على كل شعاراتها وقيمها التي رفعتها على امتداد الحقب الماضية، وصدّعت بها رؤوسنا من شعارات حقوق الانسان والديمقراطية والحكم الرشيد وغير ذلك من الأكاذيب التي انهارت بأول لحظة من لحظات الربيع العربي..

كانت مؤسسة العسكر منذ اليوم الأول للاستقلال الشكلي للدول العربية عن الاحتلالات الأجنبية هي المؤسسة الوحيدة التي ورثت الاحتلال، فكثير من بُنى هذه المؤسسة العسكرية إنما وقف إلى جانب الاحتلال فورّث الأخير أصحابها الحكم.

ومن هنا ندرك لماذا تعثرت مفاوضات الثوار في سوريا لعشر سنوات متتالية من عام 1936 وحتى عام 1946 والذي ثبت أنه كان لإصرار فرنسا على أن تكون قوات جيش المشرق الموالية لها هي نواة الجيش العربي السوري، وهو ما نلمسه اليوم من إصرار الاحتلالات الروسية والإيرانية وغيرهما من الدول على إبقاء مؤسسة العسكر والأمن، بينما يحرصون على تدمير مؤسسات الصحة والتعليم والبرلمان.

ولذا نرى معه إصرار الغرب والشرق على دعم المؤسسات العسكرية في مصر والسودان وليبيا وغيرها لسحق الربيع العربي وأشواق الشعوب..

استأثرت مؤسسة العسكر ومعها المؤسسة الاستخباراتية التي كان جُل هدفها التجسس على الشعوب وحريتها، بكل مصادر الدعم والتمويل ولذا لا عجب أن نقرأ بصحيفة أجنبية أن ميزانية المخابرات السورية في التسعينيات تعدّت المليار دولار وأن من بين كل عشرة أشخاص سوريين ثمة شخص يتجسس عليهم، وعلى هذا قس الوضع في العالم العربي الآخر،

وواصلت على امتداد العقود الماضية المؤسسة العسكري نهب ثروات الشعوب من أجل تقوية ذاتها وعلاقاتها مع الخارج، بينما بالمقابل ضمرت المؤسسات الأخرى، والتي تتحمل بالمقابل مسؤولية كبيرة في إضعاف نفسها مالياً وشعبياً،

ونرى ذلك بتمظهر واحد مثلاً، وهو أنه قلما نرى ضابطاً كبيراً قام بلجوء سياسي بعد تقاعده، وإنما أصرّ على البقاء في البلد، وهي إشارات مهمة للداخل والخارج،

في حين نرى السياسي يخرج من البلد عند أول انتهاء مهمته السياسية، فيعطي إشارات مغلوطة على رأسها أنه لن يقاوم من أجل البلد وناخبيه، فضلاً أنه يعطي إشارات للخارج أن غيره هو من يستأثر بالحكم، وهو ما برز بشكل واضح خلال فترة الربيع العربي..

المؤسسة العسكرية سحقت الربيع العربي يوم تخلى أصحاب المؤسسات الأخرى عن مسؤولياتهم، ويوم صمت الكل على الورم الذي أصاب البلاد، وهو ورم يعود إلى عقود مديدة وبالتالي فاستئصاله سيأخذ وقتاً طويلاً، وسيأخذ معه ضحايا كثر على اتساع الزمن والمكان الذي سُمح له بالتمدد والانتشار..

اليوم السودان وربما غداً الجزائر ومن قبلهما مصر وليبيا وسوريا تكرر المأساة نفسها، وتنتجها، وهي أن المؤسسة العسكرية امتدادها في الخارج فقط، أما جذورها فمنبتة شعبياً، وما هي عليه في الداخل إنما هو امتداد أفقي عمودي يعود إلى تجذرها التاريخي بالقمع والاستبداد والافتئات على المؤسسات الشعبية الأخرى.

وبالتالي فإن الشعب السوداني والجزائري الذي أدرك تجربة العسكر مع ثورات من قبله توقف عن شعارات ثبت كذبها وهي أن الشعب والجيش يد واحدة، وبدأ بالتعامل بشكل مختلف مع العسكر.

وأخيراً فلا شك فإنه واقع مرير، والخروج منه بحاجة إلى بذل وإصرار، فكلفة التراجع أخطر من الاستمرار، وكما قيل فضريبة العز أقل كلفة من ضريبة الذل..

***

أحمد زيدان ـ صانع أفلام و صحافي في شبكة الجزيرة

__________

الجزيرة

مواد ذات علاقة