ثمة أزمة مصرفية لا يجري الحديث عنها بالشكل الكافي تهدد بمفاقمة القتال المهلك الذي تدور رحاه في طرابلس، وإشعال حرب طويلة الأمد للسيطرة على الموارد وتعميق الانقسام بين شرق البلاد وغربها.

إن إيجاد مخرج من هذه الأزمة يتطلب الاتفاق على وقف لإطلاق النار في طرابلس ووضع حد للانقسام المستمر منذ أربع سنوات بين الفرعين المتنافسين للمصرف المركزي.

الجزء السادس

هجوم قوات حفتر على العاصمة

قبل هجوم قوات حفتر على طرابلس، تم تعويم مقاربتين إشكاليتين لتسوية الأزمة المصرفية:

المقاربة الأولى ـ وهي مقاربة مدعومة بقوة من الحكومة في الشرق، تتمثل في إقناع المصرف المركزي بالاعتراف بالمبالغ الائتمانية التي راكمتها المصارف التجارية في فرع المصرف الشرقي. وهذا يعني أن يكون على المصرف المركزي امتصاص كل أو جزء من ديون الحكومة الشرقية (نحو 35 مليار دولار) وربما إعادة وصل الفرع الشرقي للمصرف بنظام تسوية مدفوعاته الأوتوماتيكي.

سيواجه مثل هذا المقترح مقاومة عنيفة في طرابلس.

محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، قال علنا: “مستحيل! لن يتمكن أي قدر من الصراخ من تحقيق ذلك، بالإشارة إلى الاعتراف بديون الحكومة الشرقية وإعادة وصل فرع بنغازي بنظام التقاصّ في المصرف المركزي. الكبير يرفض فعل ذلك لأنه لا يثق بمصادر الأموال في الشرق ولا في دقة الإبلاغ عنها، بالنظر إلى غياب إشراف المصرف المركزي على النظام المحاسبي اليدوي. وشن الهجوم على طرابلس يمكن فقط إن يحدث مزيدا من التصلب في موقفه.

المقاربة البديلة ـ متطرفة، وطرحت بشكل غامض وحسب، وتتمثل في جعل المصارف تواجه تبعات أفعالها“: دعها تفشل. يبقى هذا تكهنا حتى الآن لكن يمكن أن يتحول بسرعة إلى سياسة بحكم الأمر الواقع إذا استمر المصرف المركزي في عدم اتخاذ إي إجراء وإذا استمر الهجوم العسكري الذي يشنه جيش حفتر، المدعوم صراحة من قبل فرع بنغازي للمصرف المركزي.

لكن جميع الأطراف المعنية تعي أن من شأن هذا أن يثير اضطرابات اجتماعية خطيرة ويتسبب في أزمة اقتصادية عميقة ذات تداعيات سياسية وحتى عسكرية بالنسبة للجميع، بما في ذلك في غرب ليبيا. قبل الهجوم، اقترحت الحكومة الشرقية حلا ثالثا وسطا يتمثل في تغيير طريقة التعامل محاسبيا مع عمليات العملة الأجنبية.

فبدلا من السحب من احتياطيات المصارف التجارية لدى المصرف المركزي مقابل كل الكلفة بسعر صرف 3.90 دينار للدولار، يتقترحون تقسيم هذا إلى جزأين منفصلين: جزء مساو لسعر الصرف الرسمي وهو 1.4 دينار مقابل الدولار، يسحب من احتياطيات المصارف التجارية لدى المصرف المركزي، والجزء الثاني، مع إضافة الرسم، ويسحب من الاعتمادات التي راكمتها هذه المصارف في الفرع الشرقي للمصرف المركزي.

ويجادلون بأنه عندما فرضت سلطات طرابلس الرسم الإضافي، كانت تعتزم استخدام العائدات المتولدة منه لتغطية الدين الحكومي البالغ 63 مليار دينار لدى المصرف المركزي.

الآن يقولون إنه ينبغي على حكومة الوفاق الوطني استخدام هذه الأموال لتغطية الدّين الشرقي أيضا من أجل إبطاء معدل نضوب احتياطيات المصارف التجارية لدى المصرف المركزي، وفي الوقت نفسه استخدام الاحتياطيات التي راكمتها هذه المصارف لدى الفرع الشرقي للمصرف المركزي.

حتى الآن، تجاهلت السلطات في طرابلس مثل هذه المقترحات. ففي 20 مارس 2019 (قبل الهجوم)، قررت حكومة طرابلس استخدام 15 مليار دينار (11 مليار دولار) تولدت من رسوم العملية الأجنبية لتغطية ثلث موازنتها لعام 2019.

وفي الوقت نفسه أمرت أيضا باستخدام خمسة مليارات دولار أخرى (3.5 مليار دولار) تولدت من رسوم العملة الأجنبية لسداد جزء من دينها المتراكم لدى المصرف المركزي، وأيضا خمسة مليارات دينار أخرى (3.5 مليار دولار) لتمويل المشاريع التنموية المستقبلية التي سيشرف عليها المجلس الرئاسي. لم يرد أي ذكر لمخصصات تسديد دَين المنطقة الشرقية.

منذ بداية الهجوم العسكري في مطلع أبريل، خصص المصرف المركزي مبلغا هائلا هو ملياري دينار (1.4 مليار دولار) ، لدعم المجهود الحربي للقوات حكومة الوفاق في طرابلس.

رغم إبلاغه بمخاطر وتداعيات المشاكل التي تؤثر في المصارف التجارية، حتى قبل هجوم حفتر على طرابلس، فلا محافظ المصرف المركزي ولا مستشاريه قدموا مقترحا ملموسا حول كيفية منع حدوث أزمة مصرفية شاملة. أما اللاعبين الدوليين الذين يتابعون المشاكل الاقتصادية لليبيا فإنهم إما تناسوا هذه المشكلة بالتحديد أو لم يكونوا قادرين على إقناع المصرف المركزي ووزارة المالية في طرابلس بمعاجتها.

إلا أنه ودون اتخاذ خطوات فورية لتصحيح الوضع، فإن المصارف التجارية ستكون محكومة بالفشل، وسيعود النزاع حول توزيع العائدات النفطية بشكل مضاعف، ما سيطيل أمد الحرب.

مع عدم احتمال أن يحقق أي من الطرفين نصرا حاسما، ينبغي على اللاعبين الخارجيين، خصوصا داعمي كلا الطرفين المتحاربين، إقناع الحكومتين المتنافستين بقبول وقف لإطلاق النار والشروع في مفاوضات لتسوية نزاعهما المالي كأولوية قصوى.

حاليا، هناك معارضة قوية لهذا داخل ليبيا، فكلا الطرفين يعتبران القتال حول طرابلس معركة وجودية ورفضا حتى النظر في وقف للأعمال القتالية أو الوساطة الخارجية.

حفتر مصمم على السيطرة على العاصمة ووضع المؤسسات المالية للدولة تحت سيطرته. وعلى نحو مماثل، فإن قوات حكومة الوفاق تقول بأنها مصممة على ردع حفتر وجيشه وإعادته إلى شرق ليبيا وتقويض المكانة المالية للمنطقة الشرقية التي يسيطر عليها حفتر.

تشير هذه المواقف إلى احتمال نشوء مأزق طويل ومكلف من شأنه أن يدفع إلى المزيد من التدخل الخارجي واستمرار العنف على عدة جبهات في سائر أنحاء البلاد.

إن الطرفين يتخذان مخاطرة كبيرة. إن ترك الأزمة المتمثلة في الهجوم العسكري الذي يشنه جيش حفتر والإجراءات العقابية التي يتخذها المصرف المركزي تتكشف في الظروف الراهنة من شأنه أن ينعكس سلبا على كليهما، حيث أنه يمكن أو يؤدي إلى دمار المناطق الحضرية وأن يلحق ضررا كبيرا بالاقتصاد، وزيادة مشاكل السيولة، وحدوث ارتفاع حاد في الأسعار وتنشيط التجارة في السوق السوداء.

سيكون المستفيدون الرئيسيون من هذا هم اللاعبون العسكريون وتجار السوق السوداء، بينما سيتعرض لأسوأ آثار هذه الأزمة الليبية الليبيون العاديون في سائر أنحاء البلاد. على المدى البعيد، يمكن لهذا أن يمهد الطريق إلى حرب أوسع بكثير للسيطرة على الأموال والموارد.

ينبغي على العواصم الأجنبية والأمم المتحدة أن تضغط على الطرفين للتوصل إلى وقف أطلاق النار. ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي على داعمي حفتر في الخليج أن يوضحوا له أنهم لا يعتزمون تمويل الحكومة في المنطقة الشرقية إذا جفت حساباتها، كما يبدوا محتملا، ناهيك عن منح المزيد من الدعم المالي للهجوم.

يمكن لهذا أن يوفر الحافز الضروري لجيش حفتر كي يوقف هجومه على طرابلس ويوافق على التفاوض. على نحو مماثل، ينبغي على العواصم الأوروبية والداعمين الإقليميين لحكومة طرابلس أن يضغطوا على السراج ليوافق على وقف إطلاق النار.

في الوقت نفسه، ينبغي على الولايات المتحدة أن تمارس نفوذها على المصرف المركزي في طرابلس، الذي يتمتع بعلاقة تفضيلية معه، بتسوية المشاكل المصرفية التي تؤثر بشرق ليبيا.

دون حث من واشنطن، من غير المرجح أن توافق السلطات في طرابلس طوعا على التفاوض للتوصل إلى تسوية مالية، وهذا سيتطلب من واشنطن العودة إلى مقاربة أكثر توازنا للصراع الليبي.

فبدلا من التعبير على الدعم العسكري لحفتر والإعتراف السياسي (المتردد) بالسراج ينبغي على إدارة ترمب، مع مشورة تقنية من وزارة الخزانة الأميركية، أن تستخدم رأسمالها السياسي ونفوذها المالي للضغط على الطرفين لدفعهما نحو تسوية الأزمة المصرفية.

كما ينبغي على الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن تقدم الخدمة والمشورة.

من الواضح أن مثل هذه المشاورات المالية لا يمكن أن تحدث في عزلة، إذ ينبغي أن تمضي يدا بيد مع المحادثات السياسية والعسكرية الرامية إلى جسر الانقسامات في سائر أنحاء البلاد. لكن عرض تأسيس مسار مالي سيزيد من فرص إقناع الطرفين بالقبول بوقف لإطلاق النار.

علاوة على ذلك، فإن أي مفاوضات مستقبلية تخاطر بأن تكون شكلية إذا لم يكن هناك محاولة أيضا لمعالجة الاختلالات المالية التي تشكل دافعا رئيسيا للصراع السياسي والعسكري على ليبيا. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي اتخاذ عدة خطوات:

ـ ينبغي على المصرف المركزي وفرعه في بنغازي تأكيد التزامهما بإجراء تدقيق محاسبي خارجي على المصرف، كما كانا قد وعدا ممثل الأمم المتحدة الخاص في أغسطس 2018. وينبغي على الأمم المتحدة أن تعمل على التغلب على التأخيرات التقنية التي أعاقت هذه العملية.

ـ في هذه الأثناء، ينبغي على الأمم المتحدة أن تعقد اجتماعا تقنيا للمحافظين المتنافسين، والمسؤولين من وزارتي المالية والخبراء الماليين الليبيين. وسيكون الهدف وضع حلول تقنية للأزمة المصرفية ولجملة المشاكل التي تراكمت منذ انقسام المصرف المركزي في العام 2014، بما في ذلك كيفية جعل العمليات المصرفية التجارية معيارية في الشرق.

ينبغي أن يعقد هذا الإجتماع بحضور مختصين من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية، وربما أيضا من المؤسسات المالية الأوروبية أو الإقليمية التي تمتلك خبرة ذات صلة.

وينبغي على الأمم المتحدة أن تنظر في طلب التوجيه التقني من محافظ سابق رفيع ومحترم للمصرف المركزي للمساعدة في قيادة هذه العملية.

ـ ينبغي على أولئك الذين يتفاوضون على حل للأزمة الليبية أن يضعوا أيضا إجراء جديدا لاختيار محافظ توافقي للمصرف المركزي للتغلب على المأزق الذي يتوقع أن يصيب العملية كما هو وارد في الإتفاق السياسي الليبي.

ينبغي تغطية هذه النقطة في أي محادثات سياسية مستقبلية.

انتهى

______________

مواد ذات علاقة