بقلم خليفة حداد

تمكنت القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية من استعادة مدينة غريان، في هجوم منسق وخاطف، بعد ثلاثة أشهر من إطلاق خليفة حفتر عملية عسكرية للسيطرة على العاصمة.

الجزء الأول

مثّل الانهيار السريع لقوات الكرامةبالمدينة، وما رافقه من سيطرة على غرفة العمليات الرئيسية بالمنطقة الغربية وغنم أسلحة متطورة ومقتل وأسر المئات من المسلحين، منعرجا فارقا في المعركة.

ورغم الإنجاز العسكري النوعي باستعادة غريان وإمكانية استعادة ترهونة والجيوب الموالية لعملية الكرامةبالمنطقة الغربية، فإن أغلب المؤشرات تذهب إلى أن المعركة العسكرية لن تنتهي قريبا، وأن أمام حفتر وداعمية الإقليميين خيارات أخرى لتفجير الأوضاع في جبهات جديدة.

وعلى وقع ما يدور في المحاور العسكرية المتحركة، يتصاعد التدخل الإقليمي في المشهد الليبي، لتنحسر، بفعله، الآمال في حل سياسي ينهي حالة التشظي المؤسساتي والسياسي الذي أصاب الكيان الليبي منذ 2014.

مقدمة

شنت قوة حماية غريانوعدد من التشكيلات العسكرية الموالية لحكومة الوفاق الوطني الليبية، مساء الأربعاء 26 يونيو المنقضي، هجوما مباغتا على القوات التابعة لقائد عملية الكرامةفي مدينة غريان، عاصمة جبل نفوسة وكبرى مدن جنوب العاصمة طرابلس.

ولم تمض ساعات قليلة حتى بسطت قوات الوفاق سيطرتها الكاملة على المدينة والبلدات المجاورة التي استولت عليها قوات حفتر في أول أيام هجومها على العاصمة في 4 يونيو من هذا العام.

وتطرح خسارة حفتر مدينة غريان، حيث مقر غرفة عملياته العسكرية بالمنطقة الغربية، أكثر من سؤال عن مدى قدرته، وداعميه الإقليميين، على تحقيق الأهداف التي أعلنت عند تدشين الهجوم على العاصمة حيث تتمركز مؤسسات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا.

استعادة غريان: المنعرج العسكري

تعد مدينة غريان كبرى مدن جبل نفوسة وجنوب طرابلس، حيث يقطنها أكثر من 180 ألف نسمة بحسب تقديرات عدد السكان في السنوات الأخيرة. واكتسبت المدينة أهمية بالغة خلال ثورة فبراير 2011، حيث انتفضت منذ الأيام الأولى، غير أن نظام القذافي عزز وجوده العسكري والأمني بها بكتائبه الأكثر تدريبا وتسليحا، والأشد ولاء له، على غرار كتيبة سحبان وفصائل من كتيبة امحمد المقريف.

وتواصلت قبضة كتائب القذافي على المدينة حتى منتصف شهر أغسطس، عندما تمكن الثوار من السيطرة عليها في هجوم سريع ومنسق، من محاور عدة، استغرق ساعات قليلة. وظلت مدينة غريان، منذ التشظي المؤسساتي والسياسي الذي شهدته البلاد سنة 2014، موالية للسلطات المركزية في طرابلس (حكومة الإنقاذ الوطني ثم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني) كما انخرط أغلب ثوارها في عملية فجر ليبياالتي أطلقت ردا على إعلان حفتر عملية الكرامة“.

وفي 4 أبريل المنقضي دخلت كتائب تابعة لعملية الكرامةمدينة غريان، دون قتال، بعد ترتيبات مع كتائب من المدينة، بعضها ذات توجه سلفي مدخلي، فيما خيّرت كتائب أخرى الانسحاب، والتحقت بالقوات المحسوبة على حكومة الوفاق الوطني في التصدي لتقدم قوات حفتر على التخوم الجنوبية للعاصمة طرابلس بعد سيطرتها على غريان.

ومنذ ذلك التاريخ اتخذت القوات الموالية لحفتر أحد معسكرات مدينة غريان غرفة عمليات رئيسية بالمنطقة الغربية، تحت إشراف قادة عسكريين من الصف الأول على رأسهم عبد السلام الحاسي.

ورغم أن المدينة لم تشهد، منذ 4 أبريل المنقضي، عمليات عسكرية كبرى، إلا أن تمركزات قوات حفتر ظلت هدفا متكررا لطيران الكلية العسكرية بمصراتة التابع لحكومة الوفاق، كما سجلت عمليات نوعية استهدفت مدرعات وآليات وقياديين من طرف خلايا سرية ظلت على ولائها لثوار المدينة.

ومقابل ذلك شنت قوات حفتر، والموالون لها من كتائب المدينة، حملات اعتقالات وتصفيات ضد النشطاء والشخصيات القبلية والأئمة وأبناء العائلات المشكوك في ولائهم، وتم إلقاء جثث البعض منهم، بعد التمثيل بها، في مكبات القمامة على غرار ما شهده شارع الزيت في بنغازي على امتداد السنوات الخمس الأخيرة.

وطيلة ثلاثة أشهر، ظلت المدينة الامتداد الخلفي للمعارك الدائرة في التخوم الجنوبية للعاصمة، حيث تمر، عبرها، أغلب التعزيزات القادمة إلى الجبهة، وتتركز في معسكراتها مخازن الذخائر والأسلحة والدعم اللوجستي، وتحولت مستشفياتها إلى أكبر المراكز لعلاج جرحى المعارك الدائرة في محاور جنوب العاصمة.

ولهذه الأسباب، ولغيرها، أبدت قيادة عملية الكرامةحرصا خاصا للإبقاء على المدينة ضمن دائرة سيطرتها، غير أن كل الحسابات والاحتياطات لم تمنع استعادتها، مجددا، من طرف القوات المحسوبة على حكومة الوفاق الوطني التي شنت هجوما مباغتا وسريعا أدى إلى مقتل وأسر عدد كبير من قوات حفتر وغنم كميات ضخمة من الذخائر والأسلحة المتطورة، والسيطرة على غرفة العمليات الرئيسية بالمنطقة الغربية، واختفاء قائد العملية عبد السلام الحاسي، ظهر يوم 26 يونيو المنقضي.

وتشير تفاصيل كثيرة إلى أن الهجوم الذي أدى إلى استعادة غريان من طرف القوات المحسوبة على ثوار المدينة وقوات الوفاق تم التخطيط له بإحكام من طرف عسكريين متمرسين، وأن حرب الاستنزاف التي شهدتها التخوم الجنوبية للعاصمة، على امتداد ثلاثة أشهر، قد تكون جزءا من مخطط استعادة غريان.

فمنذ الهجوم الذي شنته القوات الموالية لخليفة حفتر في 4 أبريل الفارط، ركزت كتائب الثوار وقوات حكومة الوفاق جهدها العسكري على وقف تقدم القوات المهاجمة بالمحاور الجنوبية للعاصمة ومنعها من تحقيق اختراق استراتيجي، وضرب خطوط الإمداد القادمة عبر الجفرة ومناطق جنوب سرت والطرق المؤدية إلى ترهونة وغريان، ونصب كمائن والقيام بالتفافات في الطرق الفرعية والمزارع،

وهو ما اضطر قيادة عملية الكرامةإلى الدفع بمزيد من التعزيزات إلى محاور قصر بن غشير والمطار ووادي الربيع والسبيعة وسوق الخميس وغيرها من المحاور الساخنة، على حساب تأمين مدينة غريان، والتي لم يكن متوقعا سقوطها بالسرعة التي سقطت بها، لبعدها النسبي عن محاور التماس ولصعوبة تضاريسها التي تحول دون القيام بالتفاف سهل وسريع.

ورغم تبرير قيادات الكرامةما جرى بما وصفته بـخياناتمن طرف كتائب موالية لها، إلا أن مجريات المعركة تؤشر إلى ضعف هذا المعطى وإلى أن الانهيار السريع لقوات حفتر بالمدينة لم يكن نتيجة مؤامرة داخلية. فأغلب القوات التي شاركت في المعركة قدمت من محاور جنوب طرابلس، وبينها قوة حماية غريانالتي انسحبت عند سقوط المدينة، قبل ثلاثة أشهر، كما سجلت مشاركة كتائب من مدن عدة، بينها مصراتة والزاوية وزوارة، وغيرها.

***

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية ـ هي مؤسسة بحثية تغطي مجالا إقليميا واسع النطاق ، يشمل دول المغرب العربي والفضاء الإفريقي والمجال المتوسطي، مع الاهتمام بالشأن التونسي، وللمركز مقران رئيسيان بلندن وتونس… ويعمل المركز على تقديم مساهمات جادة في مجال البحوث الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية والدبلوماسية.

___________________

مواد ذات علاقة