بقلم رشيد خشانة

أجبرت عملية “طوفان الكرامة” التي أطلقها القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر، مطلع نيسان/ابريل الماضي، مختلف العواصم الدولية، المعنية بالأزمة الليبية على التخلي عن الأقنعة واللعب بأوراق مكشوفة أو شبه مكشوفة، من فرنسا إلى روسيا ومن أمريكا إلى تركيا.

ربما الخاسر الأكبر، معنويا، في عملية إزالة الأقنعة هي فرنسا، التي استطاعت في السنتين الماضيتين أن تجمع الإخوة الأعداء تحت خيمتها، وتبدو على مسافة واحدة منهم جميعا، وإذ بحزمة صواريخ من طراز “جافلان” تقصف تلك الصورة الوردية، التي بنتها دبلوماسيتها على مدى أعوام، وتُحيلها رمادا منثورا.

حسابات خاطئة

في البدء ساعد سقوط مروحية في بنغازي، اتضح أن على متنها ثلاثة من ضباط المخابرات الفرنسية، قضوا في الحادث، في رفع الستار عن العلاقة الخاصة بين حفتر وباريس، فانكشف الكثير من تجلياتها، بعد ازدواجية ظلت مخفية عن أنظار الليبيين أعواما.

ومع انطلاق عملية “طوفان الكرامة” غادر فريقان أمنيان فرنسيان الأراضي الليبية، واحدٌ برًا عبر معبر رأس جدير، نحو جنوب تونس، والثاني بحرا بمحاذاة جزيرة جربة التونسية، في طريقهما للعودة إلى فرنسا.

وكشفت عملية الاجلاء عن حجم المساعدة اللوجستية التي تتلقاها قوات حفتر من فرنسا.

في أثناء ذلك استطاعت قوات حفتر أن تجعل من مدينة غريان، قاعدتها الأساسية لتطويق طرابلس، على أمل الزحف لاحقا نحو وسط العاصمة.

لم تحسب حسابا لاحتمال خسارتها المعركة، لذلك لم يُسعفها الوقت لكي تجمع معها شواهد التدخل الأجنبي، عندما غادرت غريان.

والأرجح أنها أخذت معها صواريخ “جافلان” الفرنسية، وتركت أربعة منها اضطرارا لا اختيارا، فكتبت الصواريخ الأربعة فصولا جديدة من كتاب التعاون بين اللواء المتقاعد والرئاسة الفرنسية، بالرغم من محاولات وزيرة الدفاع (الفرنسية) المُتلعثمة إيجاد مُبررات لخيار دعم حفتر.

بهذا المعنى فقدت فرنسا موقعها كوسيط في الأزمة الليبية، بعدما أثبتت أنها صارت طرفا مؤججا لنار الخلافات.

وتتالت في الفترة الأخيرة “زلات القدم” التي أماطت اللثام عن المستوى البعيد من الدعم العسكري واللوجستي، الذي ثابرت باريس على تقديمه لحفتر، بدعوى أنها تتعقبُ عناصر “تنظيم الدولة” و”القاعدة”.

وأتت المواقف الدبلوماسية امتدادا واضحا لذلك الانحياز، إذ أن فرنسا منعت مجلس الامن الدولي من إصدار بيان يدين حفتر، كما تمسّكت بأن يكون وقف إطلاق النار غير مشروط، على عكس ما يطالب به رئيس حكومة “الوفاق” فايز السراج، الذي اشترط عودة قوات حفتر الى شرق ليبيا.

وانضم الروس، المُتحالفون مع حفتر، إلى الموقف الفرنسي فأفشلوا معا، في مناسبتين، محاولات إصدار قرار بوقف الحرب وفرض هدنة انسانية، مُستخدمين حق النقض.

مفاجأة ترامب

في مسار مماثل سارت السياسة الأمريكية إزاء الأزمة في ليبيا، فبعدما فوض الرئيس ترامب لإيطاليا إدارة الملف الليبي، بمناسبة زيارة رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي واشنطن الصيف الماضي، فاجأ البيت الأبيض الجميع بإعلانه عن مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع حفتر يوم 19 نيسان/ابريل الماضي، أي بعد أيام قليلة من انطلاق عملية “طوفان الكرامة”.

وحاول الأمريكيون الايحاء بوجود انقسام في مؤسسات صنع القرار، وبخاصة بين أطراف المثلث: الرئاسة ووزارتا الدفاع والخارجية.

فالرئاسة ممثلة في ترامب وبعض مستشاريه لا يخفون خشيتهم من “صوملة ليبيا”، في حال تولت حكومة ضعيفة إدارة البلد، فمع انتشار السلاح والميليشيات وعدم توحيد الجيش، ستجد المجموعات الإرهابية مناخا مناسبا للتمدد والتغوُل.

أما وزارة الدفاع وأعضاء من الكونغرس فيُذكرون البيت الأبيض بأن الجيش التابع لحكومة “الوفاق”، كان شريكا في الحرب على الارهاب، وقام بدور حاسم في تحرير مدينة سرت من “تنظيم الدولة” الإرهابي، وبخاصة قوات “البنيان المرصوص” المتحدرة من مدينة مصراتة، التي قدمت مئات القتلى من أبنائها في معارك سرت.

ويذهب بعض أعضاء الكونغرس إلى حد القول إن حكومة السراج هي المعترف بها دوليا، طبقا للاتفاق السياسي في الصخيرات (المغرب 2015)، وما على القائد العام للجيش خليفة حفتر إلاّ الانصياع لإرادة دولية ومحلية تقضي بالعمل تحت سلطة حكومة مدنية.

ومع هزيمة قوات حفتر في غريان، استدارت الدبلوماسية الأمريكية، وكأنما شعرت بأنها أخطأت وعليها مراجعة مراهنتها على حفتر.

من هنا نقرأ التصريح الأخير لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي أكد، خلال حوار هاتفي مع نظيره المصري سامح شكري أخيرا، على “ضرورة التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية والحد من تصاعدها”.

وأوضحت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، أن الوزيرين ناقشا “الضرورة الملحة للتوصل إلى حل سياسي في ليبيا ومنع مزيد من التدهور”.

وفي الحقيقة كان هذا هو الموقف الرسمي للخارجية الأمريكية في أعقاب انطلاق “طوفان الكرامة”، إذ قال بومبيو في بيان صدر في وقت متأخر من الليل، يوم 7 أبريل/ نيسان الماضي، مُتطرقا لتصاعد القتال حول طرابلس، “لقد أوضحنا أننا نعارض الهجوم العسكري من قبل قوات خليفة حفتر ونحث على الوقف الفوري لهذه العمليات العسكرية”.

ولاحظ بومبيو أنه لا يوجد حل عسكري لمشاكل ليبيا، وحث القادة الليبيين على العودة إلى المفاوضات السياسية برعاية الأمم المتحدة، على العكس تماما من موقف رئيسه ترامب.

المفتون بالسلطوية

ورأى محللون أمريكيون وقتئذ أنه مع إشادة البيت الأبيض بحفتر، تبدو ملامح معركة طويلة ومدمرة حول طرابلس أمرا حتميا.

وقالوا “لقد انتزع ترامب النفوذ من أجل إدارة الدبلوماسية بعيدا عن أيدي الأمم المتحدة”.

وكتب السفير الأمريكي السابق ومساعد الأمين العام للأمم المتحدة سابقا جيفري فلتمان مُعلقا على إعجاب ترامب بحفتر “على الرغم من أن جاذبية حفتر، كرجل قوي مُفترض، قد تكون مُحبَبة في البيت الأبيض، المفتون بالسلطوية، فهو ليس المنقذ لليبيا.

فالاستقرار الذي يعد به سيعتمد على القوة الوحشية التي تحرض على المعارضة العنيفة. ومع أن الغرب يعتبره معادلاً للإسلاميين، فإنه يعتمد على الدعم السلفي المرتبط بالسعودية. ويشمل جيشه الوطني المزعوم ميليشيات، إلى جانب أولئك الذين ارتكبوا انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان”.

أكثر من ذلك، أكد فلتمان أن الهدف من شن حملة عسكرية للسيطرة على طرابلس هو في الواقع، “إخراج المؤتمر الذي كان مُزمعا عقده، في منتصف أبريل، تحت عنوان “الملتقى الوطني الشامل”، عن مساره، وهي عملية (الملتقى) كان يستعد للمشاركة فيها مئات الليبيين الذين يمثلون التنوع السياسي والجغرافي للبلاد، من أجل رسم طريق للمضي قدمًا نحو الانتخابات.

هذا التعطُل في الآليات الدولية والمحلية على السواء يُذكر بالتحذير الذي أطلقه موفد الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، حين توقع يوم 21 أيار/مايو الماضي، أن “المعركة من أجل الوصول إلى طرابلس تشكل مجرد بداية حرب أهلية طويلة ودامية على السواحل الجنوبية للمتوسط، ما يُعرِض أمن الدول المجاورة لليبيا للخطر”، وفق ما قال.

هذه التوقعات أكدت صحتها الأسابيع اللاحقة، لا بل تفاقم الارتباك، وانكشفت ازدواجية المواقف لدى غالبية أعضاء مجلس الأمن، ما جعل الحرب تطول أكثر فأكثر، وتدفع ما يزيد عن مئة ألف نازح إلى مغادرة أحيائهم ومساكنهم، بحثا عن ملاذات آمنة، بعيدا عن مسرح القتال في التخوم الجنوبية لطرابلس.

الظاهر أن الأزمة مفتوحة على أحد حلين مختلفين، بحسب توازن القوى بين الأطراف المتقاتلة على الأرض، فالأول يقضي باستبعاد العناصر المتشددة من المفاوضات المقبلة، وإفساح المجال أمام عناصر من النظام السابق للمشاركة في الحوارات و… في الحل.

أما الخيار الثاني، فهو مزيدٌ من التصعيد، الذي ستكتفي القوى الكبرى بمراقبته، مُقتصرة على الفرجة، إن لم تُمون بالسلاح والعتاد، ومن عناوين هذا الخيار إقدام حفتر على فتح جبهة جديدة في مدينة الزاوية (40 كلم غرب طرابلس) لإحكام الخناق على العاصمة بقطع الشريان البري الذي يربطها بتونس عبر الشريط الساحلي.

لوثة التبعية

بهذا المعنى، انتقلت ليبيا من وضع الدولة المستقلة والمتحدة، إلى بلد مُفكك وفاقد للسيادة، بفعل انحياز قطاعات من نُخبه إلى أجندات قوى اقليمية ودولية متصارعة، فغدا كثير من أفراد النخبة أدوات لحروب بالوكالة.

ومن المهم أن نتذكر هنا يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1949، حين أعلنت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في جلستها الرابعة، أن ليبيا سوف تحصل على استقلالها قريبا.

ونتيجة لذاك الاعلان تم تحويل ليبيا، سلمياً، من مستعمرة ايطالية إلى دولة دستورية مستقلة، وأعلن استقلالها فعلا يوم 24 كانون الثاني/يناير 1951، بعد مناقشات دامت فترة طويلة.

كان الإعلان دقيقا إذ نص على “أن ليبيا، التي تشمل برقة وطرابلس وفزان، تُكوِن دولة مستقلة ذات سيادة”.

لكن بين الأمس، الذي تشكلت فيه لبنات الوحدة والمناعة، واليوم الذي تمزق فيه الوطن إربا، وهرب أهله إلى مناطق أكثر أمانا في الداخل، كما في الخارج، يكاد يضيع البلد وتتناهشه الغربان.

ولن توقف النزول إلى الجحيم سوى الفئة التي لم تُصبها لوثة التبعية، ولم ترضع لبن الولاء للخارج، وهي فئة قليلة بلا شك، وغير مسلحة، لكن كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، بشرط أن تكون حاملة لمشروع إعادة البناء وجادة في تجسيده.

_________

مواد ذات علاقة