بقلم أنور الجمعاوي

منذ أعلن اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، حربه على العاصمة الليبية طرابلس في إبريل/ نيسان الماضي، يُعاني آلاف المدنيين الليبيين ويلات حرب ضروس، لم يختاروها، ولم يُستشاروا عند إعلان ساعتها الصفر.

بل دهمتهم فجأة، وفرضها عليهم هذا الرجل وأعوانه فرضا، فوجدوا أنفسهم في حمْأة معارك حامية بين كتائب الفتح المبين، الموالية لحفتر وقوّات بركان الغضب التّابعة لحكومة الوفاق الوطني. وأحاطت بالأهالي محاور القتال من كلّ جانب.

وأصبحت حياتهم في خطر، ومعيشتهم في ضنك، تتهدّدهم القذائف العشوائية من حين إلى آخر، ويُفسد عليهم أزيز الرصاص، ودويّ الطّائرات، وإطلاق الصواريخ، نومهم، وعملهم، وراحتهم، وفرحهم، ويُعطّل سعيهم إلى إدارة أعمالهم وقضاء حوائجهم.

وورد في شهادات مواطنين ليبيين، وفي تقارير منظمات حقوقية وإغاثية موثوقة، أنّ المدنيين يدفعون غاليا ثمن الحرب الدامية الدّائرة على تخوم طرابلس، وتتنوّع أشكال معاناتهم بين إمكان استهداف حياتهم وإمكان بقائهم في المدينة في ظروف معيشية صعبة فرضتها الحرب، أو احتمال اضطرارهم لترك أملاكهم وأشغالهم وطلب النزوح أو الهجرة بحثا عن مكان آمن.

ورد في إحصائية صادرة عن منظمة الصحة العالمية أنّ مائة يوم من القتال على طرابلس خلّفت مقتل ما يزيد عن ألف شخص، وجرح 5500 آخرين، وأدّت إلى مغادرة مائة ألف مواطن ليبي منازلهم، بغرض النزوح أو الهجرة.

وهو ما يُخبر بأن احتدام المواجهات العسكرية انعكس سلبا على الوضع الإنساني، وزاد من متاعب الليبيين.

وتُفيد إحداثيات المشهد القتالي بأنّ كتائب حفتر لا تجد، في بعض الأحيان، حرجا في استهداف مواقع مدنية من بينها مدارس، ومضخّات مياه، ومساجد، وطواقم طبّية، وفنادق.

وقصفت عدة مرّات مطار معيتيقة المدني الدولي، وأحياء سكنية مكتظّة، متعلّلة بقربها من مواقع عسكرية، وسبق لطائرة تابعة لمعسكر حفتر أن قصفت مأوىً للمهاجرين غير النظاميين في تاجوراء، شرق طرابلس، ما أدّى إلى مقتل 53 ضمنهم ستّة أطفال، وجرح 140 آخرين.

ويُفسّر ملاحظون تلك الهجمات العشوائية برغبة مسلّحي حفتر في ترهيب المدنيين، وتأليبهم على حكومة الوفاق الوطني، وكذا دفعهم إلى إخلاء المدينة.

كما يُرجع آخرون ذلك إلى عدم حرفية بعض المنتمين إلى كتائب الفتح المبين، وإقدامهم على إفراغ ذخيرتهم بعشوائية.

يضاف إلى ذلك استخدام قوّات الكرامة أحيانا قذائف الهاون وصواريخ غراد، المعروفة بعدم دقتها في إصابة الهدف وانشطارها إلى شظايا حارقة كثيرا ما تصيب المدنيين، وتُحدث أضرارا فادحة في ممتلكاتهم.

وقد عرضت قناة تلفزية ليبية مشهد طفل من بلديّة سوق الجمعة، يرقد في مصحّة استشفائية في طرابلس، بسبب شظايا قذيفة أصابته إصاباتٍ بالغة في عينه اليُسرى، وكتفه وجانب من بطنه، وألزمته المكوث في قسم العناية الطبّية المركّزة.

يقول والد الضحية كان يلهو في فناء المنزل، عندما دهمته شظايا قذيفة رعناء، قصفت براءته، وأفسدت فرحته، ونغّصت عليه حياته، والحال أنّ منزل الأسرة بعيد عن المواقع العسكرية، وفي منأى عن محاور القتال“.

وفي مشهد آخر، تقول سيّدة ليبية كتائب حفتر حوّلت منزلي إلى رُكام، شرّدت أسرتي، ودمّرت حياتي.. حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا حفتر“.

ومن ثمّة، يمثّل أُوار المعركة المسلّحة على طرابلس خطرا على حياة المدنيين، خصوصا في ظلّ استخدام طرفي النّزاع أسلحة متنوّعة، وتزايد الهجمات العشوائية على المناطق السكنية ومراكز احتجاز المهاجرين واللاجئين، وعدم التزام هذا الطرف أو ذاك بقواعد الاشتباك، وفي مقدّمتها ضرورة تحييد المدنيين، وإبقائهم خارج دوائر النّزاع المسلّح.

على الصعيد المعيشي، أدّت الحرب إلى تعقيد حياة مواطنين ليبيين كثيرين رابطوا في طرابلس ورفضوا مغادرتها لتعلّقهم بالأرض، ولرغبتهم في البقاء بين أسرهم، ولحرصهم على ممتلكاتهم وإصرارهم على تحدّي الهجمة المغرضة على مدينتهم.

يعاني هؤلاء المدنيون صعوباتٍ جمّة وأوضاعا حياتيّة ضاغطة، بسبب تراجع إمدادات الوقود، ونقص السيولة، ومحدودية بعض المواد الغذائية الأساسية، وارتفاع الأسعار، ونقص الأدوية، والمعدّات الطّبية، وتحويل معظم المستشفيات الخاصّة والعمومية إلى مراكز إسعاف استعجالية للمصابين في العمليات القتالية.

كما أنّ قصف مطار معيتيقة الدولي، المطار المدني الوحيد في المنطقة الغربية، عطّل رحلات الطيران من حين إلى آخر، وحال دون وصول طواقم طبّية ومساعدات إغاثية أجنبية إلى المدنيين.

ومنع كثيرين من ممارسة حقّهم في التنقّل بسلام، والسفر قصد التداوي أو العمل أو الدراسة أو السياحة.

وأثّر قطع الكهرباء لفترات طويلة تصل أحيانا إلى 12 ساعة يوميّا على تأمين الرّعاية الصحية، وغيرها من الخدمات الضرورية التي تتعلّق بمعاش النّاس وحياتهم اليوميّة.

تقول منظّمة العفو الدولية في أحد بياناتها التأثير الكبير للمعركة على طرابلس يمكن رؤيته حتّى من الفضاء حيث تُظهر صور الأقمار الصناعية مساحات شاسعة من المدينة يلفّها الظلام، وتُظهر اللقطات والأدلّة الفوتوغرافية أنّ المناطق المدنية، والمنازل، والبنية التحتية تعاني ضررا كبيرا“.

وفي سياق متصل، تقول سيّدة ليبية في تصريح لمنظمة الصليب الأحمر إنّ كمّيات الرصاص والصواريخ والقذائف التي تطلق على الأحياء السكنية في العاصمة كبيرة جدّا جدّا..

صحيح أنّك قد تنجو بأعجوبة من الهلاك، بسبب قذيفة أو قنبلة أو شظيّة، لكنّك قد تلقى الموت بسبب الضغوط النفسية الهائلة والنوبات القلبية والخوف المستدام من إمكان سقوط صاروخ طائش على منزلك، أو في فناء مدرسة أويت إليها، هربا من لظى المعارك“.

ضغوط مردّها أيضا الخوف من عودة الدولة العسكرية التي عانى الأهالي عقودا من سطوتها، وكابدوا من أجل إطاحتها، ويواجهون حاليّا طموحات قائد عسكري، رفض الانخراط في العملية السياسية، ويحرص وأتباعه على استعادة النظام الشمولي، ومصادرة مشروع الدولة المدنية، وحقوق الليبيين في الحرّية والسلام، والتعدّدية والدمقرطة

أمّا المدنيون الذين دفعتهم الحرب إلى الرّحيل من طرابلس، فليسوا أفضل حظّا من الباقين فيها.

هم أيضا يواجهون مصاعب شتّى، ويُعانون مشكلات نفسيّة ومادّية عدّة.

أغلبهم بعثرت الحرب مسار حياتهم. منهم مَن انقطع عن الدّراسة، ومنهم مَن خسر عمله، وترك متجره أو ضيعته وأملاكه للمجهول.

وتُفيد أنباء بأنّ القوّات المهاجمة حوّلت بعض مساكن المدنيين إلى ثكناتٍ ونقاط ارتكاز عسكرية، فيما تعرّضت محلّات ومنازل عدّة إلى أعمال سرقة ونهب. يُضاف إلى ذلك أنّ الرّاحلين يواجهون صعوبات السفر في طرق محفوفة

بالمخاطر، ويُكلّفهم الاستقرار في مكان جديد أعباءً مادّية كبيرة، ولا يجد أغلبهم مورد رزق يقتات منه، ويُغطّي به مصاريف أسرته اليوميّة.

بناء على ما تقدّم، يتبيّن أنّ الحرب على طرابلس أنهكت المدنيين وأرهقتهم، وأربكت حياتهم، وعرّضتهم لمخاطر شتّى، وأثّرت سلبا على أوضاعهم النفسية والمادّية والمعيشية، وعلى مساراتهم المهنية والدّراسية، وجعلتهم موزّعين بين خيار البقاء في المدينة ومواجهة مخاطر النزاع المسلّح، وخيار الرّحيل منها، وتكبّد متاعب وخسائر شتّى. وفي الحالتين، يفقد الليبي حقّه في حياة آمنة كريمة مستقرّة في بلده.

ختاما، مَعيبٌ حقّا أن يستمرّ جمود المجتمع الدولي وتردّده إزاء مأساة المدنيين، في طرابلس خصوصا وليبيا عموما.

ولا يكفي في هذا الشّأن إصدار بيانات أسفٍ وتنديدٍ وتضامن، وإرسال مساعدات إغاثية، بل المطلوب وضع حدّ للانتهاكات المسلّطة على المدنيين، وتحميل المسؤوليات للأطراف المعنية، وتقديمهم للمحاكمة أمام محكمة الجنايات الدولية لقاء ما ارتكبوه من جرائم حرب ضدّ مدنيين عُزّل مسالمين.

وأحرى بدول العالم الحرّ أن تبذل جهودها الديبلوماسية والأخلاقية لتوقف هذه الحرب العبثية الهوجاء، وتدعم الطموح المشروع الغالب لدى معظم الليبيين لتأسيس دولة مدنية/ ديمقراطية، على نحو يضمن مصالح تلك الدول، ويؤكّد صِدقية ما تُنادي به قيم كونية في مقدّمتها تعميم السّلام، والحرّية، والدّيمقراطية.

***

أنور الجمعاوي ـ أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.

____________

 

مواد ذات علاقة