بقلم دافيد كيركباتريك

تغوص موسكو أكثر فأكثر في حرب أدواتها الطيارات المسيرة في نقطة استراتيجية ساخنة ثرية بالنفط وتعج بالمهاجرين ومبتلاة بالمتشددين.

.

.

الجزء الأول

كان المصابون يصلون مستشفى العزيزية الميداني جنوب طرابلس بجروح نازفة وأعضاء ممزقة، أصحابها ضحايا نيران المدفعية العشوائية التي حددت هوية المعارك التي كانت تدور بين الميليشيات الليبية المتناحرة.

أما الآن، فيقول المسعفون إنهم باتوا يرون شيئاً جديداً: ثقوباً ضيقة في الرأس أو البدن حفرتها رصاصات تقتل من تصيبه في الحال ولا تغادر جسده بتاتاً.

يقول المقاتلون الليبيون إن هذه الرصاصات يطلقها مرتزقة روس من بينهم قناصون محترفون. يستدل من غياب جروح تخرج منها الرصاصات على أن تلك هي نفس الذخيرة التي يستخدمها المرتزقة الروس في أماكن أخرى.

هؤلاء القناصة الروس هم بعض من مائتي مقاتل روسي وصلوا إلى ليبيا خلال الأسابيع الستة الماضية، كجزء من حملة واسعة يشنها الكرملين لإعادة بسط نفوذه في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا.

بعد أربعة أعوام من الدعم المالي والعسكري من وراء الكواليس لمن كان يتوقع له أن يصبح رجل ليبيا القوي، تدفع روسيا حالياً بشكل مباشر وحازم باتجاه حسم نتيجة الحرب الأهلية الفوضوية في ليبيا.

ولقد استخدمت في سبيل ذلك طائرات سوخوي متطورة وضربات صاروخية منسقة ومدفعية موجهة بدقة إضافة إلى القناصة – وهو نفس السيناريو الذي مكن موسكو من أن تكون صاحبة الأمر والنهي في ساحة الحرب الأهلية السورية.

يقول فتحي بشاغا، وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني الليبية التي تتخذ من العاصمة طرابلس مقراً لها: “إنه بالضبط كما هو عليه الحال في سوريا“.

أياً كان تأثير ذلك على النتيجة، فلقد منح التدخل الروسي موسكو بحكم الأمر الواقع حق الاعتراض على أي حل للصراع.

تدخل الروس نيابة عن زعيم المليشيا خليفة حفتر الذي يتخذ من شرق ليبيا مقراً له والمدعوم كذلك من قبل الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية وأحياناً من قبل فرنسا أيضاً.

يعلق عليه داعموه آمالهم في التصدي للإسلام السياسي ومحاربة المتشددين واستعادة منظومة الحكم السلطوي في البلاد.

ما لبث السيد حفتر يخوض حرباً منذ ما يزيد عن خمسة أعوام ضد تحالف من المليشيات في غرب ليبيا والتي تدعم السلطات في طرابلس.

وكانت حكومة طرابلس قد نُصبت من قبل الأمم المتحدة في عام 2015 وهي مدعومة رسمياً من قبل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية. ولكن من الناحية العملية، فإن تركيا هي القوة الوحيدة الراعية لها.

وما التدخل الجديد للمرتزقة الروس، والذين تربطهم بالكريملين علاقات وثيقة، سوى تكرار لما حصل في الحرب الأهلية السورية.

ينتمي القناصة الروس إلى مجموعة واغنر، وهي شركة خاصة على ارتباط بالكرملين، وهي التي قادت كذلك التدخل الروسي في سوريا، وذلك بحسب ما صرح به ثلاثة من كبار المسؤولين الليبيين وخمسة من الدبلوماسيين الغربيين الذين يتابعون مجريات الحرب عن كثب.

في كلا الصراعين، تقوم القوى الإقليمية المتنافسة بتسليح عملائها المحليين، وكما هو الحال في سوريا، فإن الشركاء المحليين الذين تحالفوا مع الولايات المتحدة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشكون الآن من أنهم تم التخلي عنهم بل والغدر بهم.

وأما الأمم المتحدة، التي حاولت دونما نجاح التوسط لإحلال السلام في البلدين، فما فتئت تتفرج بينما تحول حظر السلاح المفروض على ليبيا منذ ثمانية أعوام إلى أضحوكة، كما صرح بذلك مؤخراً المبعوث الخاص للأمم المتحدة.

ومع ذلك، ولأسباب عدة، تظل ليبيا بؤرة الخطر الأكبر.

من حيث الحجم، تبلغ ليبيا ما يزيد عن ثلاثة أضعاف حجم تكساس، ولديها احتياطيات هائلة من النفط.

وعلى الرغم من الصراع الدائر فيها، يبلغ إنتاجها اليومي من النفط 1.3 مليون برميل في اليوم. تطل على البحر المتوسط من خلال ساحل طويل لا يبعد سوى ثلاثمائة ميل عن السواحل الإيطالية، ولذلك ما لبثت تشكل نقطة انطلاق لعشرات الآلاف من المهاجرين الطامحين بالوصول إلى القارة الأوروبية.

كما أن الحدود المفتوحة حول الصحراء الليبية حولت البلاد إلى مأوى آمن للمتطرفين القادمين من شمال أفريقيا ومن البلدان التي تليها.

تحول الصراع على الأرض الليبية إلى مزيج ثنائي القطبية لما هو متخلف وما هو مستقبلي.

لقد حولت تركيا والإمارات ليبيا إلى ساحة وغى لأول حرب يتم خوضها بأساطيل من الطيارات المسيرة المسلحة. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، فقد قام الطرفان خلال الشهور الستة الماضية بما يزيد عن تسعمائة مهمة عسكرية نفذتها الطائرات المسيرة.

أما على الأرض فتدور رحى الحرب بين ميليشيات لا يزيد عدد المقاتلين فيها عن أربعمائة لا يكفون طوال الوقت عن الاشتباك فيما بينهم.

ينحصر القتال بشكل أساسي في عدد محدود من الأحياء المهجورة في الضواحي الجنوبية للعاصمة طرابلس، بينما تعج الأحياء التي تليها بمظاهر الحياة الاعتيادية وتضج شوارعها بحركة السيارات الكثيفة وتفيض مقاهيها بالزبائن وسط تلال من القمامة المتراكمة.

يقول عماد بادي، المتخصص في الشؤون الليبية لدى معهد الشرق الأوسط والذي قام في شهر يوليو بزيارة إلى الجبهة: “شتان بين الليبي الذي يقاتل على الأرض والتكنولوجيا المتقدمة التي تستخدمها القوى الأجنبية المتدخلة في الأجواء. وكما لو أن الطرفين يعيشان في عالمين مختلفين تماماً.”

في جولة أخيرة قام بها على حي عين زارة على الخطوط الأمامية، قام محمد الديلاوي، وهو مسؤول في إحدى ميليشيات طرابلس، بتوزيع أكياس من المال على المقاتلين الذين يرتدون قمصان التي شيرت أو أزياء عسكرية غير متجانسة، وبعضهم يلبس في رجليه أحذية التنس الرياضية أو الصنادل بينما البعض الآخر حاف تماماً.

ويشاهد في تلك الأثناء هيكل سيارة إسعاف مدمرة على طرف الشارع كانت قد أصيبت بصاروخ أطلق من طائرة مسيرة.

يقول الديلاوي إن وصول القناصة الروس غير من طبيعة الحرب، وهو الذي فقد في اليوم السابق تسعة من مقاتليه – لقي أحدهم حتفه بعد أن أصيب برصاصة في عينه.

وقال: “كانت الرصاصة بطول الأصبع.”

قال أحد المسؤولين الأمنيين الأوروبيين إن غياب جرح يشير إلى خروج الرصاصة من البدن، وهي علامة على استخدام ذخيرة مجوفة، ينطبق مع مواصفات الجراح التي كان القناصة الروس يتسببون بها في شرق أوكرانيا.

كان الصراع في مطلع شهر إبريل / نيسان قد تراجع إلى حد كبير، وتصادف ذلك مع وصول أمين عام الأمم المتحدة أنتونيو غوتيرس إلى طرابلس في محاولة لإبرام صفقة سلام، إلا أن السيد حفتر سارع في اليوم التالي مباشرة إلى شن هجوم مفاجئ على العاصمة مما أشعل الحرب الأهلية من جديد.

يقول مسؤولو الحكومة في طرابلس إن روسيا تجلب الآن مزيداً من المرتزقة كل أسبوع.

يقول الجنرال أسامة الجويلي، القائد الأعلى للقوات المنضوية تحت حكومة طرابلس: “من الواضح أن روسيا قررت الدخول بكامل قوتها في هذا الصراع.” واشتكى الجويلي من أن الغرب لم يفعل شيئاً لحماية الحكومة من القوى الأجنبية التي تعزم على الدفع بحفتر إلى مقاليد السلطة في البلاد.

وأضاف متهكماً: “لم كل هذا العناء؟ فقط أوقفوا ذلك الآن ونصبوا ذلك الشخص ليحكمنا.”

***

ديفيد دي كيركباتريك هو مراسل دولي مقره في مكتب لندن. وكان في السابق رئيس مكتب القاهرة ، ومراسل واشنطن ومراسل محلي مقره في نيويورك.

____________

نيويورك تايمز

مواد ذات علاقة