انطلقت اليوم، الخميس 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، في العاصمة التونسية أعمال المؤتمر السنوي الثامن لقضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي، الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات هذا العام بعنوان العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية“.

الجزء الأول

هذا المؤتمر الذي استقر كتقليد أكاديمي للمركز العربي بات المساحة الأبرز لالتقاء الباحثين العرب للتفكير والنقاش حول قضايا الديمقراطية والتحول الديمقراطي في منطقتنا.

بهذا التوكيد افتتح الدكتور مهدي مبروك، مدير المركز العربي – فرع تونس، أعمال المؤتمر. وأضاف في كلمته أن موضوع العدالة الانتقالية يستأهل عربيًا الاهتمام العلمي الكبير، ما حدا بالمركز تخصيص مؤتمر يقارب الموضوع من زوايا عديدة ومتشعبة.

واختتم مبروك بأن الإجابة عن سؤال العدالة الانتقالية؛ نجاحها وتعثرها، يكشف عن قدرة المجتمعات على استدعاء مخزونها الفكري والقيمي، كما يكشف موضع العدالة الانتقالية في تعزيز مسارات الانتقال الديمقراطي.

وفي كلمته الافتتاحية، قدّم الباحث في المركز العربي ومنسق مشروع التحول الديمقراطي فيه، عبد الفتاح ماضي، استعراضًا لمسار تنظيم هذا المؤتمر، فبيّن أن فعالياته التي تستمر على مدى ثلاثة أيام متتالية تتضمن عرض أكثر من عشرين ورقة بحثية اجتازت عملية التحكيم، فضلًا عن ثلاث جلسات يستعرض فيها خبراء عرب ودوليون خبرات وشهادات تخص التجارب الإقليمية والدولية.

واستعرض ماضي ما وصفه بالتساؤلات الإشكالية التي تواجه الباحث العربي المعني بموضوعات العدالة الانتقالية، ومنها سؤال الترتيب بين العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي، أيهما يسبق الآخر؟ وهل ينبغي للعدالة الانتقالية أن تمتد لتشمل العدالة الاجتماعية؟

إضافة إلى سؤال مهم يبدو جديرًا بالدرس متعلق بالبعد الإقليمي والدولي للانتهاكات الحقوقية؛ ذلك أن جل الانتهاكات تتم في سياق ما يسمى الحرب على الإرهاب، فضلًا عن أن طرق القمع صارت تحاكي ممارسات الاحتلال الصهيوني وسياسات القوى الاستعمارية سابقًا. واستعرض أخيرًا سؤالًا مُلحًّا يتعلق بكيفية تعزيز أهداف العدالة الانتقالية عبر الاستفادة من القيم والثقافات المحلية.

وفي المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر، نوّهت سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة في تونس، بأهمية تجربة العدالة الانتقالية التي عرفتها البلاد، كما أشادت بصدور قانون تأسيس الهيئة، ودسترة وجودها.

وشددت بن سدرين على أن عمل الهيئة كان مرتبطًا بالأساس بإحداث الإصلاحات، في حين أن المصالحة هي مهمة سياسية ومن مسؤولية الدولة والحكومة، وأن توصيات اللجنة ملزمة لهما.

وبينت مميزات عمل اللجنة، واستعرضت جهودها، ومنها الاستماع لأكثر من 50 ألف ضحية، وتطبيق برنامج شامل لجبر الضرر والتعويض، كما كان من الاستحداثات تمديد برنامج جبر الضرر للمناطق التي عانت التهميش الاجتماعي، والنظر إليها باعتبارها ضحية كذلك.

كما لفتت الانتباه إلى بعض الانتهاكات، منها: المتخلفة عن الاحتلال الفرنسي، والديون اللاشرعية التي تطالب بها فرنسا، والاعتذار لضحايا الاحتلال؛ أفرادًا ودولة، والتعويض عن ذلك.

وعرجت بن سدرين على عديد التحديات التي عانتها اللجنة، ومنها ما يتعلق بالنفاذ إلى أرشيفات بعض الهيئات العامة والخاصة، ومنها وزارة الداخلية، التي لم توافق على فتح أرشيفها.

كذلك بيّنت أبعاد صراع اللجنة مع بعض الهيئات من أجل تحقيق وضمان استقلالها. وانتهت بن سدرين بطرح بعض الرؤى عن مستقبل العدالة الانتقالية في تونس.

العدالة الانتقالية: حالات عربية

في الجلسة الأولى عُرضت جملة من الشهادات والخبرات من حالات عربية تعثّرت خطواتها في سبيل العدالة الانتقالية، مع تعثّر انتقالها إلى الديمقراطية.

وقد قدّم رئيس الجلسة، غانم النجار، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، لأهمية التعرف عربيًا إلى أبعاد موضوع العدالة الانتقالية وتجاربها في سياق مقارن.

وقدّم المتحدث الأول معتز الفجيري، الأمين العام للمنبر المصري لحقوق الإنسان، شهادته التي تتبّع فيها مراحل تعثرت فيها مبادرات العدالة الانتقالية في ما بعد سقوط مبارك، بدءًا بحكم المجلس العسكري ومرورًا بسنة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، وصولًا إلى الانقلاب العسكري.

كما استعرض الفجيري عديد الارتباكات التي لفّت مشهد العدالة الانتقالية المصري، وبيّن الإعاقات التي جاءت من طرف المجلس العسكري، وتلك التي جاءت من البنية القانونية والدستورية للدولة التي لم تستوعب ضرورات العدالة الانتقالية، كذلك الإعاقات من المؤسسات التي ارتبطت أدوارها بالانتهاكات، حيث عمدت إلى إخفاء البيانات وإعاقة التحقيقات، لفائدة مَن هم في السلطة.

وساق الفجيري مثال المحاكمات التي شملت المتهمين من النظام السابق، ولاحقًا طاولت قوى الثورة، وكيف عكست أحكام القضاء تبنّي أجندة سياسية، ظلت تعزز دومًا خطاب الثورة المضادة الذي يزعم بأن ما جرى في كانون الثاني/ يناير 2011 قد وقفت وراءه قوى متآمرة.

وتساءل الفجيري عن كيف يمكن إنتاج خطاب الحقيقة ومضاداته منذ عام 2011.

ثم قدّم الأكاديمي السوداني والخبير بالأمم المتحدة محمد عبد السلام بابكر، عرضًا لسؤال العدالة الانتقالية في سياق ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018 في السودان، وتطرق إلى الوثيقة الدستورية التي وقّعتها قوى الثورة مع المجلس العسكري، مبيّنًا بعض عيوبها ومميزاتها.

كما بيّن بابكر أن أي نظام للعدالة الانتقالية في المستقبل في السودان سيواجه العديد من التحديات، نظرًا إلى تعقّد الوضع السياسي فيه، منها تشكيل المحاكم، إضافة إلى إشكالية تحقيق السلام والعدالة معًا؛ ذلك أن المحاكمات قد تدفع العسكريين إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي.

ونوّه أخيرًا بسؤال الأولويات ومن أين نبدأ، باعتباره من التحديات الكبرى أمام السودان في ظل الإرث الكبير من انتهاكات حقوق الإنسان والاستبداد.

أما مصطفى عمر التير، الأكاديمي الليبي في علم الاجتماع والمعني بقضايا المصالحة في ليبيا، فقدّم عرضًا شاملًا لمسيرة المصالحة في ليبيا في سياق مسار العدالة الانتقالية التي جرت في عهد ما بعد القذافي، مشيرًا إلى أن أبرز الانتهاكات تمّت بعد انقلاب 1969، لكنه أشار أيضًا إلى أن انتهاكات عدة ارتكبت بعد ثورة 17 فبراير 2011، بالنظر إلى أنها اتسمت بالعنف والتدخل الخارجي.

وعرض التير عددًا من العقبات، أهمها تعدد الأطراف المعنية، وعدم وعيها بأهمية العدالة الانتقالية، وعدم وجود إرادة سياسية، هذا فضلًا عن الصراعات داخل المؤسسات السياسية الرسمية، وصعوبة اتفاقها على الملفات السياسية المختلفة.

_______________

مواد ذات علاقة