في الوقت الذي تزايدت فيه الانتقادات ضد واشنطن لتخليها عن شركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في ليبيا بعد هجوم أسفر عن مقتل سفيرها هناك، كانت روسيا قد بدأت فعلياً في ملء هذا الفراغ.

ويعد نفوذ موسكو المتزايد في سوريا وسط ما تشهده من حرب أهلية ودخولها في النزاع الدائر في ليبيا لصالح خليفة حفتر، من بين التطورات الإقليمية المهمة بلا شك.

هجوم بنغازي بداية التراجع

في أعقاب هجوم 11 سبتمبر 2012 على مجمع دبلوماسي أمريكي في بنغازي، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة موظفين أمريكيين، بينهم السفير كريستوفر ستيفنز، وعدد من ضباط الأمن.

أدى هجوم بنغازي وتداعياته إلى تغييرات هائلة في سياسة الولايات المتحدة تجاه ليبيا، وأثار انتقادات الجمهوريين لإدارة أوباما، واتهامهم للأخير ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بتعمد تضليل الرأي العام وعرقلة تحقيقات الكونغرس.

ورغم إعلان كلينتون قبولها بالمسؤولية عن الهجوم، ردا على الانتقادات الجمهورية خلال عام 2015 في مجلس النواب الأمريكي، فقد اتهمت الجمهوريين باستغلال مقتل الدبلوماسيين في ليبيا لتحقيق مكاسب سياسية.

ولم تتمكن كلينتون رغم كل الجهود التي بذلتها، من الحيلولة دون تحول هجوم بنغازي إلى صفعة كبيرة لحياتها السياسية، لاسيما مع خسارتها الانتخابات الرئاسية على نحو غير متوقع لصالح ترامب.

وخلال حملتها الانتخابية، تم التحقيق في رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون إلى البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي، وتبين أن كلينتون استخدمت عنوان بريدها الإلكتروني الشخصي خمس مرات لمشاركة معلومات عن الموقع الدقيق للسفير الأمريكي في ليبيا الذي قُتل في الهجوم.

إضافة إلى ذلك، فإن رفض كلينتون للطلبات المتكررة لتعزيز الاحتياطات الأمنية قبل الهجوم عزز اتهامات لها بإهمال واجباتها.

تحول في السياسة الأمريكية

يعكس تعيين الجنرال كارتر هام، الذي كان قائداً للتحالف الدولي والعمليات في ليبيا عام 2011، رئيساً للقيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) وشن عمليات في البلدان المجاورة ضد تنظيم القاعدة، تحولا في السياسة الأمريكية.

وفي هذا الصدد، قال هام إن هناك مؤشرات قوية على أن بعض المتشددين الذين نفذوا هجوم بنغازي كانوا مرتبطين بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وأن ذلك التنظيم وحركة “الشباب” في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا كانوا يحاولون العمل مع تنظيمات إرهابية أخرى في القارة الإفريقية.

ونتيجة لذلك، قلصت الولايات المتحدة وجودها وأنشطتها في ليبيا إلى عمليات محدودة من خلال “أفريكوم”.

ومنذ ذلك الوقت تطور موقف واشنطن تجاه الحرب في ليبيا إلى استراتيجية “انتظر وشاهد”، مع دعمها الجهود الأممية في ليبيا للتوصل إلى حل سياسي تفاوضي منذ عام 2014.

وتابعت الولايات المتحدة التطورات عن بُعد وقصرت أنشطتها على محاربة الجماعات الإرهابية مثل “داعش” وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي .

لكن التدخل الروسي كان حافزا مهما دفع الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها تجاه ليبيا.

هجوم طرابلس وتحالف حفتر مع روسيا

على الرغم من مرور ثماني سنوات على ثورة 2011 التي أنهت نظام القذافي، لاتزال البلاد تكافح مع النظام القديم ولم يتم بناء نظام ديمقراطي مستقر بعد.

ولم يحرز حفتر حتى الآن تقدماً ميدانيا في الهجوم على طرابلس والتي بدأها منذ أبريل الماضي، مما أثار بعض المخاوف بشأن التحالفات الوطنية والدولية.

وكانت هزيمة قوات حفتر في أبريل من قبل قوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في منطقة صبراتة و العزيزية، والتي أدت إلى نكسة في خططه الخاصة، نقطة تحول في سياق الحرب، وكشفت عن وجود مرتزقة روس معه. وقد تواترت تقارير تفيد بخضوع قواعد عسكرية لسيطرة المرتزقة الروس.

بالإضافة إلى ذلك، طبعت مليارات من الدينار الليبي في روسيا إلى سلمت لبنك ليبيا المركزي الموازي في البيضاء في اكتوبر الماضي

وتعد ليبيا مهمة للغاية بالنسبة لروسيا كموطئ قدم عسكري في المتوسط، تمكن بوتين من توسيع مجال المناورة في السياسة العالمية.

احتمالية تحول روسيا إلى جهة فاعلة حاسمة في ليبيا تنطوي على خطر التأثير على قضايا مثل إمدادات الطاقة المتوسطية وراء سعيها للهيمنة على نفط ليبيا.

هذه العلاقة الوثيقة التي طورها حفتر مع موسكو مالياً وعسكريا حشدت ضدها الجهات الدولية الفاعلة التي كانت وللمفارقة تنتظر سيطرة حفتر على البلاد. وكثفت تلك الجهات جهودها لاستئناف المفاوضات، ودعت إلى حل سياسي لموازنة النفوذ الروسي المتزايد.

دفع تورط روسيا في المعادلة الليبية، اميركا إلى إعادة النظر في دعمها لحفتر. وكانت ليبيا بنداً هاماً في جدول الأعمال خلال اجتماع وزيري الخارجية الأمريكي والإيطالي في 1 سبتمبر الماضي. وصرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، أنه في إطار القضايا المتفق عليها في مؤتمرات باريس وباليرمو وأبو ظبي حول ليبيا، يجب اعتماد وقف لإطلاق النار وحل سياسي.

ووسط كل هذه الزخم الدبلوماسي، فإن التطور الذي تم تجاهله هو أن واشنطن عمدت إلى تعديل سياستها الخارجية تجاه ليبيا.

ويمكن اعتبار زيارة نائب رئيس البعثة الأمريكية في ليبيا، جوشوا هاريس، إلى بنغازي في أكتوبر الماضي مطالبا بإنهاء الحرب في طرابلس، بمثابة عودة للسياسة الخارجية الأمريكية إلى المربع الأول بعد هجوم بنغازي. كذلك لم يغب الوجود الروسي في ليبيا عن اجتماع بين بومبيو وبن زايد في نوفمبر المنصرم.

وحاولت أميركا التصالح مع ليبيا من خلال دعم حفتر، إلا أنه بات بالإمكان قيام “تبني” قائد بديل في ليبيا بعد اتصالاتها الوثيقة مع الأطراف الفاعلة. خاصة في ظل استعداد روسيا لاتخاذ خطوات أكثر نشاطا لتحقيق نفوذ كبير في بلد نفطي.

***

بوتين في ليبيا.. يهدد الناتو وأوروبا ومصالح مصر والإمارات

ورد في مقال نشرته إندبندنت البريطانية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حوّل انتباهه إلى ليبيا في إطار سعيه لتهديد حلف الناتوبعد تفوقه على الغرب في سوريا، وتوقع أن يشكل الوجود الروسي هناك أكبر ضرر بمصالح مصر والإمارات.

وذكر المقال الذي كتبه أحمد عبده، أن ما يجري بليبيا حاليا هي جولة جديدة من لعبة شطرنج الشرق الأوسط، التي تبدو فيها واشنطن في موقف الدفاع مرة أخرى.

وأوضح الكاتب أن مسؤولين أميركيين وتقارير كشفوا أن الروس يكدسون القوات والأسلحة والمرتزقة، مضيفا أنه يبدو قبل كل شيء أن الروس يضعون قواعد في ليبيا لثنائي إستراتيجي مع الأتراك على غرار القواعد التي أتُبعت بشكل جيد للغاية في تقسيم النفوذ بين البلدين في سوريا، الأمر الذي ترك الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبدو غبيا.

ملء الفراغ

واعتبر الكاتب ليبيا دليلا آخر على أن سياسة التقاعس التي تسعى إدارة ترامب لاتباعها هي أكبر رصيد إستراتيجي يمتلكه بوتين الذي يحاول التأكد من أن موسكو تسد الفراغ في القيادة الذي خلفته سياسة ترامب.

وقال الكاتب إنه وبعد أربع سنوات من دعمها للواء المتقاعد خليفة حفتر، أدخلت روسيا طائرات مسيرة ومدفعية وقوات برية لتشكيل النتيجة النهائية للحرب في ليبيا. وفوق تمتعها بحق النقض على أي قرار محتمل بشأن ليبيا، تحاول روسيا حصار الناتو من الجنوب، ومن المؤكد أن هذه الخطوة الإستراتيجية قد أقلقت أوروبا.

كما أن روسيا وفي سعيها لتجهيز موطئ قدم لها في ليبيا، تبحث حاليا للحصول على فرصة الوصول للموانئ الليبية الإستراتيجية على البحر المتوسط لفتح الطريق أمام المزيد من التوسع لنفوذها في أفريقيا، والتأثير على تدفق المهاجرين الأفارقة نحو أوروبا.

وهذه واحدة من مشاكل أوروبا التي ترغب روسيا في التمتع ببعض القدرة للتأثير عليها، بالإضافة إلى العودة بليبيا إلى عهد العقيد الليبي الراحل معمر القذافي كسوق عامرة للأسلحة الروسية، كما يقول الكاتب.

اللعبة الروسية المزدوجة

وأضاف أنه من الخطأ التفكير بأن روسيا تستهدف في ليبيا دعم قوات حفتر. ففي الواقع، يقول عبده إن موسكو تلعب لعبة مزدوجة على طرفي الحكم في ليبيا وتخوض فيها بعناية انتظارا للطرف المنتصر في نهاية الأمر للتحالف معه.

ولفت الكاتب الانتباه إلى ما أسماها بنقلة جديدة في الصراع بليبيا وهو ما يمكن أن يتحول إلى شراكة خطرة بين موسكو وأنقرة نسجا على منوال إستراتيجيتهما المشتركة في سوريا التي استهدفت إبعاد الجميع وتقسيم الغنائم بينهما.

وقال إن تركيا تدعم ما لا يزال بالإمكان وصفها بأنها معارضة سورية معترفا بها من الغرب ضد الأسد، وتلقي بثقلها وراء حكومة ليبية مدعومة من الغرب ضد رجل قوي آخر ينشر قوة عسكرية للسيطرة على المدن الكبيرة.

ولكن كما هي الحال في شمالي سوريا، فإن التردد الغربي قد يعني أن موسكو وأنقرة ستتمتعان بنفوذ كبير.

أكبر خدعة لمصر والإمارات

وفي توقع نادر، قال الكاتب إن مصر ودولة الإمارات اللتين تدعمان حفتر، ستتعرضان لأكبر خدعة إستراتيجية في المنطقة. فهما كأكبر منافسين لتركيا، ظلا يعتقدان أن تدخل موسكو في ليبيا ربما يشكل تحولا إستراتيجيا لصالح حفتر للسيطرة على طرابلس، لكن تطلع موسكو للمزيد من النفوذ من الممكن أن يعود بالوبال على المصالح المصرية الإماراتية في ليبيا.

وأضاف أنه وبينما تأمل هاتان الدولتان في حدوث اختراق ينتهي بتسوية سياسية، تهدف موسكو وأنقرة إلى إبعاد الحل السياسي وإدارة الصراع بدلا من وضع نهاية له، لأن بوتين، وفي أثناء عملية تنصيب نفسه وسيطا جديدا وصانعا للملوك في ليبيا، يحتاج لوقت للاحتكار الكامل للسلطة في ليبيا.

_____________

مواد ذات علاقة