بقلم علي عبداللطيف اللافي

بغض النظر عن التفاصيل التقنية والفنية والاجرائية والبروتوكولية، من الواضح أن هناك تجاذب وجدل دولي وإقليمي توضحت معالمه بعد امضاء حكومة الوفاق وتركيا اتفاقية مشتركة.

ومن الجلي للعيان ان الامر يتجاوز امضاء اتفاقيات بروتوكولية تُمضى بين كثير من الدول في مشارق الأرض ومغاربها، فما هي حيثيات الامضاء وماهي ملابساته في علاقته بصراع المحاور والعوبة لعبة توازن القوى محليا وإقليميا ودوليا في النزاع الليبي المحتدم منذ منتصف سنة 2014؟

1- تركيا وأمريكا علاقات الغموض وجدلية الدور الوظيفي/الشراكة

مما لا شك فيه أن الاشكالات السابقة للأمريكيين مع “تركيا/اردوغان” هي طموحات الرجل واستراتيجيات حزبي “العدالة التنمية”/”الحركة القومية” في الخروج البين من جبة الدور الوظيفي.

ذلك أن الأمريكيين وعلى عكس قوى دولية وإقليمية أخرى ليس لهم مشكلة مع هوية الحزب الحاكم او ايديولوجيا التي تحكم اردوغان أو حزبه أو نظام حكمه، بل أن مشكلتهم الرئيسية الأولى والأخيرة هي مصالحهم وآليات خدمة استراتيجيتهم وبالدرجة الأولى الحفاظ على مصالحهم.

وما يثبت الامر ويدعم الفكرة أن لقاء “ترامب/اردوغن” في قمة العشرين في نهاية يونيو/جوان الماضي أو لقاءات الرجلين في واشنطن في منتصف نوفمبر الماضي قد وضحت العلاقة وعدد من المفاهمات والاتفاقيات في كبرى الملفات والنقاط العالقة خاصة بعد عملية الأتراك في الشمال السوري والتي أوجدت تقاطعات وخلافات بين الأتراك والامريكيين حولها.

والخلاصة ان “أردوغان” في رأينا قد عدّل خلال الأشهر الماضية من سُرعة لعبه أدوارا كبرى خارج مربعات الأدوار الوظيفية وفي نفس الوقت منحت الإدارة الأمريكية أو هي مستعدة لمنح مساحات مستقبلية للأتراك ورفعت عددا من محظوراتها الاستراتيجية حول تركيا وهي إدارة تحترم من يحافظ على سيادة بلده والتمسك بأدواره التاريخية والاستراتيجية.

هذا امر يتقنه “أردوغان” ونظامه منذ سنوات، والثابت المهم في كل ما يعنينا أن الملف الليبي كان أهم مربعات المفاهمات في خطوطه الكبرى طبعا في لقاءات الرجلين أو في التواصل الأمريكي التركي كلاسيكيا.

2- لعبة الاستقواء بالكيان واللوبيات الصهيونية في العالم ونسبيتها

أ يعتقد بعض الوظيفيين العرب على غرار حلفاء حفتر المحليين وبعض اطراف إقليمية واغلب الدول العربية وصانعي السياسات فيها أن أمريكا وفرنسا وروسيا هي دول طيعة ويستطيع الكيان الصهيوني تطويع سياساتها بالكامل لصالح أهدافه ومطامح حلفائه المباشرين.

وفي الحقيقة فان ذلك الامر قاصر وخاصة في جزئه الثاني ويتمثل القصور في فهم ابجديات رقع الشطرنج، ذلك ان الصهيونية العالمية وبعض محافل على غرار الماسونية والبهائية ونوادي ومنتديات أخرى مرتبطة بهما ما هي الا أدوات وظيفية وان كانت متحكمة في مربعات المال وبعض الشركات العابرة للقارات وان هناك تقاطع مصالح وتداخل في الأهداف والاستراتيجيات.

ب بما يغيبه من بعض الوظيفيون العرب وخاصة الخليجيين، هو أن العملية في العلاقات وصنع السياسات ليس خطية بالدرجة التي يتصورونها والدليل على ذلك التجربتين الماليزية والباكستانية وقبل ذلك التركية.

ت– الثابت أن الكيان الصهيوني ليس مجرد دولة لها أذرع أخطبوطيه فهي مؤثرة فعلا ولكن لها أيضا حسابات استراتيجية تحكمها وتؤثر فيها وفي صنع سياساتها ومواقفها وأين تتدخل بنعومة وأين تباشر الضغط وهي تفرق جيدا بين الاستراتيجي والتكتيكي لأنها أولا وأخيرا دولة دينية أي أن حساباتها تبنى على عقود ووفقا لاستراتيجيات طويلة المدى ولها خطط تنفيذية تنزل على المدى المتوسط والقريب.

ث النقطتين سالفتي الذكر تؤكدان أن الصهاينة يحتقرون أولا وأساسا من يقوم بأدوار وظيفية لهم وخاصة في الملفات ذات الابعاد السياسية المرتبطة بالمدى القريب او المتوسط لأنهم في رأيهم قابلين للاستهلاك والمسك والتوظيف بآلية سريعة وبناء على عامل ضعفهم ودناءتهم.

وثانيا هم لا يربطون أنفسهم باي ملفات لا تخدم استراتيجياتهم المستقبلية أو أهدافهم المباشرة الخاصة بهم ويعتبرون ما عدا ذلك ساع إليهم بنفسه، وهم وفقا للقاءاتهم قادرون على توظيف أولئك مستقبلا وقد يظهر في التوظيف الإعلامي والسياسي الظاهر انهم متموقعون ومهتمون.

وذلك يعني بالأساس أن الصهاينة في ليبيا بالذات أهدافهم أكثر استراتيجية ولها مسالكها في السنوات القادمة وبآليات أخرى بعيدة المدى عن الظرفي الحالي في المتوسط وذلك لا يعين انهم لن يتموقعوا عبر آليات وأشخاص آخرين في الحل المرتقب وبالتالي لا يعنيهم البتة بشكل مباشر أن تكون تركيا عامل توازن في الصراع الإقليمي حول ليبيا .

ج لا يفكر الصهاينة بنفس آليات بعض دول وظيفية وعربية ضعيفة وبقوى حالمة بركوب موجتهم ويتجهون لخصومها بل وفي فضحها بآليات عدة حتى يبقوا في محيطها الخدمي وتطويع أولئك الوظيفيين وايهاهم بتحالفات مرحلية معهم.

وفي رأينا ان ذلك ينطبق على القوى التي لا تؤمن بالسيادة لأوطانها وبحوار وطني بين مكوناته وبعدم الايمان بالمسارات التحول الديمقراطي.

3- السراج رجل مرحلة أم خيار استراتيجي، ولماذا أقدم على امضاء الاتفاقيات

أ فائز السراج لم يمض الاتفاقية الا بعد لقاء الأمريكيين في البحرين، وهو يعلم ويعي دوره وأدوار حكومته، وأدوارها المرحلية وهو يعرف انه ليس الطرف القوي في المنطقة الغربية لا جغرافيا بل سياسيا.

ولذلك كان الوزير “باشاغا” و”سيالة” هما من سافرا الى واشنطن في مناسبتين خلال سنة 2019 (يناير – نوفمبر)، وأن أي تفاهمات مستقبلية بين طرفي الصراع فان وزير داخلية السراج المعين في أكتوبر 2018:

ـ هو الرقم الصعب في معادلة المفاهمات والتفاهمات والاتفاقيات التي على علاقة بملفي الأمن والدفاع الليبيين.

ـ وأن قوات بركان الغضب فهمها السياسي وطموحاتها هي الدفاع عن مدنية الدولة واسقاط خياري “سيسي ليبيا” و”القذافي2″. وهو ما يتوفر في قناعات الوزير او الرجل المهم في المربعات المستقبلية والذي يستطيع أن يحجم دور حفتر في كلا حالتي الحرب او السلم ويمنحه فقط وربما مكانا شرفيا في أي معادلة مفاهمات ينتظر ان تكون في الجولة الثانية لبرلين في 15 ديسمبر الحالي أو في أبريل او سبتمبر 2020 .

وذلك وفقا لوتيرة تحرك الأمريكيين او محاصرتهم لبقية القوى الدولية الفاعلة بعد أن تركوها تتحرك وتبادر ميدانيا وسياسيا في ليبيا وفي الملتقيات الدولية الخاصة بليبيا.

وهو أمر يتكامل مع أدوار يقوم بها الأنجليز ويتقنونها والذين نعتقد أنهم سيكونون مصاحبين للألمان في التعاطي مع الملف الليبي مستقبلا في حين سيكون للدول المغاربية أدوار مهمة واساسية وخاصة المغرب باعتبارها تمتلك مفاتيح أبجديات المفاهمات بين الفرقاء الليبيين لأسباب تاريخية وبناء على معطيات اتفاق الصخيرات، والذي أتى بالسراج ليكون رجل مرحلة.

ب– تعقد الازمة اطال تواجد السراج كرئيس للمجلس الرئاسي، وهو واقعيا لن يغادر الا اذا وجد البديل على حد عبارات سفير أجنبي في ليبيا، ولكن تلك هي المشكلة فالبديل لا يظهر في الأفق حاليا رغم وجود أسماء ومسميات للشخص وللحل النهائي للمرحلة الانتقالية والتي نعتقد انها ستدوم سنتين تحت مسمى الخط الثالث أي عبر ابعاد كل الوجوه الجدلية من المشهد أثناء المرحلة الانتقالية الأخيرة.

ت– مما لا شك فيه أن السراج قد عقد مفاهمات مع أطراف عدة منها المعلوم ومنها غير المعلوم ، وهو ما قد يحوله الى رجل استراتيجي وهو أمر محبذ لدى كل الأطراف بمن فيهم حلفاء حفتر الإقليميين والدوليين، ومن يعتقد أن الرجل لم يتطور أو غير ملم بملفات الازمة وتعقداتها ومفاتيحها فهو خاطئ.

ويكفي معرفة ان شقيقه قنصل ملم بالأدوار والقضايا وهو أمر ينطبق على كل المقربين منه عائليا واستشاريا، إضافة الى ان بعض مساعديه الرئيسيين يقدمون له أهم النصائح والحلول كما يفتح له بعض منهم أبواب علاقات خارجية مهمة، وهو أمر يفتقده حفتر وخاصة بعد مغادرة محمد البصير وحجازي وآخرين.

ح السراج سيكون في مربع المشهد المستقبلي في ليبيا، ولذلك أمضي الاتفاقيات وهو ملم بتفاصيلها وابجدياتها ولكن دوره ربما يكون شبيه بدوره الحالي ولكنه قد لا يكون مستقبلا رئيسا للرئاسي وخاصة في ظل تركيبة ثلاثية مفترضة وأيضا قد يغادره لرئاسة حكومة وحدة وطنية وذات صلاحيات واسعة جدا وأيضا قد يكون وزيرا للإسكان أو أي حقيبة مهمة وذات علاقة بإعادة اعمار ليبيا أو حوكمة ملفات الطاقة والثروات الهائلة والنادرة.

خ كل النقاط سالفة الذكر مهم في فهم أدوار الرجل المستقبلية واقدامه على الخطوة أي امضاء اتفاقيات مع تركيا التي لا يرتاح لها فريق حفتر وحلفائه الإقليميين والدوليين وذلك سؤال لابد من الإجابة عنه، والسراج له أضواء خضراء لقطع مراحل تكتيكية تخدم ظرفية ليبيا ومستقبلها وقبل ذلك هو رجل وفاق ولكن السؤال أي وفاق فهو لم ولن يكون رجل استراتيجي بناء على معادلات الصراع الدولي وبمفاهيم أخرى غير ظاهرة في مربعات الاعلام ومراكز الدراسات.

وهو أمضى الاتفاقيات من أجل هدف واحد وبيّن ومتفق عليه وهو الحفاظ على وحدة المنطقة الغربية أولا وحتى لا يستثمر احد غيره انتصارات الدفاع عن خيار مدنية الدولة وأما باقي الأشياء فهي تفاصيل لكل ذلك.

4- ردود الأفعال الرافضة لا قيمة اعتبارية لها ومصالحة وطنية في أفق نهاية سنة 2020 

أ– الثابت أن الأمريكيين كانوا على علم بتفاصيل الاتفاقيات بغض النظر عن وجود مذكرات تفاهمات معلنة من عدمه، وأن الاتفاقيات تحقق لهم في ظل التوازنات الدولية الراهنة الكثير سواء استراتيجيا أو تكتيكيا وكل ذلك في إطار لعبة مصالحهم في ظل التوازنات الجديدة (التواجد الروسي مثالا للذكر لا الحصر)

ب المطالبة بحل المجلس الرئاسي التي قد يعمد له عقيلة صالح في اطار زيارته للسعودية مثلا وما قد يعلن عنه مجلس نواب طبرق بين الفينة والأخرى، أو حتى مواصلة خارجية “الثني” عبر الاستقواء باللوبيات الصهيونية في أمريكا لم ولن تنفع في إيقاف الحل السياسي وفي قبر نهائي مرتقب للحل العسكري بناء على قناعة كل الأطراف بتوازن الضعف بين كل مكونات الصراع محليا وإقليميا ودوليا. وهي في الأخير مطالبات لا قيمة لها ولو وجهت للجامعة العربية أو الاتحاد الافريقي وخاصة بعد بيان مجلس الامن الدولي مساء الاثنين الماضي.

ت لن تفلح خطوات الاماراتيين والمصريين في اللعب على الهوامش مثلما كان ذلك بعد “باريس1″و”2″ وباليرمو و”أبو ظبي 1″ و”2” خاصة وان سنة 2020 هي سنة انتخابات إضافة الى وضعية حفتر العسكرية على الأرض ووضعه الصحي وطبيعة محيطه العائلي والاستشاري وطبيعة الوضع الاجتماعي في شرق الليبي القابل للانفجار في كل لحظة.

ث عدم وجود أي جهة قابلة للانحناء لحفتر والانقلاب على الوفاق رغم المحاولات الجارية مع ورفلة في بني وليد ورغم تنظيم بعض زيارات لبعض امازيغ لا تمثيلية لهم للرجمة، كما أن جزء من مداخلة المنطقة الغربية لم يعودا مداخلة أصلا بين من بقي هي أطراف ضعيفة وتوظيف البعد القبلي في الولاء لجهات حليفة لحفتر وهي أساسا مكونات رئيسية في تيار أنصار القذافي مما يعني عدم قدرتها على التحرك سياسيا وهي تحلم أن يدخل حفتر العاصمة للتحرك لمساندته.

ج المصالحة بين الليبيين بالمعنى الشامل والساعية لدفن آلام الماضي وبناء دولة ومستقبل جديد اما حاصل وان لم يكن غدا فبعد غد، وهي قدر الليبيين جميعا وبالتالي فاللجوء لمنطق القوة والحكم بالقوة امر انتهى في ليبيا منذ 2011 ولكن لابد من اصلاحات ومصالحات ومصالحة وطنية شاملة وجامعة لليبيين كل الليبيين مهما كانت قناعاتهم أو مدنهم أو قبائلهم.

ح كل ما سبق ذكره وان كان ليس له أي علاقة مباشرة بالاتفاقيات، فانه عمليا أدى اليها وسيكون من نتائجها وفقا لاستراتيجيات لجنة السياسيات في حكومة الوفاق ووفقا لحوارات ولقاءات ومشاورات قام بها كل من “المشري” و”سيالة” و”باشاغا” وبعض الليبيين لا يريدون الظهور امام الشاشات ولكنهم يريدون ليبيا مدنية وموحدة وقوية أيضا ويريدون المنوال التونسي في التوافق والديمقراطية وليس وفقا لتجربة الانقلاب في مصر السيسي.

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

_____________

المغاربي للدراسات والتحاليل

مواد ذات علاقة