تتسارع التحركات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق في وجه الهجوم الذي تشنه قوات حفتر بدعم عسكري من الإمارات ومصر وروسيا عبر الطائرات المسيرة والمعدات العسكرية والمرتزقة الذين يتم حشدهم ضمن قوات حفتر.

وبعد تعهد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتقديم الدعم لحكومة الوفاق بطرابلس في الحرب الأهلية الليبية، يفكّر الخبراء الاستراتيجيون بأنقرة مليّاً في سيناريوهات نشر الجنود بليبيا، الدولة غير الحدودية التي تبعد عن تركيا بنحو ألفي كيلومتر والمحاطة بخصوم إقليميين لأنقرة مثل مصر واليونان، وفي ضمان سلامة القوات خلال مهمتها هناك.

ووافق البرلمان التركي، الخميس 2 يناير 2020، على مذكرة تفويض للرئاسة لمدة عام، يسمح بتقديم دعم متنوع، بما يشمل إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا؛ لدعم حكومة الوفاق في مواجهة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.

وقال مصدر أمني تركي رفض الكشف عن هويته، لموقع الأمريكي (المونيتور) «إذا كان الأمر يتوقف على إرسال 150 إلى 200 جندي، وهو العدد الذي يتسع نقله بواسطة طائرة نقل عسكرية، إلى مهمة غير قتالية في ليبيا، وكانت حمايتهم لا تحتاج أسلحة ومعدات ثقيلة، فلن تكون هناك مشكلة. سوف تكون المهمة سهلة».

لكن، استناداً إلى التصريحات الأخيرة لكل من الرئيس التركي وحكومة الوفاق الوطني، فإن ما يفكرون فيه أكثر من مجرد مهمة تدريب وتجهيز محدودة.

من الواضح أن حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً تتوقع مساعدة في تحقيق الأهداف التالية:

إيقاف زحف قوات خليفة حفتر نحو قلب طرابلس، بشكل حازم وقاطع.

توفير قوة دورية بَحرية؛ لحماية طرابلس من ناحية البحر.

إنشاء «منطقة حظر جوي» في المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني؛ لحمايتها من قوات حفتر، الذي يسيطر بشكل كبير على القوات الجوية الليبية.

وتعتقد حكومة الوفاق الوطني أن هذه الأهداف هي ما ستوفر لها الحماية من هجمات حفتر وتضمن لها البقاء السياسي.

وما تتوقعه بعد ذلك من أنقرة هو فتح قناة حوار مع روسيا، كما هو الحال مع محادثات أستانا حول الوضع السوري، من شأنها خلق منصة ومناخ دبلوماسي تتمتع فيه حكومة الوفاق الوطني باليد العليا في مفاوضاتها مع حفتر.

باختصار، كانت الاستعدادات العسكرية بأنقرة تهدف إلى نشر وحدة غير قتالية يصل عددها إلى 200 جندي، في مهمة تدريب وتجهيز، ولكن ما طلبته حكومة الوفاق الوطني من تركيا، الأسبوع الماضي، هو قوة عسكرية قتالية شاملة تضم عناصر برّية وبحرية وجوية.

ووفقاً لمصادر أمنية تركية، فإن تلبية مطالب حكومة الوفاق الوطني تتطلب نشر عناصر جوية تتألف من ست إلى ثماني طائرات من طراز (إف 16) على الأقل، إلى جانب نظام الإنذار المبكر والتحكم المحمول جواً (أواكس)؛ وعناصر بحرية تتألف من فرقاطة، واثنين أو ثلاثة من الزوارق الحربية، وغواصة أو اثنتين لأغراض التأمين ومنع الوصول إلى مناطق معينة؛ وقوة برية بحجم لواء جيش، أي نحو 3 ألاف جندي يتمتعون بالخبرة القتالية، وتضم عناصر قوات مدرعة والمشاة وعناصر الدعم غير المباشر.

وقال أردوغان يوم 26 ديسمبر 2019، إنه «يقبل دعوة» مشاركة القوات التركية في ليبيا، مشيراً إلى استعداد حكومته لتلبية طلبات حكومة الوفاق الوطني في طرابلس.

وتنص المذكرة على أن مدة التفويض ستكون عاماً واحداً قابلة للتمديد، وفقًا للمادة 92 من الدستور التركي المتعلقة بإرسال قوات عسكرية إلى دول أجنبية.

وكان أردوغان حريصاً على الحصول على موافقة البرلمان في توقيت ملائم، لتكون ورقة رابحة خلال محادثاته مع الرئيس الروسي حول الشأن الليبي.

إلا أن الموافقة البرلمانية تقتصر على نشر الجنود في ليبيا، ويبقى تحديد نطاق وحجم المهمة على عاتق الحكومة، أو يعتمد بشكل أدق على ما تستطيع الحكومة التفاوض بشأنه مع قادة الجيش.

وعكس سوريا، التي أصبحت الآن بيئة نزاع منخفض الحدة، فإن الموقع الجغرافي لليبيا وقدرات الخصوم الإقليميين لتركيا، خاصةً القوات الجوية والبحرية المصرية، يجعلانها بيئة معقدة ومحفوفة بالمخاطر.

وعلاوة على ذلك، يتساءل الاستراتيجيون العسكريون عن رد فعل روسيا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة تجاه نشرٍ تركيٍّ كبير لقواتها في ليبيا.

ولكن الميزة التي تتوافر لتركيا في ليبيا عن سوريا هي أن الوجود الروسي بليبيا وجود غير رسمي؛ بل عبر مرتزقة شركة فاغنر والدعم الفني، عكس سوريا التي أرسلت موسكو إليها جيشها بناء على دعوة حكومة الأسد المعترف بها دولياً حتى لو كانت منبوذة.

الموقف التونسي

وكانت زيارة أردوغان المفاجئة، في 25 ديسمبر 2019 لتونس، الجارة الشمالية الغربية لليبيا، مرتبطة بالإجابة عن هذا السؤال. إذ ضم الوفد المصاحب لأردوغان وزير الدفاع خلوصي آكار، ورئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، وعدداً بارزاً من قادة الجيش.

وكشفت الزيارة المفاجئة عن نية تركيا تشكيل تحالف يضم تونس والجزائر؛ من أجل دعم حكومة الوفاق الوطني ضد قوات حفتر.

وتسعى تركيا إلى إمكانية الوصول واستخدام المجال الجوي التونسي وقواعد تونس الجوية ومياهها الإقليمية؛ من أجل حشد عسكري يخدم هذا الغرض.

ومن دون دعم تونس (التي تبنت الحياد رسمياً، ولكن ما زال من الصعب تحديد موقفها الحقيقي، في ظل مخاوف البلاد من حفتر وإمكانية التنسيق السري مع أنقرة)، يصبح توفير الغطاء الجوي والدعم البحري لحكومة الوفاق الوطني عبر المياه الدولية والمجال الجوي الدولي أمراً صعباً بالنسبة لأنقرة.

إذ إن زيارة أردوغان لتونس تؤكد إدراك أنقرة أن وحدة رمزية من 200 جندي لا يمكنها مساعدة حكومة الوفاق الوطني في إيقاف تقدُّم حفتر نحو السيطرة الكاملة على طرابلس.

ويتردد في تركيا أن أردوغان رفض عرضاً تونسياً بالتوسط وترتيب لقاء بين الوفد التركي وممثلين عن حفتر. ويشير ذلك إلى عدم استعداد أنقرة للتفاوض مع حفتر في الوقت الراهن.

الموقف الجزائري

وفيما يتعلق بالجزائر، جارة ليبيا الغربية الأكبر والأقوى، يبدو أنها تفضل الحياد بالمثل، رغم ظهور مؤشرات على رغبة القيادة السياسية والعسكرية الجديدة في تفعيل دور البلاد بليبيا رغم عدم وضوح الاتجاه الذي ستسير فيه بعد.

وقال مصدر مطلع من الجزائر إن الجيش الجزائري سمح لطائرة تركية بعبور أجواء البلاد والهبوط في مطار مصراتة؛ لتزويد قوات «الوفاق» بالعتاد في ذروة أزمتها قبل عدة أيام، بحسب ما أورده تقرير لموقع عربي بوست“.

ولكن المصدر استدرك قائلاً إن الأمر كان مرة واحدة ولا يعرف هل تكرر أم لا، ولكن عقيدة الجيش الجزائري الذي يناصبه حفتر العداء هي عدم إرسال قوات خارج البلاد.

وكان لافتاً التقارير الإعلامية التي تتحدث عن زيارة قائد الجيش الجزائري الجديد، اللواء سعيد شنقريحة، قائد أركان الجيش الجزائري، للحدود مع ليبيا.

وقال مصدر أمني جزائري إن «اللواء سعيد شنقريحة قد زار بالفعل الحدود الشرقية للبلاد مع ليبيا، مباشرة عقب اجتماع المجلس الأعلى للأمن، الذي بحث الأزمة الليبية، والتقى هناك قادة الناحية، حيث اطلع عن قرب على حال الحدود وتأمينها».

كما أكد وزير الشؤون الخارجية، صبري بوقادوم، أن الجزائر ستقوم في «الأيام القادمة» بعديد من «المبادرات» باتجاه الحل السلمي للأزمة الليبية، مشدداً على رفض الجزائر وجود قوة أجنبية «مهما كانت» في ليبيا.

وجدد بوقادوم، في تصريح على هامش إرسال مساعدات إنسانية إلى ليبيا، موقف الجزائر الثابت بخصوص عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

وقال إن «لغة المدفعية ليست هي الحل، وإنما الحل يكمن في التشاور بين الليبيين كافة وبمساعدة جميع الجيران وبالأخص الجزائر».

ومن دون تونس والجزائر، فإن أنقرة سوف يتعيّن عليها الاعتماد على قدراتها العسكرية وحدها، في نزاع مفتوح بقوة كاملة، في بلد يبعد عن حدودها ألفين كيلومتر، وهذا بدوره يثير بعض الأسئلة الصعبة لدى الاستراتيجيين العسكريين.

أولى المشكلات هي وجود دليل من بعض المصادر الإعلامية على نشر أنظمة الدفاع الجوي الروسية (بانتسر إس 1) القصيرة إلى متوسطة المدى، والمعروفة بقاتلة الطائرات المسيّرة، في المناطق التي تسيطر عليها قوات حفتر.

ووجود هذه الأنظمة يهدد أي عمليات جوية تركية بالطائرات المسيرة في ليبيا، وضمن ذلك طائرات Bayraktar TB2 تركية الصنع، وأي جهود محتملة من جانب أنقرة من أجل إنشاء منطقة حظر جوي.

وعلاوة على ذلك، فإن طائرات F-16، التي تمتلك أنقرة أعداد كبيرة منها تعد ذات قدرات تكتيكية، لديها نطاق قتالي محدود، وهو ما يعني أنها تحتاج التزوّد بالوقود عدة مرات؛ لقطع المسافة من تركيا إلى ليبيا.

كانت فكرة الاعتماد على القواعد الجوية القريبة من ليبيا مثالية بالنسبة للأتراك، ولكن نظراً إلى إحجام تونس المهذب، لم يعد ذلك خياراً مطروحاً.

ويُذكر أن القواعد الجوية التي تسيطر عليها حكومة الوفاق ليست قادرة على دعم العمليات المكثفة لطائرات تُستخدم في عمليات حلف الناتو، وقد تتعرض لخطر هجوم قوات حفتر عليها على أي حال.

كما تفتقر تركيا إلى المدفعية الثقيلة في ليبيا والتي قد توفر لها إمكانية فتح نيران شامل على عدة جبهات بوقت واحد في ليبيا.

المواجهة الجوية

وفوق كل ذلك، ينبغي أن يفكر الخبراء العسكريون بتركيا في كيفية حماية القوات الجوية التركية لمنطقة العمليات ضد أي تدخُّل محتمل من الطائرات المصرية أو الإماراتية.

ولكن يلاحَظ أنه رغم التصعيد من الإعلام المصري والإماراتي، فإنه لم تخرج أي تصريحات تشير إلى إمكانية تصدي البلدين للتدخل التركي.

ولم يصدر حتى من اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين ما يشرعن إرسال قوات من دولة عربية إلى ليبيا؛ بل إن القرار الصادر عن الاجتماع أدان أي تدخل، من دون الإشارة إلى أنقرة، كما أكد شرعية اتفاق الصخيرات الذي تستند إليه حكومة التوافق في شرعيتها.

ومع القيود اللوجيستية التي تواجه القوات الجوية، قد يكون الطيران البحري هو الحل بالنسبة لأنقرة.

ولكن السفينة الهجومية البرمائية التابعة للبحرية التركية TCG Anadolu لن تكون جاهزة بالكامل قبل أواخر عام 2020، وهي سفينة تصنِّعها تركيا، وهي تعدّ حاملة طائرات مروحية، كما أنها قادرة على حمل طائرات F-35B.

غير أن استبعاد تركيا من برنامج F-35 يعني عدم قدرتها على استخدام طائرات F-35B، وهو ما يحد من قدرات الطيران البحري للطائرات المروحية التي تحملها السفينة Anadolu ؛ أي إن البحرية التركية غير قادرة على تعويض غياب القوات الجوية، حسب الموقع الأمريكي.

بشكل عام، أي مشروع عسكري محتمل في ليبيا، والذي قد يبدأ على الأرجح أواخر يناير 2020، قد ينطوي على بعض أوجه القصور إذا أقدمت أنقرة على نشر قوات كبيرة الحجم تتألف من عناصر برية وجوية وبحرية، بهدف فرض منطقة حظر جوي وحصار بحري وتأمين المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني على الأرض.

وتحتاج أنقرة أن تضع في اعتبارها أيضاً مخاطر التورط في حرب بالوكالة في ليبيا بعد الحرب الأخيرة بسوريا.

وعكس سوريا، حيث كانت تتدخل روسيا والولايات المتحدة دائماً لمنع تصعيد حدة النزاع، لا يتمتع الجيش التركي بالتفوق العسكري في ساحة المعركة الليبية البعيدة عنه، ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى دعم روسيا لقوات حفتر والقيود الجغرافية.

ولكن تظل هناك حدود للدعم الروسي لحفتر، في ظل أن وجود موسكو بليبيا غير رسمي.

وفي الوقت ذاته فإن وجود خصوم إقليميين لأنقرة على مسار الدعم والإمداد قد يلقي بظلاله على معدل الغارات الجوية التي يمكن أن تشنها القوات الجوية التركية، ويحد من قدرة مساهمة وحدات الدعم غير القتالية على الأرض.

ولكن هناك نقطة تصب في مصلحة الجانب التركي هي مدينة مصراتة ثالث كبرى مدن ليبيا سكاناً والتي تعد معقلاً قوياً مناهضاً لحفتر وداعماً متحمساً لحكومة التوافق.

والمدينة الساحلية لديها أقوى الكتائب المسلحة في ليبيا وأكثرها تنظيماً، ويسودها عداء شديد لنظام القذافي، بسبب مجازره ضدها خلال الثورة الليبية، ويعتبر سكان المدينة قوات حفتر امتداداً لنظام القذافي.

كما أن المدينة التي تتمتع بروابط تاريخية وأيديولوجية واقتصادية مع تركيا، لديها مطار دولي وميناء، وهو ما يجعلها منطقة مرشحة لتكون موقعاً لأي إنزال بحري تركي محتمل أو استقبال لطائرات أنقرة في حالة توفير الحماية اللازمة خلال عملية وصول القوات والتي تكون عادةً المرحلة الأكثر حرجاً.

والجمعة دانت الإمارات، إرسال قوات تركية إلى ليبيا، مؤكدة أن هذا القرار يمثل تهديدا للأمن القومي العربي، حيث أكدت وزارة الخارجية الإماراتية في بيان لها، رفضها لأي مسوغات قانونية واهية تستخدمها تركيا في هذا الشأن“.

وأضافت أن مثل هذا التدخل يمثل تهديدا واضحا للأمن القومي العربي واستقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط“.

كما أدانت برلمانات كل من الإمارات والسعودية ومصر والبحرين ما وصفوه بـ التدخل الخارجي، وانتهاك سيادة واستقلالية، أي دولة عربية، من أي طرف كان“.

وأعربوا، في بيان مشترك لهم، الجمعة، عن بالغ قلقهم إزاء التحديات الأمنية، والتدخلات الخارجية، والتهديدات الإرهابية، التي تواجهها دولة ليبيا ودول الجوار“.

____________

مواد ذات علاقة