بقلم علي عبداللطيف اللافي

الثابت في المشهد السياسي في منطقة شمال افريقيا، هو أن هناك رؤيتين متناقضتين تتصارع حول تجسيدهما دول ومحاور إقليمية رغم تداخل المعطيات والعوامل من حيث التأثيرات في دول المنطقة وفي الإقليم وعلى المستوى الدولي.

ذلك أن نظرية الوحدة المتكاملة لم تعد تنطبق على أي دولة أو إدارة او تيار فكري او سياسي:

الرؤية الأولى تسعى لبسط فعلي لأنظمة عسكرية في كل دول المنطقة

الرؤية الثانية تتبنى خيار بناء مسارات ديمقراطية في كل الدول والاستئناس بالاستثناء التونسي مع مراعاة خصوصية كل دولة سياسيا واجتماعيا.

والثابت أن هناك أطراف وتيارات وأحزاب في كل بلد تتبنى احدى الرؤيتين وتقابلها أطراف مناكفة لها تتبنى الرؤية الأخرى.

وكل هذه الأساسيات والمعطيات النظرية والتشخيصية للمشهد تفسر التجاذب الإقليمي والدولي والمحلي حول طريقة التعاطي وإدارة الملف الليبي وتجيب موضوعيا على سر تردد حفتر وحلفائه في المضي في اتفاق موسكو وطلب الجنرال للمهلة واتجاهه للعاصمة الأردنية للتشاور مع كل حلفائه بمن فيهم قوى غير ظاهرة للعيان وغير معلن عنها ولكنها على تواصل معه وتدعمه في خياراته ومعاركه منذ بداية تسعينات القرن الماضي.

سر تردد حفتر ومغادرته لموسكو واتجاهه للأردن

أعمليا تسبب “خليفة حفتر” بدعم من حلفائه في مصر والإمارات في افشال اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان مقرراً توقيعه مساء لاثنين الماضي في العاصمة الروسية، وهو الامر الذي خلق حالة من الاستنفار الأمني في العاصمة طرابلس ومحيطها، وسط رصد عمليات تحشيد تقوم بها مليشيات حفتر في كل من “بني وليد” و”ترهونة.

كما عادت أجواء التوتر السياسي، وسط محاولات من روسيا تحديداً لبحث سبل استئناف المفاوضات قبيل مؤتمر برلين هذا الاحد.

بعمليا تعددت القراءات والتحاليل لأسباب إفشال حفتر للاتفاق الذي كانت تعوّل عليه روسيا بالتفاهم مع تركيا، ويُمكن ذكر عوامل ستة رئيسية تفسر طلب حفتر مهلة يومين أو ربما عدم العودة أصلا للتفاوض وامضاء الاتفاق:

العامل الأول: حفتر وحلفائه يعون جيدا أنهم خاسرون في كل الحالات على الأقل مرحليا، وبناء على قراءة مفادها أن الزمن ضدهم على كل المستويات، ذلك أن المرتزقة الأجانب لا يُمكنهم مستقبلا في ظل المعطيات الجديدة القيام بأي تأثير على المجريات الميدانية.

والدول الحليفة فعلها سيكون هامشيا في ظل الحضور التركي وانسحاب الروس وخاصة “الفاغنر”، وموعدي 19 و25 يناير (مؤتمر برلين – مؤتمر الكونغو افريقيا) يحاصرهم بينما أتباع القذافي ستسقط أجنداتهم في دخول العاصمة منتصرين ولن يمكّن لهم الانتقام الذي يضمرونه وبعضهم سينقلب علبه موضوعيا.

العامل الثاني: الوعي بأن الروس سيغلبون مستقبلا أتباع النظام السابق في أي مصالحة وحل سياسي مستقبلي على قيادات الكرامة وربما اكتشف “حفتر” أو وعى انه كان مجرد مرحلة لبعض حلفائه الدوليين وحتى للروس أيضا وأنه قد يتم اظهار ورقة “سيف القاذافي”، وأتباعه بغض النظر أنه أمضى الاتفاق أو لم يمض.

العامل الثالث: التعلّل بأن هناك خلاف بشأن حلّ المليشيات في العاصمة طرابلس، ذلك ان هناك خلاف على إشكالية المليشيات وتفكيكها، ذلك أن السراج ومرافقيه أكدوا أنهم لا يريدون زمناً لحل المليشيات سواء تلك التي في الشرق مع حفتر أو التي في المنطقة الغربية وتحارب مع الوفاق.

العامل الرابع: القول بغموض تحديد نقاط التماس بين مليشيات شرق ليبيا وقوات الحكومة، إذ طالب حفتر بإضافات إلى هذا البند من شأنها أن تحفظ أماكن تمركز مليشياته في جنوب طرابلس، ومعلوم أن مسودة الاتفاق تنصّ على عودة جميع القوات إلى مواقعها التي سبقت تاريخ 4 إبريل 2019.

كما أن مصادر دبلوماسية أخرى أكدت أنّه وفقا لمسودة وثيقة الاتفاق، فإنّ “قوات حفتر ستعود إلى قاعدة الجفرة، بينما ستعود القوات التي تساندها من ترهونة إلى معسكراتها داخل المدينة”.

العامل الخامس: الاعتراض على أنّ الاتفاق مع حكومة السراج “يعد اعترافاً من حفتر وحلفائه بها”، وهذا املاء مصري واماراتي على حفتر

العامل السادس: الإصرار على “ضرورة إلغاء الاتفاقات الموقعة بين حكومة الوفاق والحكومة التركية”، وهذه أيضا رغبة مصرية واماراتية وربما سعودية وفرنسية وحتى إسرائيلية ورغبة دول أخرى عديدة.

تعمليا كشفت مصادر مصرية من كواليس الانسحاب المفاجئ لحفتر، إنّ خطوته جاءت بضغوط إماراتية ومصرية، وذلك بعدما كان قد طلب مهلة حتى صباح الثلاثاء، قبل أن يقطع تلك المهلة ويغادر مع الوفد المرافق له من دون توقيع الاتفاق وبحسب المصادر فإنّ الدور التركي الكبير وحجم النفوذ الذي يتيحه الاتفاق لأنقرة في المشهد الليبي، كان السبب الأساسي في دفع كل من الإمارات والسعودية ومصر لرفضه، وتوجيه حفتر بالانسحاب، والعودة مباشرة إلى ليبيا.

ث عمليا كشفت مصادر غربية في القاهرة عن ترتيب المشهد بالكامل بشكل مسبق ليخرج بهذه الصورة، مؤكدةً أنّ حفتر ذهب إلى موسكو وقرار الرفض متّخَذ لديه، خصوصاً أنّ مسودة الاتفاق تمّ عرضها عليه قبل 48 ساعة كاملة وقبل وصوله إلى موسكو.

إلا أنّه توجه للعاصمة الروسية من أجل تحقيق أهداف عدة، في مقدمتها أن لا يبدو في صورة المعطل للجهود الدولية، وإبراز تجاوبه مع الجهود الرامية لحل الأزمة وحقن الدماء، وكذلك رفع الحرج عن داعميه في القاهرة وأبوظبي أمام موسكو.
وقالت المصادر إنّ الدليل القوي على تلك النية المبيّتة من جانب حفتر وداعميه، هو إجراء القيادي المطرود من حركة “فتح” محمد دحلان، سلسلة من اللقاءات مع زعماء قبائل في شرق ليبيا، وقيادات أمنية تابعة لحفتر، لتنظيم تظاهرات كبيرة في عدد من مدن الشرق، وفي مقدمتها بنغازي، لدعم قرار اللواء المتقاعد بالانسحاب وعدم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار.

جبناء على كل هذه التطورات، أكدت تقارير غربية من أهمية النتائج التي من المتوقع أن يتوصل إليها مؤتمر برلين المقرر عقده الاحد القادم قائلةً إنّ التجاذبات الدولية الحاصلة يستحيل معها التوصّل لأي نتائج إيجابية، إذ إنّ الجميع يسعى لتحقيق مصالح خاصة على حساب الملف الليبي.

واصلت روسيا ظاهريا الدفاع عن حفتر على الرغم من الإحراج الذي تعرضت له جراء مغادرته موسكو بدون توقيع الاتفاق، وأقرّ وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” من كولومبو، بأن بلاده ستواصل جهودها من أجل إيجاد حلّ للأزمة، وأوضح في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السريلانكي أن “كل الجهود التي يبذلها الأوروبيون الآن، بما في ذلك الألمان والفرنسيون والإيطاليون، والجهود التي يبذلها جيران ليبيا، مثل الجزائر ومصر والإمارات وتركيا وقطر وروسيا الاتحادية، نريد أن نجمعها، ونعمل جميعاً في اتجاه واحد، ونشجع جميع الأطراف الليبية على الاتفاق، وليس الاستمرار في تسوية الأمور بالقوة”.

حوزارة الدفاع الروسية أكدت أنّ التوصل لاتفاق بين الأطراف المتحاربة بشأن وقف الأعمال العسكرية هو أهم نتائج اللقاء، كما أشارت إلى أنّ حفتر كان إيجابياً إزاء اتفاق وقف إطلاق النار، وسيناقش الأمر مع حلفائه خلال يومين.

التطورات الميدانية والسيناريوهات الثلاث

أميدانياً، أكد المتحدث الرسمي باسم المركز الإعلامي لعملية “بركان الغضب” التابعة لحكومة الوفاق “مصطفى المجعي” أول أمس الثلاثاء، أنباء تناقلتها وسائل إعلام ووكالات حول تحشيدات عسكرية لمليشيات حفتر في محيط طرابلس.

وأوضح المجعي في تصريحات صحفية أنّ “تلك التحشيدات تتركز في محاور القتال القريبة من طرابلس”، مضيفاً أنه “تمّ رصد تحشيدات أخرى تتمثل في وصول عربات مسلحة إلى منطقة ترهونة والتي تتركز فيها أهم غرف قيادة لمليشيات حفتر القريبة من طرابلس”.

ب– “المجعي” أشار أيضا إلى وجود تحركات أخرى لقوات حفتر على تخوم سرت (شرق مصراتة)، مؤكداً في الوقت نفسه أنّ محاور القتال تشهد هدوءاً كاملاً إلى الآن.

ت آمر منطقة طرابلس العسكرية بقوات حكومة الوفاق قال مؤكدا “إننا مستمرون في التزامنا باستمرار وقف إطلاق النار تنفيذاً لأوامر القيادة السياسية”، لكنه أكّد أيضا في تصريحات أول أمس الثلاثاء أنه “بعد رفض حفتر التوقيع، كلّ شيء بات مفتوحاً”.

ث بناء على كل تلك المعطيات الميدانية والسياسية وطبيعة مواقف الأطراف المصرح بها أو الجاري التخطيط لها فانه يمكن القول أننا امام ثلاث سيناريوهات:

السيناريو الأول: وهو سيناريو الحرب الإقليمية، وهو سيناريو مستبعد حاليا ويرفضه الروس والذين أقنعوا الاتراك بالمشاورات الحالية، وهو أيضا سيناريو لن تكون ملامحه حاضرة الا بعد موعدي 19 يناير (مؤتمر برلين) و25 يناير (لقاء الاتحاد الافريقي في الكنغو)، وستعمل المؤسسة العسكرية المصرية على تجنبه إضافة الى رفض الإدارة الامريكية له كخيار

السيناريو الثاني: وهو سيناريو تواصل الاستنزاف بين الطرفين وهو أمر محتمل في كل لحظة نتاج العقلية العسكرية لحفتر وحلفائه المحليين مقابل التباينات الحاصلة بين المكونات العسكرية والسياسية للوفاق، وهو سيناريو وارد أن يمتد بين 26 يناير و15 فبراير وربما إلى نهاية ابريل القادم في صورة عدم المضي آنيا في الحل السياسي.

السيناريو الثالث، وهو الحل السياسي المترتب عن المشاورات والمؤتمرات سواء بعودة حفتر لموسكو وهو أمر وارد ولكنه مستبعد أو من خلال فرضه من خلال اللقاءين (أي المؤتمرين سالفي الذكر)، أو أن يؤدي إليه كسيناريو كلا السيناريوهين السابقين بعد خوضهما أو خوض جزء منهما.

***

علي عبداللطيف اللافي ـ كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

___________

المصدر: صحيفة الرأي العام التونسية

مواد ذات علاقة