بقلم جازية جبريل محمد

العدالة الانتقالية هي مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

.الجزء الثاني

العدالة الإسلاموية

هي فترة امتدت من يوليو 2012 إلى أغسطس 2014. ونلاحظ أن الآليات المتخذة كثيرة: فقد صدر القانون رقم 29 لسنة 2013 بشأن العدالة الانتقالية مغيباً المصالحة الوطنية من عنوانه بما يوحي أنه يتخذ نهجا أكثر صرامة مع خصومه.

وأما عن آلية الملاحقة الجنائية، فقد صدر قانون رقم 10 لسنة 2013 بشأن تجريم التميز والإخفاء القسري والتعذيب وهو يُعدّ استجابة محلية لمواثيق دولية تحظر هذا النوع من الانتهاكات مثل اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة النافذة منذ 1987.

كما صدر القانون رقم 5 لسنة 2014 بشأن تعديل المادة 195 من قانون العقوبات على النحو التالي: “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد، يعاقب بالسجن كل من يصدر عنه ما يشكل مساسا بثورة السابع عشر من فبراير، ويعاقب بذات العقوبة كل من أهان علانية إحدى السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية أو أحد أعضاءها أثناء تأدية وظيفته أو بسببها أو أهان شعار الدولة أو علمها“.

وإجرائياً صدر القانون رقم 11 لسنة 2013 في شأن تعديل قانون العقوبات والإجراءات العسكرية بحيث اقتصرت محاكمات القضاء العسكري على العسكريين دون المدنيين.

كما نص على العزل السياسي في التعديل الدستوري الخامس لسنة 2013، وكان نصه: “ولا يعد إخلالاً بما ورد في أحكام هذا الإعلان عزل بعض الأشخاص ومنعهم من تولي المناصب السيادية والوظائف القيادية في الإدارات العليا للدولة لفترة زمنية مؤقتة وبمقتضى قانون يصدر في هذا الشأن وبما لا يخلّ بحق المعنيين في التقاضي“.

وهو تعديل صدر في إبريل استباقا لقانون العزل الذي سيصدر في مايو من العام ذاته، حيث صدر القانون رقم 13 لسنة 2013 بشأن العزل السياسي والإداري، المعدل بالقانون رقم 28 لسنة 2013.

وهو ما حاول الحقوقيين التصدي له بعدم الدستورية من باب الطعن في التعديل الدستوري ذاته غير أن ذلك تعذر من حيث أن الثوار المطالبين بإصداره بمظاهرات احتجاجية أمام المؤتمر الوطني، هم ذاتهم من تصدوا لتحصينه من الطعن بعدم دستوريته من خلال المظاهرات الاحتجاجية أمام مقر المحكمة العليا، مما عطل صدور الحكم القاضي بعدم الدستورية ليومنا هذا.

كما توسع المؤتمر في آلية جبر الضرر وإصدار قوانين وقرارات تعويض المتضررين ومثالها؛ قانون رقم 4 لسنة 2013 في شأن تقرير بعض الأحكام المتعلقة بذوي الإعاقة المستديمة من مصابي حرب التحرير.

كما صدر القانون رقم 1 لسنة 2014 بشأن رعاية أسر الشهداء والمفقودين بثورة فبراير، وتوجد عدة أعمال قانونية بشأن المفقودين يضيق المقام بذكرها.

كما أن مذبحة سجن بوسليم قد صدرت بشأنها عدة أعمال قانونية: قرار 59 لسنة 2013، قانون رقم 31 لسنة 2013، قانون 33 لسنة 2015 بشأن إنشاء لجنة تقصي حقائق حول المجزرة.

وعلينا أن نلاحظ أن التكييف القانوني للواقعة قد صدر انطباعياً دون انتظار تقرير موضوعي من لجنة تقصي الحقائق؛ فهي مذبحةومجزرةحسب ما تراه السلطة التشريعية حينها، ولست أدري شخصياً هل شكلت تلك اللجنة؟ وهل باشرت عملها؟ وما هي النتائج التي توصلت لها بخصوص الواقعة؟

ويبدو أن السياسة فرّقت بين السلطة التنفيذية والتشريعية في فترة حكومة علي زيدان فإذا بهما يختلفان بشأن آليات العدالة الانتقالية.

ويكفينا للتدليل على ذلك رصد الخلاف بين السلطتين بشأن آلية تعويض المعنفات والمغتصبات. فبعدما قدمته الحكومة كمشروع قانون رفضت السلطة التشريعية إصداره في إنكار منها لملف مغتصبات الحرب وتحفظاً لدخول فئات مدعية وحينها، قررت الحكومة اتخاذ آلية التعويض لهذه الفئة من خلال إصدار قرار رقم 119 لسنة 2013 بشأن معاملة ضحايا العنف الجنسي.

كذلك نرصد الخلاف بينهما بشأن آلية الملاحقة القضائية للإرهابيين. فقد قررت الحكومة التأكيد على أهمية هذه الآلية في بيان 20 مارس 2014 في حين أن السلطة التشريعية قصرت عن إصدار قانون مكافحة الإرهاب رغم تقديم مشروعه من الحكومة، لوجود مجموعة من أعضائها الكتلة الإسلاميةترفض الاعتراف الرسمي بوجود الإرهاب في ليبيا وتتهيب من أن تطالها الملاحقة حال إقرار القانون.

العدالة التوافقية

وثيقة 2015 نابعة من اتفاق الفرقاء وترتكز على فكرة الوفاق بين الخصوم السياسيين. ولهذا كان لملف العدالة الانتقالية نصيب كبير من الاتفاق حيث نصت المادة 26 من المبادئ الحاكمة على تفعيل آليات العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، من أجل إعلاء الحقيقة وتحقيق المحاسبة والمصالحة وجبر الضرر وإصلاح مؤسسات الدولة وذلك تماشياً مع التشريعات الليبية النافذة والمعايير الدولية.”.

وأقرت المادة 24 من الاتفاق يختص مجلس الدولة كذلك بدراسة واقتراح السياسات والتوصيات اللازمة حول الموضوعات التالية: دعم جهود المصالحة الوطنية والسلم الاجتماعي من خلال الآليات القائمة، دعم ومساندة لجان تقصي الحقائق ومؤسسات مكافحة الفساد في أدائها لواجباتها“.

وركزت المادة 11 من الأحكام الإضافية على آلية العفو كسباً لمزيد من الفرقاء السياسيين؛ حيث نصت على أن تضمن المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي الليبي عدم مقاضاة أي من الأشخاص لأسباب تقتصر على قتال الخصوم أثناء النزاع.”

إلا أنها تراجعت أمام المعايير الدولية لتطبيق العدالة الانتقالية فأكدت على أنه: “لا تنطبق هذه الضمانة على أي شخص قد يكون ارتكب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية أو غيرها من الجرائم التي ينص عليها القانون الدولي إذ لا تخضع مثل هذه الجرائم للإفلات من العقاب“.

كما نصت المادة 26 على الالتزام بجمع معلومات كاملة عن الأشخاص المختطفين والمفقودين وتقديمها، مع الالتزام بتشكيل هيئة مستقلة للأشخاص المفقودين إعمالاً بأحكام القانون رقم 1 لسنة 2014 وذلك خلال ستين يوماً من بدء ممارسة الحكومة لمهامها.

والالتزام بإطلاق سراح الأشخاص المحتجزين لديهم دون سند قانوني أو تسليمهم إلى السلطات القضائية.

كما ينبغي على كافة الأطراف المساهمة في توفير حماية فعّالة للسلطات القضائية المختصة وتمكينها من مراجعة جميع حالات الاحتجاز أو الاعتقال، وإطلاق سراح فوري لجميع الأشخاص المحتجزين أو المعتقلين دون سند قانوني.

كما يلتزم جميع أطراف هذا الاتفاق بضمان حكر سلطة احتجاز المعتقلين والسجناء على السلطات القضائية المختصة وفي مرافق معترف بها رسميا، وفقاً للتشريعات الليبية النافذة.

وتلتزم أطراف هذا الاتفاق بالعمل على تطبيق قانون العدالة الانتقالية رقم 29 لسنة 2013، بما في ذلك تعيين مجلس إدارة هيئة تقصي الحقائق والمصالحة، خلال تسعين يوماً من دخول هذا الاتفاق حيز التنفيذ.

وفي الملحق الثاني من الاتفاق السياسي كانت من الأولويات؛ مواصلة دعم الحوار والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، ودعم القضاء والعدالة الجنائية، والتعامل مع أوضاع المحتجزين والمساجين والمختطفين.

وكغيره من الملفات المتضمنة في الاتفاق السياسي كان مصير ملف العدالة الانتقالية مصير الاتفاق نفسه من حيث الدخول في دهاليز السياسة مما عثر خطواته وعطل تطبيقه.

العدالة الارتدادية

مسارات العدالة الانتقالية في هذه الفترة تأثرت هي الأخرى بالموقف السياسي لمجلس النواب. فكان له نوعان من آليات العدالة الانتقالية: أحدهما مع أنصار النظام السابق، والثاني خاص بخصومه السياسيين من الإسلاميين.

ففي حين جنح إلى العدالة الانتقالية المتمثلة في العفو العام حيث ألغى قانون العفو الصادر عن المجلس الانتقالي وأصدر بدلا عنه القانون رقم 6 لسنة 2015 وهو عفو عام لكل الليبيين عما ارتكب منذ 15 فبراير من جرائم إلى تاريخ صدوره وهو سبتمبر 2015.

وقد قيل في القانون أنه مفصل لأجل سيف الإسلام والموالين لنظام القذافي عما ارتكبوا من انتهاكات إبان مقاومتهم لثورة فبراير. وقد تمت الاستفادة الفورية من هذا القانون بإصدار مخاطبة من وزير العدل بالمؤقتة للقائمين على احتجاز سيف الإسلام بالإفراج الفوري عنه.

كما أنه خالف المؤتمر الوطني في آلية العزل السياسي والإداري لأتباع النظام السابق من خلال إلغائه لقانون العزل عبر القانون رقم 2 لسنة 2015 .

بينما أعلن من بواكير انتخابه عن سياسته المناوئة للإسلامين، وتشدد في الملاحقة القضائية للإرهابيين بدءا من الإسراع في إصدار قانون الإرهاب رقم 3 لسنة 2014، بعدما تلكّأ المؤتمر الوطني العام في إصداره.

كما أصدر مجلس النواب قرارا مفاده أن أنصار الشريعة مجموعة إرهابية في أغسطس 2014 ومؤخراً صوت على تجريم أعمال جماعة الإخوان وعَدها مجموعة إرهابية في مايو 2019.

ومن بين الآليات التي تغيرت بتغير سياسة مجلس النواب هو إصداره للقانون رقم 4 لسنة 2017 بتعديل القانون رقم 11 لسنة 2013 حيث أعاد الاختصاصات العسكرية بكثير من الجرائم.

ولعل ما يلفت النظر فيها الاختصاص الشخصي بنظر جرائم مرتكبي الإرهاب  وأهميته تكمن في أنه يلغي النص الخاص بالاختصاص النوعي الوارد في قانون الإرهاب رقم 3 لسنة 2014 كما أن هناك من يراه نكوصا تشريعيا خطيرا بشأن حقوق الإنسان من حيث عودة الاختصاص العسكري بشأن محاكمة المدنيين.

إلا أنّ الدفاع على هذه السياسة يؤسس على فقه الواقع حيث أن النيابات المتخصصة والدوائر الخاصة المنصوص عليها في قانون الإرهاب لم يصدر بشأنها قرارات من المجلس الأعلى للقضاء في طرابلس وصارت القضايا الإرهابية تتأرجح بين القضاء العادي والعسكري وترفض من كليهما لعدم الاختصاص ولهذه الضرورة العملية صدر التعديل.

العدالة الانتقالية بنكهة ليبية

وبعد الاشتباكات المسلحة الأخيرة في طرابلس وتخومها والتي ما زالت رحاها دائرة حتى الآن، لاحظنا ظهور مفهوم جديد للعدالة الانتقالية، كان قد عبر عنه شرقا بصوت خافت في بواكير أحداث 2011 ولكنه ازداد وضوحا بعدما انقسمت المؤسسات التنفيذية واستقرت الحكومة المؤقتة شرقاً قرب المجلس التشريعيالبرلمان“.

وقد أضحى هذا المفهوم بعد أحداث ابريل 2019 مطلبا واضحا حتى في غرب البلاد معقل الحكومة المركزية، ألا وهو عدالة الأقاليم والجماعات، حيث أن المنطقة الشرقية برقةوكذلك الجنوبية فزانقد طالهما التهميش طيلة عقود طويلة.

فالأولى جبر الضرر وإعادة الحال كما كان عليه قبل 1963 بالعودة إلى الدولة الفيدرالية والتقسيم الثلاثي للأقاليم الليبية.

هذا المقترح السياسي للعدالة يسوق له البعض، باعتباره الحل الأمثل للمصالحة الوطنية وللمضي قدما نحو دولة ليبيا الجديدة، بيد أنه يظل مقترحا غائما مالم يدستر، وهو مثير للقلق عند بعض طارحيه.

فهو يفتح الباب مشرعا أمام مطالبات بالحكم الذاتي تطبيقاً للعدالة الانتقالية من أقاليم وجماعات أخرى: الأمازيغ، التبو، المنطقة الوسطى. وهي أقاليم وجماعات تشكل ثقلاً في الخريطة السياسية وقوة على الأرض الجغرافية، مما يجعلنا نشكك في رؤية ليبيا الجديدة بوصفها دولة متحدة.

مازلنا في انتظار آليات العدالة الانتقالية للغالب الجديد من الفرقاء السياسيين حين توليه مقاليد السلطة التشريعية الجديدة.

***

جازية جبريل محمد ـ أستاذة قانون في جامعة بنغازي

___________

  • نشر هذا المقال في العدد 16 من مجلة المفكرة القانونية

مواد ذات علاقة