بقلم نزار بولحية

بدلا من لوم الآخرين، وتعليق كل الزلات والسوءات والخطايا على مشجبهم، سيكون الأولى والأحرى بالمغاربيين جميعا أن يلوموا أنفسهم على ضعفهم وتقصيرهم، وسوء تعاطيهم وتعاملهم مع الحريق الذي اشتعل منذ سنوات في بيتهم.

فاختلاف وجهات النظر الاوروبية، لم يكن وحده السبب في حضورهم بشكل باهت في برلين، إذ لم يكن ممكنا أو متوقعا أن تبادر أي جهة أمام غياب كيان أو حتى موقف مغاربي واحد لطلب طرف ينوب عن البلدان الخمسة، ويمثل مصالحها، ويتحدث باسمها في النقاشات التي دارت حول مصير واحدة منها.

لكن ذلك ليس سوى مقدمة لها ما بعدها، وهو لن يعني فقط أن الستار سيسدل على مرحلة، بقدر ما يعني أنه سيفتح قريبا على أخرى تلوح أسوأ وأعقد من سابقتها.

إنه اشبه بجرس إنذار قوي يقرع من جديد للتنبيه إلى عواقب وتداعيات، وربما هزات قد تلقي بظلالها في السنوات المقبلة على المنطقة بأسرها.

ومن تحصيل الحاصل أن الأنظار التي صوبت بقوة طوال الأحد الماضي إلى ألمانيا، دلت على أن الساعات القليلة التي استغرقها مؤتمر برلين، لم تنتج إلا مزيدا من المال والوعود الفضفاضة، وربما حتى الجوفاء.

ففي الوقت الذي تخلى فيه الليبيون أو دفعوا فيه للتخلي تحت الضغط الإقليمي والدولي، عن أي محاولة جادة لصياغة حل ليبي ليبي لمشاكلهم، أُشرع الباب أمام كبار القناصة في الخارج وحتى صغارهم ليقطفوا ثمار تدخلاتهم، ويثبّتوا أقدامهم فوق أرضهم بشكل شرعي ورسمي.

وكانت الخلاصة العملية للقاء دام نحو أربع ساعات، وصاحبته اعتراضات واحتجاجات وصخب إعلامي واسع، هي صب مزيد من الزيت على النار، لا داخل ليبيا نفسها، بل على جوارها المغاربي بالخصوص، أي بين باقي بلدان مغرب كبير، لا يزال يتخبط في انقسامات وخلافات حادة، تشقّه وتجعل من اتفاق دوله والتقائها، ولو على حد أدنى مشترك من القضايا والاهتمامات، أمرا صعبا ومستعصيا.

فماذا كان القصد من وراء الدعوات؟

وهل كانت الدول المشاركة قريبة بالضرورة جغرافيا، أو حتى موضوعيا من ليبيا؟

أم أن العبرة لم تكن إلا للعبة التحالفات والمصالح؟

لقد ظلت مقاييس الاختيار وترجيح كفة دولة على أخرى، أشبه بالاحجية الصعبة. ففي المغرب الكبير، وهو الميدان العملي لمعركة التنافس والصراع الحالي، كان السؤال يدور حول سر الامتياز الذي ملكته الجزائر بنظر الألمان، على الأقل، على اعتبارهم المنظمين واصحاب الدار، وفقده بالمقابل مثلا، جاراها المغاربيان تونس والمغرب وجعلها تحضر إلى برلين في ظل غيابهما أو تغييبهما المتعمد.

لكن المستوى الآخر للسؤال كان متعلقا ما إذا صار حضور المغرب والجزائر معا في محفل دولي واحد أشبه بالتقاء الماء بالنار، وما إذا كان البلدان قد فوتا على نفسيهما فرصة الالتقاء، على ملف مشترك، قد يمهد الطريق لاجتماعهما مستقبلا لوضع كل خلافاتهما ومشاكلهما العويصة على طاولة المفاوضات؟

لقد كانت الجزائر واحدة من المدعوين فيما تخلف المغرب، معبرا عن قلقه واستغرابه «العميق» من تجاهله وإقصائه من الحضور، مثلما جاء في بيان خارجيته السبت الماضي، وزاد من باب الغمز أن «المملكة لا تفهم المعايير ولا الدوافع التي أملت اختيار البلدان المشاركة في ذلك الاجتماع».

أما جارتهما تونس فقد كانت مهمومة وبأكثر من قضية قد لا تكون قمة برلين واحدة من أهمها وأبرزها، فيما كانت قنواتها ومؤسساتها الرسمية مشغولة بترتيب البيت، رغم أن ذلك لم يمنعها من الثأر الرمزي لما رأته تعديا صارخا على كرامتها، بالقول في اليوم نفسه أيضا، أي السبت الماضي، أنها هي التي قررت الاعتذار عن الذهاب لألمانيا لان «الدعوة جاءت متأخرة»، حسبما ورد في بيان خارجيتها.

لكن بغض النظر عن نوايا وخطط الجهة التي نظمت ودعت للاجتماع، وما إذا كانت لم تتنبه بشكل عفوي، أم متعمد لتوجيه الدعوة للبلدين فان ردة الفعل التونسية والمغربية، من خلال تصوير الأمر على أنه أشبه بانتكاسة وطنية كبرى كانت مبالغة ومضخمة بعض الشيء.

فمن الواضح أن كل دولة من الدول التي دعيت إلى ألمانيا، وعلى اختلاف وزنها ونفوذها وحجم مصالحها في ليبيا، كانت تطمح من وراء مشاركتها في المؤتمر إلى تحقيق بعض أهدافها القريبة أو البعيدة، ونيل نصيب من تقاسم مرتقب للكعكة الليبية.

ولكن بعيدا عن ذلك كان الحافز الآخر للقدوم لبرلين بالنسبة للمغاربيين هو محاولة التقاط زمن هارب فلت من بين أيديهم، واستعادة ولو بعض من زمام مبادرة خرجت تماما، ومنذ وقت طويل من مجال سيطرتهم.

والمشكل الأساسي هنا، أنه لم تكن هناك رؤية مغاربية واحدة، لما يمكن أن يكون عليه الحل في ليبيا.

لقد كانت التصورات مشتتة والتحالفات مبعثرة والقراءات متضادة. وربما كانت ليبيا وسط ذلك وبالفعل، ساحة خلفية جديدة للصراع المغربي الجزائري المزمن. فالتسابق الدبلوماسي لتسجيل نقاط لهذا الطرف على حساب الآخر، غلب على كل شيء وجعل من التقاء البلدين بما يمثلانه من ثقل في الاقليم على موقف مشترك يكون امرا غير وارد بالمرة. فيما تواصل الحذر التونسي المبالغ، واستمر النأي بالنفس التقليدي لموريتانيا على حاله.

ولا غرابة من أن ذلك كله كان يقود دول المغرب كلها، لان تدفع غاليا ثمن تضاربها في المقاربات، وتسابقها على الظفر بالزعامة الإقليمية ويمهد الطريق في الاثناء أمام اطراف خارجية، مثل فرنسا لتوطيد تلك الانقسامات المغاربية، وتأجيجها، واللعب على وترها واستغلالها لخدمة المصالح الاستعمارية التقليدية في المنطقة.

ولكن العواقب بالنسبة للمغاربيين لن تكون عابرة أو بسيطة، إذ سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن ينتظروا الآن بوادر انفراجة قريبة في العلاقات المغربية الجزائرية، التي هي عصب الاتحاد المغاربي، بما أن قمة برلين قد توسع من حدة الفجوة العميقة بين الجارتين.

وقد تزيد ايضا من عزلة بلد مثل تونس، وتكرسه كمجرد مراقب للتطورات ومجريات الأحداث التي تصنعها القوى الخارجية، على مرمى حجر من حدوده، وربما تجعل حتى بلدا اخر مثل موريتانيا ينظر للاندفاعة الدبلوماسية الجزائرية بشيء من الحذر والقلق النسبي، أمام لعبة التوازن الصعب، التي يمارسها ردا على تسابق المغاربة والجزائريين نحوه، ومحاولة كل واحد منهما كسبه لصفه في نزاع الصحراء.

لكن خروج الجزائر كمستفيد أكبر من القمة الألمانية، لا يعني بالضرورة انها ستجني من وراء حضورها في برلين مكاسب أكبر أو أكثر من تدعيم صورة نظامها ورئيسها الجديد في الداخل في مواجهة حراك لا شيء يدل على انه لفظ بعد انفاسه الاخيرة.

ومن نافلة القول إن بقاء الاتحاد المغربي على شكله وهيئته الحالية سيكون هو قمة المأساة. أما على من سيأتي الدور لاحقا بعد ليبيا؟

فربما سيؤجل المغاربيون في خضم المهاترات والخلافات التي تشقهم، التفكير في ذلك لوقت لاحق.

***
نزار بولحية ـ كاتب وصحافي من تونس

____________

مواد ذات علاقة