بقلم عمر سمير خلف

تتساءل هذه الورقة حول معادلات الأمن القومي التي نتجت عن التدخل المصري في ليبيا بعد ست سنوات من هذا التدخل وأية مصالح قومية تعززت جراء هذا التدخل؟

.الجزء الثاني

الأمن القومي المصري خطأ التأسيس وخطيئة الاصطفاف:

لا يدرك العديد من مروجي الرواية الرسمية المصرية أن ليبيا التي لا يرون شعبها يستحق الديمقراطية ولا الحرية ولا العيش الكريم الذي شارك بكثافة في التصويت في الانتخابات الأولي منذ 1965، وأنهم انتخبوا مجالس بلدية فاعلة وتمارس فعليا سلطة الدولة في مدنها وبلدياتها ويسيرون حياة الليبيين إلى الآن رغم القتال المتجدد والأوضاع المتفاقمة بينما مصر التي حلت المحليات في 2011 لا تزال بعد تسع سنوات من ثورة أو ثورتين وفقا لأغلب هؤلاءلم تنتخب أيا ممن يتحكمون في مواردها المحلية ولا يوجد فيها محافظ واحد أو رئيس بلدية منتخب ولا يبدو في الأفق أن هذا ممكنا قبل توافق الأجهزة السيادية على اختيار من يحق لهم خوض هذا الانتخابات المحلية وما يقولون أو لا يقولون قبل حتى التوافق على قانون المحليات.

ليس الليبيون أقل استحقاقا من بقية الشعوب العربية الأخرى لنظام ديمقراطي تعددي يستوعب الجميع، فعندما وضع الليبيون أمام أول  اختبار ديمقراطي بعد حكم ديكتاتوري دام أكثر من 40 عاما لنظام القذافي وترك شبه دولة بجيش منقسم، شارك قرابة 62% منهم في انتخابات المؤتمر الوطني العام الذي كان مسؤولا عن اختيار الجمعية التأسيسية وتسمية رئيس الوزراء وتنظيم استفتاء الدستور، بل اختاروا 16.5% من تشكيلة هذا المؤتمر من السيدات،

وبالرغم من سياق صعود تيارات الإسلام السياسي بقوة في العام 2012 سواء في مصر أو تونس أو المغرب وحتى في الأردن، فإن تحالفا ليبراليا هو الذي فاز بأغلبية حزبية الانتخابات الليبية الأولى عقب الثورة التي أدت لإنهاء حكم القذافي ومقتله شخصيا. وبلغ عدد المقترعين (1,768,605) وبنسبة مشاركة (62)% من عدد المسجلين بالسجل الانتخابي.

وتتأسس والرؤية المصرية الرسمية وحتى البحثية والإعلامية على مغالطة مفادها أن الإسلاميين وتحديدا تيار الإخوان المسلمين وحزب العدالة والبناء كانوا يسيطرون على الاستحقاقات الانتخابية السابقة على انطلاق عملية الكرامة التي أطلقها حفتر، وهذا زعم غير صحيح على الإطلاق، حيث فاز تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل ب39 مقعدا من أصل 80 خصصت للأحزاب السياسية وبفارق كبير عن تاليه حزب العدالة والبناء الذي حصل على 17 مقعدا فقط من المقاعد المخصصة للأحزاب، فهم لم يكونوا أغلبية في الاستحقاق الأول.

ويمكن القول أن نفوذ الإسلاميين الذي يختزله النظام المصري في تيار الإخوان المسلمين قد تقلص بشدة في الانتخابات الخاصة بالبرلمان والتي جرت في مايو 2014، فمع إصرار التيار المدني على اتباع النظام الفردي لانتخابات مجلس النواب تعمقت التوجهات القبلية والفيدرالية وانخفضت كتلة كلا من التيار المدني وتيار الإسلام السياسي في مقابل ارتفاع الأصوات الجهوية والقبلية والأصوات المحافظة المعادية للثورة،

بالإضافة لانخفاض نسبة المسجلين والمشاركين في هذه الانتخابات فقد بلغ عدد المقيدين بسجل الناخبين الالكتروني (1,509,317) ناخباً، بينما شارك (630000) ناخب في عملية الاقتراع أي قرابة ثلث من شاركوا بالانتخابات السابقة بنسبة تصل إلى (41)% ممن سجلوا أنفسهم،

ولم يحصل حزب العدالة والناء على أكثر من 30 مقعدا بينما حصل تحالف القوى الوطنية على 0 مقعدا والبقية ذهبت لأنصار الفيدرالية والتوجهات المحلية وهي نتائج ذات دلالة في سياق أجريت فيه الانتخابات في ضوء بوادر صراع مسلح وأعلنت فيه النتائج بينما كانت الحرب مستعرة بين عملية الكرامة وعملية فجر ليبيا واستخدام التيارات السياسية للقضاء تارة وللسلاح تارات أخرى في تعزيز رؤيتها للمرحلة الانتقالية مع تعاظم دوائر من يكفرون بالعملية السياسية وبالثورة أو من يتحسسون من الانقلاب على الثورة.

فإذا أضيف إليهم المستقلون المرتبطين بحزب العدالة والبناء وهم 17 فإن الإخوان لم يحصلوا على أكثر من 34 مقعدا فإذا أضفنا مقاعد السلفيين والقوائم الوطنية الصغيرة المرتبطة بهم رغم الاختلاف الجوهري بينهم يصبح مجموع مقاعد التيار الإسلامي 61 من 200 مقعد هي إجمالي مقاعد المؤتمر الوطني العام أي 30%

فإذا كان الإسلاميون أغلبية في المؤتمر فكيف لم تحصل حكومة مصطفى أبو شاقور المحسوب على التيار الإسلامي على ثقة المؤتمر وفشل في تشكيل الحكومة لمدة شهر واختفى عن مشهد الحكم؟ بل كيف لم يستطيعوا إقالة حكومة علي زيدان بعد استقالة خمسة من وزرائهم ورفض محاولات الاقالة وظل متمسكا بمنصبه فترة إلى أن أقاله المؤتمر الوطني العام في 3 فبراير 2014 ليحدث أزمة فراغ سلطة قبيل انقضاء المدة الدستورية للمؤتمر الوطني العام بأيام والتي سبقتها احتجاجات واصطفافات جهوية وعلى خطوط مع أو ضد الثورة.

وإذا كان هؤلاء يسوقون أن التدخل المصري بالشكل الحالي في المعادلة الليبية هو لحماية الأمن القومي لمصر فلماذا لا يخبرنا هؤلاء عن نتائج هذا الدعم بعد ست سنوات من بدايته؟ ولماذا لم يجر أي تقييم لهذه العمليات لا في البرلمان المستأنس الذي عينته الأجهزة السيادية المصرية ولا داخل هذه الأجهزة السيادية ذاتها التي يفترض بها المسؤلية عن هذه العملية؟،

لا يمكن لأي بلد اتباع سياسة ممنهجة لست سنوات دون تقييم نتائجها ودون إعلانها للرأي العام حتى في إطار الديكتاتوريات العسكرية التقليدية هناك قدر من التعامل مع الجمهور والرأي العام باعتبار أن أبنائه من يقاتلون في هذه العمليات أو أن موارده يتم إنفاقها في هذا الوجه ولا بد لها من مردود،

لا يذكر هؤلاء مطلقا أن ليبيا شبه المستقرة في مارس 2013 أقرضت مصر ثلاثة مليارات دولار في صورة 2 مليار وديعة لدى البنك المركزي المصري ومليار دولار وقود حيث كانت مصر تمر بأزمة تمويل وأزمة طاقة طاحنة استغلت لاحقا في الإطاحة بنظام مرسي،

فإذا كانت ليبيا شبه المستقرة قدمت لمصر هذا الرقم في ذلك التوقيت الذي لم تكن تتلقى فيه أي دعم مصري يذكر فماذا قدمت ليبيا حفتر لمصر التي دعمت استقرارها طوال 5 سنوات دفاعا عن أمنها القومي؟

يتباكي الكثير من المحللين ورجال الدولة المصرية على المصالح القومية المصرية في ليبيا دون تفنيدها أو إيضاح أبعادها وعلى أفضل تقدير فإنهم يقدمون المعنى الأمني باعتبار النظام المصري يحارب الإرهاب نيابة عن العالم في الداخل المصري وفي دول الجوار، وهي المقولة التي استهلكت لأكثر من ست سنوات وحتى حلفاء مصر الإقليميين في المسألة الليبية لا يبدو أنهم يثقون في هذه السياسة

فالإمارات تنفذ ضرباتها الجوية في ليبيا بنفسها سواء بقوات جوية أو عن طريق الدرونز وتبدو أقل اعتمادا على حليفها الاستراتيجي في مصر لتنفيذ مشروعها الذي يدور حول إفشال الثورات العربية بالأساس، كما أن السعودية بدت هي التي تقف خلف هجوم حفتر على طرابلس في أبريل 2019 دون تنسيق مع مصر.

وطوال سنوات سيطرة هذا الطرف شكليا على الحدود الغربية لمصر حدثت أسوأ عمليات اختراق للحدود وأكبر عملية إرهابية تستهدف قوى الأمن المصري وهي عملية الواحات البحرية في 20 أكتوبر 2017 انطلاقا من الأراضي الليبية والذي راح ضحيته 16 من قوات الأمن المصري وإصابة 13 آخرين وفقا للبيانات الرسمية المصرية.

 وهي العملية الأكبر ضد قوى الأمن والجيش في الصحراء الغربية، والتي سبقتها عمليات في المنيا بصعيد مصر كان آخرها حادث أتوبيس المنيا الذي أسفر عن مقتل 29 وإصابة 23 آخرين، وهي العملية التي قالت المصادر الأمنية المصرية أن التخطيط لها تم بمساعدة جماعات ليبية تعتنق فكر داعش.

 وهي العملية التي تضمنت دخول وخروج هذه العناصر عبر الحدود الغربية لمصر في الوقت الذي كان يدعى حفتر سيطرته التامة على الحدود وحماية مصر من الإرهاب أي أن هذا الطرف الذي ندعمه غير قادر على حماية الحدود،

بل إنه يمكن القول إن هذا الدعم هو أحد أسباب تأليب تنظيم داعش وأنصار الشريعة المتطرف ضد مصر واستهدافه للمصريين في ليبيا وخارجها وهي ما يقتضي مراجعة هذا الدعم وتنسيق أكبر مع حكومة الوفاق في استهداف هذه المجموعات تحديدا أو القيام بعمليات مباشرة لتصفية الحركات المتطرفة غير المنخرطة في العملية السياسية.

كما أن هذه الرؤية المحدودة للأمن القومي قوضت الجهود المصرية المتعثرة للوساطة فمنذ بداية أزمة الشرعية في ليبيا وتدخلها بدعم حفتر وانحيازها لبرلمان وحكومة طبرق فقدت مصر صفة الوسيط الذي يمكنه إحداث أي فارق في المعادلة الليبية فبرغم دعمها وبقوة لمسار مجموعة دول الجوار الليبي، والذي عقد أكثر من 12 اجتماعا إلا أنه لم يتوصل لأي اتفاقات بين الأطراف الليبية وبعضها كان يتغيب عنه بصفة متكررة،

أيضا فإن اعترافها على مضض بنتائج المسار الأممي واتفاق الصخيرات لم يمنعها من دعم حفتر رغم تزايد الاستياء الدولي من سلوكه المتكرر وتحذيره من الغارات المتكررة على طرابلس والمدن الليبية.

وهذا الموقف أفقد الجهود الدبلوماسية المكثفة أية قدرة على التأثير رغم كثافة الحركة سواء في المحيط الإقليمي والدولي فمن ناحية لا تستطيع إيجاد غطاء دولي للعمليات المصرية في العمق الليبي ومن ناحية أخرى فإن دعوات وقف التدخل الأجنبي في ظل التدخل الفعلي تصبح بلا معني ومن ناحية ثانية تعقيد الحوار تارة بطرح تقاسم السلطة والثروة على أجندته وتارة أخرى بربط مسألة غاز شرق المتوسط بالتدخل العسكري التركي،

وهي ليست في صالح مصر لآن هذا الربط صب باتجاه توافق روسي تركي أفضى لدور أكثر قدرة على فرض وقف إطلاق النار قبل مؤتمر برلين المزمع انعقاده في 15 يناير مع تجميد الأوضاع،

ومن ناحية ثانية فالتحركات المصرية لا تضمن موقفا أوروبيا موحدا في المسألة الليبية فالجانبان الفرنسي والإيطالي يمتلكان مصالح متناقضة بين عملاقي النفط التابعين لهما فشركة إيني إيطالية وتستحوذ على الحصة الأكبر من استخراج وتكرير وتصدير النفط الليبي وتحتفظ بعلاقات قوية مع المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لحكومة الوفاق، بينما تسعى فرنسا لتعزيز حصة شركة توتال والشركات الفرنسية الأخرى سواء في البحث والتنقيب أو عمليات إعادة الإعمار، بينما تقف مصر خاسرة وسط هذه المصالح الاقتصادية المتعاظمة والمتناقضة.

وبينما التدخل المصري المؤسس على فكرة عداء الثورات والتيار الإسلامي الذي صعد في أعقابها وتحويله لعدو إقليمي مستباح ويجب القضاء عليه في المنطقة بشكل أفشل كافة التوافقات الليبية دون أن يحقق أية مصلحة قومية مصرية أو يفرض استقرارا في ليبيا هو تدخل لحماية الأمن القومي المصري

فإن التدخل التركي هو غزو عثماني وكأننا في عهد مملوكي من التعامل مع الدولة القطرية القومية التركية باعتبارها دولة احتلال بينما تملك مصالح اقتصادية وتجارية في ليبيا أكبر بكثير مما تملكه مصر دولة الجوار المباشر لليبيا الأقوى عربيا والأعرق جذورا في تاريخ الدولة والبيروقراطية والجيوش، وتبحث لها عن شريك تعتمد عليه في دفوعها بأحقيتها في حصة دون استبعادها من مسألة غاز شرق المتوسط مستغلة علاقاتها بروسيا والانقسام الأوروبي حول المسألة الليبية حيث تختلف الرؤية الفرنسية عن نظيرتها الإيطالية والألمانية للأوضاع في ليبيا بينما لا يوجد موقف أوروبي موحد.

…….

البقية في الجزء الثالث

***

عمر سمير خلف ـ باحث مصري، حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، تخصص الاقتصاد السياسي

_____________

مواد ذات علاقة