بقلم يوسف محمد الصواني

تسعى الدراسة لبيان التحول الكيفي في التعابير الساخرة في الثقافة الشعبية الليبية عبر ما تم تبادله من رسائل نصية عبر الهواتف المحمولة. كما تهدف الدراسة إلى تقديم تفسير لهذا التحول ومضامينه وصلته بالوضع السياسي.

.الجزء الثاني

ثانياً: التعابير الساخرة والنكتة السياسة بعد إسقاط النظام: سلاح الضعفاء يقسمهم

مات القذافي ليتم بذلك إصدار شهادة الوفاة الرسمية لنظامه الذي أرهق الروح الشعبية لكنه لم يتمكن من وأد البذور الجنينية لنشوء روح السخرية والدعابة والنكتة في الحاضر الشعبي اليومي.

إسقاط النظام عبر التدخل الخارجي فسح في المجال أمام الليبيين فأثبتوا أن مكوّن التعابير السياسية الساخرة والطرافة أو المداعبة لم يمت تماماً، وإن كان لا يزال بحاجة إلى فترة أطول ليؤتي ثماراً إيجابية.

ورغم أن المرحلة الحالية لم تُظهر أي تعبيرات واضحة لأي مكوّنات كانت تعتمل تحت الأرض بالمستوى أو الدرجة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، فإنه يبدو أننا أمام ظاهرة تستحق الاهتمام لما لها من صلة بمسائل العلاقة بين المجتمع والدولة من ناحية ولصلتها بالسياقات العامة لعمليات التحرر من الشمولية والانتقال الديمقراطي من ناحية أخرى.

هذه الظاهرة تطرح أيضاً أسئلة حول الربيع العربي وحول عملية الاستقطاب التي سببتها الإطاحة بالقذافي في المجتمع الليبي.

يمكن الاستدلال على هذا التطور بما تم إنتاجه في الثقافة الشعبية اليومية من تعابير ساخرة أو طرائف ونكات غلب عليها الطابع والمدلول السياسي وتم تداولها على نطاق واسع في المرحلة التالية لإسقاط النظام من خلال الرسائل النصية الهاتفية التي تغني عن الحاجة إلى القيام بزيارة الأصدقاء والأقارب.

ظاهرة الاستقطاب تجاه القذافي ونظامه برزت واضحة للعيان خلال هذه الرسائل النصية التي تبادلها الليبيون بمناسبة أول عيد أضحى بعد إسقاط النظام ومقتل القذافي والتي يمكن أن نتبين منها أن القذافي ورغم تأكد مقتله ظل حينها يشغل الليبيين ميتاً مثلما شغلهم وشاغلهم وهو حي اثنين وأربعين عاماً وبقوة حضور لافتة للنظر.

يمكننا أن نلمس من خلال استعراض نماذج من هذه الرسائل النصية العيدية درجة الانشغال بالقذافي، حيث يبدو ميتاً منتهياً في قسم منها بينما يبرز حياً ماثـلاً للعيان في قسم آخر.

لا شك في أن هناك توتراً في الخيال الشعبي إزاء هذه المسألة وأن الجدل حول القذافي لم ينتهِ بعد رغم مرور عدة سنين على وفاته، بل قتله بطريقة بشعة بعدما تم أسره حياً وبأسلوب لا يمت بصلة لما تحتويه الثقافة اللليبية من قيم أخلاقية وإسلامية، وإن عبّر عن درجة الحقد والكراهية التي تراجعت أمامها كل تعاليم الإسلام عن قيمة النفس البشرية وقواعد الحرب ومعاملة الأسير وعدم جواز القتل بلا محاكمة عادلة.

يمكن القول بأن جلّ الرسائل النصية التي أُتيح لي الاطلاع عليها سجّلت الفرح الغامر بالخلاص من القذافي ونظامه.

لقد اختار القسم الأعظم التعبير عن فرحتهم برسائل نصية لكنهم اختاروا خروف العيد في الغالب لينطق بلسانهم ويعبر عن فرحتهم!! هذا بلا شك يذكّرنا بالفيلسوف الهندي بيدبا وقصته الشهيرة كليلة ودمنة حيث الحديث في السياسة يتم بلسان الحيوان.

كما يمكن هنا أن نتلمس آثار ممارسات وقمع القذافي، وهو ما يؤكد أن الدكتاتور يأخذ وقتاً أطول من موته البيولوجي لكي يختفي من المخيال والثقافة الشعبية.

تقول إحدى هذه الرسائل:

كبش العيد سعيد وطاير! فرحان بثورة فبراير!

كبش العيد امحول (أزال) صوفه خايف من قولة شفشوفة (إشارة للشعر المنكوش وغير المهذب للقذافي)!

كبش العيد ضحك من جده (أي بجد) قال زمان عمورة (معمر) عدّى (ذهب لغير رجعة)!

كبش العيد قال انعيّد خير ما يقولوا مؤيد (أي اتفادي وصفي بتأييد القذافي)!

كبش العيد اليوم اتهنى (ذاق الهناء) شفشوفة (تعبيراً عن شعر القذافي المنكوش) تفكّينا منه! (خلصنا منه).

بينما اختار بعض الليبيين ألوان العلم الجديد لليبيا أو رموزاً أخرى للتعبير عن الفرح بالتخلص من القذافي مثل قولهم:

«غلاكم عندي غير الغير (أي أحبكم ليس مثل حب الغير)، سلام كبير، ايجيك يطير، يرفرف بجناحات حرير، مخطط بألوان التحرير(ألوان العلم الجديد)»!

لم ينسَ الليبيون استخدام الرمزية والحديث بلسان الخروف أيضاً.

هنا يحضر القذافي شاخصاً بكل قوة حيث تستخدم وتوظف عبارات وكلمات من خطابه الشهير الذي هدّد فيه بملاحقة المتمردين على النظام والمتظاهرين في كل حارة وشارع وبيت.

من هذه الأقوال: «خروف ليبيا يتحدث لليبيين (وكأن القذافي يتحدث)!:

هذه آخرتها يا ليبيين: خرفان مرتزقة!

هذه آخرتها؟! سنزحف أنا والجديان (صغار الماعز) لتطهير الأسواق، سوق سوق، زريبة زريبة، سلخانة سلخانة (إشارة إلى قولة القذافي الشهيرة: زنقة، زنقة)، حتى نطهر البلد من التركي والروماني (الخراف المستوردة كأضاحي من تركيا ورومانيا)؟! أنا معي النعجات (إناث الغنم) ومعي الجديان! من أنتم؟ دقت ساعة الذبح، دقت ساعة الشواء، دقت ساعة العصبان (أكلة شعبية تصنع بأحشاء الخروف)! دقت ساعة القدّيد! إلى الأمام، كبدة، كبدة، وطني، وطني (خروف وطني).

هذه التعابير التي اتخذت من خروف العيد مادة لها ليست جديدة تماماً؛ فقد شهدت البلاد موجة مماثلة خلال عام 2009 عندما قرر القذافي مخالفة السعودية والمسلمين الذين كانوا يؤدون نسك الوقوف بعرفة والاحتفال بعيد الأضحى في يوم مختلف.

عبّر الناس عن عدم قبولهم قرار القذافي بجعل يوم الخميس أول أيام عيد الأضحى، ورغبتهم المشاركة مع المسلمين بالعيد يوم الجمعة. وفي تلك السنة انتشرت رسائل نصية عبرت عن الرفض الشعبي لقرار السلطات الاحتفال بالعيد يوم الخميس واتخذت الخروف بطـلاً لها.

من الأمثلة على ذلك:

«كبش العيد امنزّل دمعة.. حاير بين خميس أو جمعة»..

«كبش العيد كتب وصية.. قال الجمعة ضحوا بيا»..

«كبش العيد امنتش صوفه.. قال الوقفة مش معروفة»..

«كبشي قدم احتجاج.. يريد العيد مع الحجاج»..

«كبش العيد ركبله السكّر.. بين خميس وجمعة يفكر»؛

«كبش العيد كفكف دمعه.. وقال الذبحة يوم الجمعة»..

أما إحدى الرسائل فقد طرحت بسخرية حـلاً وسطاً لهذا الجدل عبر خروف صيني برأسين يذبح على يومين، تقول الرسالة: «بشرى سارة لليبيين.. تم تنزيل كبش صيني، دبل كبدة، ودبل راس، وينذبح على يومين، خميس وجمعة»‏.

من الواضح قوة التحاميل الرمزية في هذه النماذج أو العينات من الرسائل النصية التي تبادلها أغلبية مستخدمي الهاتف النقال أيام عيد الأضحى وهي معبرة بما فيه الكفاية للإشارة إلى أن القذافي وإن مات مادياً فهو يحضر في تمثلات التعابير الشعبية ولا يمكننا بطبيعة الحال القول بأن هذه التعبيرات ستعيش طويـلاً، لكن يمكن القول بأنها تعكس بداية تغير في المزاج السياسي في مستواه الشعبي.

وما يعزز هذا التطور الوجه الآخر أو المضاد لظاهرة الاستقطاب التي أشرنا إليها.

هنا نعرض عيّنات لرسائل نصية هاتفية تداولها ليبيون يمكن الإشارة إليهم لا على أنهم «مؤيدون للقذافي أو أزلامه»، مثلما يوصفون من قبل الأطراف والقبائل أو المدن والتيارات التي عدّت ذاتها منتصرة.

بل قطاع لا يمكن تجاهله من أبناء البلد الذين تبرز هذه الرسائل النصية التي تبادلوها الحاجة إلى تدابير لاستيعابهم وليس استبعادهم ووصفهم بنعوت غير لائقة منذ 2011 خدمت الأجندة السياسية القبلية والجهوية أو السياسية لبعض أطراف الصراع.

تعكس الرسائل ميـلاً إلى استحضار القذافي واستدعاء مكونات سياسته على جميع المستويات.

إن هذا يبين أيضاً تأثيرات السياق الذي قتل فيه القذافي وملابسات الدور الخارجي في إسقاط النظام على مخيلة قطاع غير محدد من الليبيين، وما لذلك من انعكاسات على أية سياسة تتبناها السلطات اللاحقة تجاه المناطق المنكوبة أو تجاه المصالحة والعدالة الانتقالية ومحددات المشاركة السياسية.

.

يتبع في الجزء الثالث

***

يوسف محمد الصواني: أستاذ العلوم السياسية، ومدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.

____________

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 476 في تشرين الأول/أكتوبر 2018.

مواد ذات علاقة