بقلم يوسف محمد الصواني

تسعى الدراسة لبيان التحول الكيفي في التعابير الساخرة في الثقافة الشعبية الليبية عبر ما تم تبادله من رسائل نصية عبر الهواتف المحمولة. كما تهدف الدراسة إلى تقديم تفسير لهذا التحول ومضامينه وصلته بالوضع السياسي.

.الجزء الثالث

إن ما جرى من أحداث عنف واقتتال وسقوط ضحايا خلال السنوات اللاحقة لإسقاط النظام بين مناطق وقبائل ليبية مختلفة، وبخاصة في جنوب البلاد وغربها، أو بين من تم وصفهم بالمدن والمناطق الثائرة أو المنتصرة وتلك القبائل والمناطق الأخرى التي لا يزال يجري وصفها بأنها تضم مؤيدي أو «أزلام القذافي» يمثل نوعاً من العنف الذي نجد له أيضاً تأسيساً في النكتة والطرفة ولغة التهكم السياسي التي بدأت تنتشر بين السكان.

إن ما جرى في ليبيا لم يكن في الواقع صراعاً بين ثوار وبقايا مؤيدين للنظام المنهار بقدر ما كان تعبيراً عن صراعات ذات طابع قبلي، أو صراع جماعات من أجل السيطرة والنفوذ، وبخاصة بعد ما تبين أن ما قامت به أطراف سياسية أو أيديولوجية معينة كان يستهدف التأجيج وإخافة تلك المناطق والقبائل التي تمثل ثقـلاً سكانياً هائـلاً تمهيداً لاستبعادها من العملية السياسية التي توصف تجاوزاً بأنها ديمقراطية.

ما يمكن الإشارة إليه هو أن لغة التعابير السياسية الساخرة التي تبرز الآن لا تنفصل أيضاً عن أجواء التوتر السياسي والقبلي أو المناطقي الذي يصبح أكثر خطراً لامتشاق ممثليه السلاح في كل مكان.

من هنا تكتسي التعبيرات التي نوردها هنا من نماذج هذه الرسائل النصية الهاتفية خطورة عالية إذا ما تبين أنها انتشرت في مناطق محددة من ليبيا لتكون تعبيراً عن حالة من الشحن العاطفي في مواجهة محاولات الإقصاء أو الاستبعاد السياسي مثـلاً.

تشترك هذه الرسائل الهاتفية مع ما عرضنا له في ما تقدم في الأسلوب واللغة والرمزية أيضاً.

من ذلك مثـلاً:

«كبش العيد طلع مؤيّد (مؤيد للقذافي) وقال بدون معمر ما نعيّد!!

كبش العيد دار (عمل) إعلان وقال ما نعيّدش مع الجرذان! (أي لن يشارك (الجرذان) الثوار العيد).

كبش العيد يبكي ويتمنى قال العقبة لبو شنة (العاقبة بالذبح لمصطفى عبد الجليل الذي قاد المجلس الانتقالي)

كبش العيد دائماً زعلان، قال كله (أي كل ما يحدث) من الجرذان (بسبب الثوار)!

كبش العيد حلف يمين بلا معمّر العيد حزين! كبش العيد يعيط (يصرخ) ووووه وووه راهو (إن) قائدنا قتلوه!!

من الواضح أن هناك تحولاً ما في الطريقة التي يتفاعل بها الليبيون مع الشأن السياسي معبراً عنه هذه المرة وفي مناسبة العيد بالموقف من القذافي.

هذا التحول يستحق المتابعة وانتظار آثاره المحتملة على الثقافة السياسية الليبية، وعلى دور الفرد في الشأن العام، وترجمة ذلك على مستوى العلاقة بين المجتمع والدولة.

هذا الأمر يكتسي أهمية مرحلية ومستقبلية، وخصوصاً أن ليبيا تمر بمرحلة انتقالية تتميز بالعنف والانقسام، ولكنها مع ذلك تبقى الإطار الزمني والموضوعي الذي سيتم فيه إقرار قواعد اللعبة السياسية والمستقبل السياسي لهذا البلد بوجه عام.

إن لهذا أهمية كبيرة، خاصة إذا ما عرفنا أن بعض النكت أصبحت تجد مادتها في ما قامت به قبائل محددة أو سكان مناطق معينة من أعمال خاصة، بعد سقوط آخر معاقل النظام في طرابلس من سرقة ونهب للممتلكات العامة والخاصة، أو ما قامت به عناصر أو مكونات من قبائل ومناطق أخرى من أعمال باسم الثورة، رغم أنها كانت غير مساندة لها في البداية.

الحقيقة أن التعبيرات التي تستخدم في هذه الحالة هي من الحساسية التي تجعلنا نُحجم عن إيراد أيٍّ منها هنا لما في مفرداتها من إثارة للنعرات.

كما تُظهر التعابير الساخرة والنكت السائدة اليوم أبعاد الصراع الذي انطلق منذ 2011 بين قوى الإسلام السياسي وقوى التطرف الديني العنيف من جهة والقوى الوطنية أو الليبرالية والجهوية من جهة أخرى.

ومع أنه ليس ممكناً اعتبار هذه الأخيرة قوى علمانية أو معارضة لإعطاء الإسلام مكانته في مجتمع كله من المسلمين، حيث تؤكد وتطالب بأن تكون الشريعة مصدراً للتشريع ورفض ما يخالفها، فإنها كانت، ومنذ 2011 وقبل أن يصمت دوي المدافع والرصاص، هدفاً لهجوم قوى الإسلام السياسي وحلفائهم في الداخل والخارج لإزاحتهم من المشهد والقضاء عليهم كمنافسين بوصفهم علمانيين، وربما ملحدين، سيقودون البلاد إلى الهاوية والليبيين المسلمين إلى جهنم إن هم انتخبوهم واختاروهم لقيادة البلاد.

من هنا تبرز أهمية الإشارة إلى بعض التعليقات التي تداولتها الرسائل الهاتفية النصية في العيد والتي تناولت بقدر من التهكم وروح الدعابة ما جاء في خطاب رئيس المجلس الوطني الانتقالي بمناسبة إعلان تحرير ليبيا من نظام القذافي.

لقد صورته بعض هذه الرسائل الهاتفية دكتاتوراً جديداً أو حاكماً بأمره، بينما ركزت رسائل أخرى على ما رآه كثير من الليبيين من اختيار غير موفق من طرف المستشار مصطفى عبد الجليل لقانون الزواج والطلاق كنموذج للقوانين الظالمة التي ينبغي إلغاؤها لعدم موافقتها للشريعة واضطراره لاحقاً إلى تعديل ما قال. استهجنت رسائل الليبيين الفكرة التي رأى فيها ليبيون ليبراليون، ومواطنون عاديون أيضاً، إشارة غير مريحة إلى ما يمكن توقعه من فرض لرؤية معينة بشأن التشريع.

من هذه الرسائل تلك التي تقول:

«الولد (الشاب) الليبي يغني ويقول ثورتنا زين على زين وتتزوج واحدة واثنين!!»، والبنت الليبية تقول:

يا قذافي ولي ولي (ارجع) ما نبوش (لا نريد) الحاج متولي!! (إشارة إلى المسلسل التلفزيوني المصري عن شخص باسم الحاج متولي متعدد الزوجات والذي قام ببطولته نور الشريف)، وهنا إشارة واضحة إلى موقف النسوة من مسألة تعدد الزوجات.

بينما تستفيد رسالة أخرى من أخبار سورية لتمس ذات الموضوع قائلة:

«واحد قال لزوجته مساكين السوريات (النساء في سورية) تشرّدن في الحرب! الواحد (الليبي) كان يأخد زوز منهم يربح فيهم أجر (لو يتزوج الليبي اثنتين من سورية يحصل له الأجر) قالت له زوجته: كان قلبك طيب لهاذي الدرجة (لو كنت حقاً طيب القلب) الزواج بالصوماليات أكبر أجراً!، مجاعة وعشرين سنة حرب!!! (واضحة إسقاطات اللون ومفهوم الجمال هنا).

ولم يفت هذا القطاع من الليبيين أن يسجل رأياً حول مقتل القذافي وابنيه خميس والمعتصم مثلما اتخذ ذلك مناسبة للتعبير عن موقف وإن بدا عليه الوهن، فإنه يسجل وقائع لا يريد نسيانها حتى في مناسبة العيد بدون القذافي.

الأهم هنا هو الحرص على استدعاء الدين من خلال الإشارة للشهادة والجنة التي تنتظر القذافي وأبناءه.

من هذه القول:

«يا عيد عيد الناس مانك عيدنا (الناس تحتفل بالعيد وهو ليس عيد لنا) الناس عيدت ونحنا استشهد سيدنا (القذافي). استشهد وراح خسارة هو وخميس ومعتصم في غارة (ماتوا بفعل غارة لقوات الناتو)، بجاه ربنا الشعب يأخذ بثاره!! هم تريس (رجال) وماتوا غدارة (غدرا)، وارفع رأسك يا مؤيد ومعمر في الجنة امعيد (يحتفل بالعيد).

.

يتبع في الجزء الثالث

***

يوسف محمد الصواني: أستاذ العلوم السياسية، ومدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.

____________

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 476 في تشرين الأول/أكتوبر 2018.

مواد ذات علاقة