بقلم يوسف محمد الصواني

تسعى الدراسة لبيان التحول الكيفي في التعابير الساخرة في الثقافة الشعبية الليبية عبر ما تم تبادله من رسائل نصية عبر الهواتف المحمولة. كما تهدف الدراسة إلى تقديم تفسير لهذا التحول ومضامينه وصلته بالوضع السياسي.

.الجزء الرابع

ثالثاً: التعابير السياسية الساخرة وسياقات الصراع والعنف

يدخل الليبيون أعتاب مرحلة جديدة يشمل فيها التغيير كل شيء، حيث من الطريف أنهم يستعملون القذافي لأغراض مختلفة في آن واحد! إلى أي مدى سيظل القذافي حاضراً في خيالهم ومخيالهم وثقافتهم الشعبية أمر سيتحدد بلا شك بقدرة القادة الجدد على إعلان موت القذافي السياسي والمؤسسي والشعبوي إلى الأبد، وذلك مرهون بقدرتهم على مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية بنجاح يستوعب كل الليبيين ويبدأ في بناء وطن للجميع.

إن تجربة السنوات التالية لإسقاط النظام لم تعزز أو تفتح آفاق التحول الديمقراطي السلمي وإنجاز العقد الاجتماعي الجديد، بل جلبت للواقع معاول هدم كثيرة وساهمت في إماطة اللثام، أو إحياء ما كان قد تراجع من تصورات، عن الذات والآخر في الداخل والخارج ولم تؤدِّ في النهاية إلا إلى الاصطدام بواقع مخالف للآمال والطموحات والتوقعات.

إن أي فشل في تحقيق هذه الأهداف ومعالجة التحديات الواقعية المرتبطة بها من شأنه أن يفسح في المجال لمضامين أخرى حرصت إحدى الرسائل النصية الهاتفية على تسجيلها.

هذه الرسالة تقدم تعريفاً للفرد الليبي بطريقة تستدعي السياسة بكل معانيها وأبعادها في الماضي والحاضر والمستقبل، مثلما تعكس ميـلاً إلى عدم المبالاة السياسية يهدد الطموح بإقامة ديمقراطية تقوم على المشاركة الفاعلة للمواطنين:

«تعريف الليبي قبل الثورة: هو كائن حي مكروه دولياً، مظلوم محلياً، مفلس مادياً، مشتت ذهنياً، فاشل عاطفياً، فارغ علمياً، متكهرب (متوتر) يومياً، يسمع بقروض وزيادة رواتب شفوياً، مريض نفسياً، مش فاضي (مشغول) كلياً، مكسد (حالة كساد) يومياً، ما عنداش (ليس لديه) رصيد نهائياً (رصيد هاتف)».

الأكيد أن الليبيين يطمحون إلى وضع أفضل على جميع المستويات. إن الأوضاع الحالية لليبيا ليست متوافقة لا مع طموحات وآمال أولئك الذين انتفضوا ضد نظام القذافي، ولا أولئك الذين يعتبرون ما تم مجردّ عمل خارجي قاده الناتو بمشاركة أطراف عربية لتدمير دولة قبل أن يكون مجرد استهداف لنظام دكتاتوري، أو أولئك الذين يعتقدون بشعبية الانتفاضة لكنهم يرونها تم استغلالها وتوجيهها دولياً وإقليمياً لخدمة مشروع لا علاقة له بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لذلك نجد اليوم صفحات التواصل الاجتماعي الليبية تعكس هذا الانقسام، وتنذر بصراع متواصل وتشظٍّ يهدد التماسك المجتمعي الليبي، ويهدد أسس الدولة الليبية ذاتها.

تعكس التعابير السياسية الساخرة اليوم هذا التشظي والانقسام المتصاعد، ويظهر ذلك واضحاً في تعبيراتها المختلفة. هذه التعبيرات تتميز عن سابقتها زمن القذافي بتحررها، ولو مؤقتاً، من الخوف والرعب الذي كانت تثيره مجرد محاولة التفكير في الاستهزاء بالنظام وانتقاده ولو على سبيل النكتة البريئة. لكن هذه النكتة التي أضحت أكثر انطلاقاً لا تزال تحمل عبء الخوف من المستقبل وأحياناً التحسر على الماضي.

ومع أن التعابير المرتبطة بالقذافي بشكل مباشر، أو التي تتحسر على إسقاط نظامه؛ بما يمثله لقطاعات عريضة من الليبيين من يسر العيش والأمن ومجانية الخدمات وتمسُّك بالسيادة الوطنية، قد تراجعت بعد مرور عدة سنين على وفاته، فإنها لم تختفِ تماماً.

فقد شهد عيد الأضحى لهذا العام بروز تعابير ورسائل نصية جديدة ساخرة؛ زاد من حضورها الوضع الأمني والسياسي المتدهور والمنذر بما هو أسوأ على كل المستويات، علاوة على أزمات السيولة والغلاء الفاحش للأسعار وعدم تمكن العائلات من تأمين سعر الأضحية.

من بين تلك التعابير الساخرة القول بأن على المواطن الليبي الذي يدخل إلى سوق بيع الماشية ويخرج منه بدون أن يتمكن من شراء الخروف أو الشاة الأضحية، أن يقول دعاء الخروج من السوق »!

المواطن الذي يرى القهر بأم عينه في رابعة النهار والميليشيات تزدريه وتحتقره وتكيل له أبشع أنواع العنف المادي واللفظي وهو يقف في الطابور الطويل أمام البنك ليتمكن من الحصول على دنانير قليلة من حسابه الشخصي، وما إن يبدأ بعدِّها إلى أن يصل إلى الرقم 16 فيتجاوز الرقم 17 مستعيضاً عنه بتعبير «نهار أحرف» ثم يواصل عد نقوده فيصبح هذا التعبير كناية عن رغبة في عدم تذكر يوم 17 فبراير الذي انطلقت فيه الاحتجاجات ضد نظام القذافي في 2011 باعتباره يوم شؤم وسوء طالع.

بينما يشير تعبير آخر إلى معنى مماثل فيقول «فبراير كيف السروال العربي لما تعوم به جو مليح وخفة، وبعدما تطلع يفضحك ويعرّيك.. بالضبط خشينا نعوموا (سبحنا في البحر) في الحرية قعدنا بلا ضي ولا امية (أصبحنا بدون كهرباء ومياه شرب)، أي أن فبراير (الانتفاضة) مثلها مثل السروال العربي (البنطلون الشعبي الليبي المصنوع من قماش خفيف إذا ابتلّ يكشف ما تحته من الجسد)، إذا سبحت وأنت ترتديه فهو خفيف ولا يعيق الحركة، لكن بمجرد الخروج من البحر فإنه يكشف عورتك أو يعريك أمام الخلق.

وذلك تعبيراً عما يعتقده قطاعات عريضة من الناس أن الانتفاضة لم تحقق ما حلموا به بل جعلتهم عرايا، كناية عن غياب الحرية والافتقاد لما كان مضموناً أيام القذافي من ضرورات الحياة كالكهرباء ومياه الشرب، أو السلع المدعومة والوقود والعلاج المجاني وهي خدمات أو حاجات أضحت بعيدة المنال.

أما التردي الذي لحق بالوضع الاقتصادي وأثر سلبياً بشكل هائل على معيشة الأغلبية فقد كان هو الآخر موضوعاً لآخر موجة من التعابير الساخرة خلال العامين الماضيين.

هكذا يتم التعبير عن أزمة عدم توافر رغيف الخبز والغلاء الفاحش الذي أصابه بكاريكاتير يصوِّر جدْياً (صغير الماعز) وهو يقف بباب أحد المنازل حيث طفل صغير فيخاطبه الجدْي قائـلاً: «اسأل أمك عندكم خبز؟ قتلنا الشر» (لقد فتك بنا الجوع)، وذلك في إشارة إلى أزمة رغيف الخبر وارتفاع أسعاره ونقص وزنه عن المحدد قانوناً بعدما كان الليبيون يطعمون المواشي الخبز لوفرته ورخص سعره.

بينما يصور رسم كاريكاتور آخر شخصاً وهو غارق تماماً في مياه آسنة لكنه مع ذلك يرفع كلتا إبهامَي يديه راسماً علامة تبين أن كل الأمور على ما يرام، وذلك كناية عن أن الليبي البسيط يبقى صامتاً ولا يجاهر بالرفض أو الاحتجاج رغم أنه غارق في وحل الأزمة الاقتصادية الخانقة والغياب شبه الكامل للأمن، بل ويظهر أنه راضٍ عن الأوضاع المزرية رغم مرور عدة سنين على إسقاط النظام.

نجد اليوم الليبيين، وهم يعيشون الارتدادات السلبية المدمرة لما حصل في 2011، يعبِّرون بسخرية وهزل سياسي عمّا يواجهونه من خوف وانعدام للأمن وهيمنة لقوى التطرف وسطوة للميليشيات، ناهيك بالفساد المستشري بمستويات غير مسبوقة وانسداد الأفق السياسي وتهديد الكيان برمَّته.

تلك التعابير كما تتجلى في الرسائل النصية الهاتفية مثـلاً، وإن عبّرت عن حالة المواطن المسحوق الذي أصابه الإحباط، وربما اليأس من أي أفق للتغيير الإيجابي وبناء دولة المواطنة والحقوق والتنمية، فإنها تتأثر بأجواء الرعب والخوف وتراجع مستوى حرية التعبير التي تلت إسقاط النظام ولفترة محدودة؛ حلّت محلها هيمنة لقوى سياسية أرادت فرض رؤيتها على الجميع بدعاوى الثورة أو الديمقراطية أو الإسلام، فصادرت حرية التعبير وكمّمت أفواه المثقفين والصحافيين والنشطاء، وأصبح من اليسير قتل، أو تغييب أو خطف هؤلاء، بل والمواطن العادي، لمجرد تعبيره عن رفض أو ازدراء الواقع المؤلم، أو رفضه واستيائه من هيمنة تلك القوى التي لا تعدم وسيلة لاتهامه باستعمال حجج تتصل بالانقسام السياسي أو الأيديولوجي.

هكذا تعود ليبيا للمربع الأول، ويمكن لنا أن نتمثل مجدداً ما قاله فاتسلاف هافل عن نظام «ما بعد الشمولية» والصراع بين آمال الناس وطموحاتهم ومصالح ورؤى القوى المهيمنة والمتصارعة التي لا تأبه لمعاناة الناس وحرمانهم وتراجع قدرة المواطن الليبي عن تأمين حاجته الأساسية.

ومثلما تقرر مبروكة الورفلي فإن التعابير السياسية الساخرة في ليبيا في عهد القذافي عكست القيود على الحريات والتعبير وغياب وسـائـل التعبير الحر فكانت «وسيلة للمقاومة كونها تتصدى للخوف والاضـطـهـاد والقمع وتسعى لخلق توازن نفسي لدى الفرد والجماعة. فهي بإيجاز، مقاومة الخوف والظلم بالضحك والسخرية المتحفظ من الضحك». ورغم التغيير الكبير الذي حصل في 2011 وما صاحبه من تحولات في المزاج الليبي وفي سمات الثقافة السياسية السائدة، فإنها ليست سوى أحد أسلحة الضعفاء.

الوضع اليوم يذكرنا بما كان عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عندما تعرّضت ليبيا لشحّ الموارد وللعقوبات الغربية عليها بحجة الانخراط في الإرهاب ودعمه.

التعابير الساخرة التي ظهرت حينها بدت جديدة على الثقافة الشعبية الليبية التي بدأت أولاً في تلييب النكت السياسية المصرية وتبيئتها لتنطلق بعدها اليوم إلى النكتة الليبية الصرفة. «فالسخرية لم ِ تأتِ بشكل النكتة المباشرة فقط بل أخذت أيضاً طابعاً تراثياً يعمل على استغلال شهرة قصيدة أو نشيد ذائع الصيت أو أغنية ومن ثم تحريف كلماتها لتحمل جوهر الرسالة المراد إيصالها»‏.

حينها كانت السخرية صارخة وربما عدوانية تجاه النظام وسياسات التقشف والتضييق على العباد في حياتهم وتراجع مستوياتهم الحياتية وما واجهوه من شح ومكابدة للحصول على الضروريات، بينما تراجع مستوى خدمات التعليم والصحة وغيرهما من القطاعات الحيوية بصورة مخيفة، مع انتشار للفساد غير المسبوق في مستوياته وانتشاره وانهيار للبنى التحتية، وهي الظواهر نفسها التي يعيشها المواطن الليبي اليوم بعد سنين من إسقاط نظام القذافي الذي لا يمكن المجادلة الآن في أنه كان إسقاطاً للدولة أيضاً.

وبينما يتبادل الليبيون الطرفة أو النكتة بـسخرية مريرة فإنها تُعبّر عن يأس الليبيين من إصلاح الطبقة السياسية الحاكمة اليوم، فقد صاروا أكثر لجوءاً إلى التعابير السياسية الساخرة للتعويض عن الإحساس بـنتائج وآثار إخفاقات أداء قادة وساسة ما بعد القذافي، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي‏.

وكما تستخلص مبروكة الورفلي، فإن التعابير السياسية الساخرة منذ ٢٠١١ لم تعد مقتصرة على انتقاد الساسة أو السلطة، بل إن نطاقها اتسع ليشمل «السخرية من الـذات، وعبر عن إحباط الشعب من نتائج ثـورة فبراير».

كما تعبِّر عن خيبة الأمل من أولئك الساسة الذين كانوا معارضين للقذافي طوال عقود من الزمن وينتقدون مظالمه؛ إلا أنهم وبمجرّد أن ذاقو حلاوة السلطة ومغرياتها رفضوا التنازل عنها أو أصبحوا أكثر فساداً ويرتكبون أعتى المظالم والجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، التي اعتبرتها منظمات حقوقية ترتقي لجرائم الحرب.

هكذا تدخل التعابير السياسية الساخرة في ليبيا مرحلة جديدة وتقوم بوظائف لا تختلف عمّا كانت تؤديه في الماضي، إنها مجرد سلاح الضعفاء الذين لا قوة لهم.

الطرفة والتعابير السياسية الساخرة في ليبيا مرشحة ومؤهلة للتطور لتتخذ مضامين أكثر إحاطة بالوضع المتدهور، وسط الآمال المتكسرة على صخرة التنافس على السلطة والموارد والتدخل الأجنبي.

ولكن دون أن تتحرر من الخوف والحذر الذي لازمها منذ عقود مضت. لن يتغير الوضع إلا إذا تمكن الساسة وأمراء الحرب والميليشيات من تصحيح الأخطاء والتنازل عن مواقعهم لصالح مشروع وطني جديد يعيد الاعتبار للناس وقضاياهم بديـلاً من الصراع «والمساهمة في المصالحة الوطنية لبناء ليبيا الغد وإعادة البسمة لشفاه الليبيين»‏.

***

يوسف محمد الصواني: أستاذ العلوم السياسية، ومدير الدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية.

____________

نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 476 في تشرين الأول/أكتوبر 2018.

مواد ذات علاقة