بقلم عمر الحاسي

لقد اتضح بما لا يدع مجالا للشك، وعبر تجربة معاشة دامية ومفجعة، أن اليمين العربي بملوكه وأمرائه هو من يقوم ويدعم حروب الوكالة ضد شعوب ثورات الربيع؛

وذلك لإعادة ديكتاتورية حكم الانقلابيين المدعوم بفكر الدينيين الملوث؛ ومزاعم العشائر المتخلفة، كي يعاد استنبات الاستبداد العسكري حكما بغيضا فوق مقابر الشهداء؛ الذين ضحوا في ثورات الربيع من أجل تحرر شعوبهم من حكم العسكر الأسود بعد سنين الألم الطويلة.

لقد نجح اليمين العربي مستخدما كل الأدوات المميتة بإعادة حكم العسكر في مصر، وكادوا في ليبيا، إلا أن بنادق الثوار فيها مازالت تقاوم هنا وهناك ببطولة نادرة.

لقد أنفق اليمين العربي بملوكه وأمرائه المليارات من العملات الصعبة من أجل تدمير كل من سوريا واليمن ومصر وليبيا، ومازالوا يتآمرون على بقية الشعوب الحرة بالمنطقة، كي لا ينتشر وعي الثورة فتنفجر ثورات ربيع أخرى داخل ممالكهم ودويلاتهم التي ينخرها سل الطغيان الجاهلي.

دويلات تحكمها أنظمتهم الملكية والأميرية بتركيبات قبلية متكلسة عقليا، التي يمثل تثبتها بالسلطة خرقا واضحا لحقوق الإنسان، وتمارس قهرا بغيضا يحجب الحرية السياسية عن شعوبهم، في الحق بانتخاب شخصيات متنورة من الرجال أو النساء، عبر دساتير حرة وعصرية ومتطورة.

إننا في ليبيا بات لدينا يقين أن أسباب نجاح الثورة أو حتى أسباب إخفاقها ليس مرتبطا بشؤون ليبيا الداخلية فحسب، بل هو مرتبط بكل التعثر بمشاريع ثورات الربيع بالمنطقة المجاورة والإقليمية.

ومع هذا فقد تحققت لدينا في ليبيا أشياء عظيمة، لا يمكن أن ننسبها لقيادة مفردة فقط، ولكن لجزء من شعبنا البطل، وهو الجزء الواعي والمرتبط مع منظومة كل الشعوب التي اتحدت برؤية حداثية متنورة؛ وترى المستقبل بمرحلة ما بعد الديمقراطية.

نحن في ليبيا استطعنا أن نفهم جزءا كبيرا من التجربة؛ وأن نتعلم من مرارة النكسة أكثر مما نتعلم من لذة النصر، فعلى الرغم من أن هذه التجربة لم تنضج بعد لتمنحنا ثمارها في دولة مدنية متنورة، إلا أنه يمكن رصد ما حققته الثورة في ليبيا على النحو الآتي:-

1. إن هناك جزءا من الليبيين لديهم الرغبة في عدم تكرار تجربة الحكم العسكري، ولديهم طموح صادق من أجل قيام دولة مدنية بدستور متحضر، وهم يقدمون الشهداء من أجل تلك الرغبة المكلفة، لكن في المقابل هناك جزء آخر من الليبيين يريد العودة لحكم الديكتاتورية العسكرية، ولو كانت دون دستور، وذلك بسبب إيمانهم المغلوط أن قيمة الأمن أولى وأهم لديهم من قيمة الحرية!

2. إن فكر الأحزاب الدينية، المُعتدل والمُتشدد على السواء، كان ومازال ناقصا ومتناقضا، ولا يصلح لبناء دولة مدنية مستقبلا، بل وكشف عن تلاعب بعضهم في التحالف مع الطغاة ومد أياديهم سرا لمصافحة أكثر من سفاح، يقود ثورة مضادة إذا اقتربت قواته من دخول معاقلهم، هذا بالإضافة إلى استباحة بعضهم للمال العام.

لقد كشفت ثورات الربيع عن فجوة عقلية واضحة بين مدارس الفكر الديني، فبعض من يطلق عليهم علماء الأمة وبالذات المؤيدون للثورة المضادة، أمر بشن الحروب الدينية المقدسة على كل من شارك في ثورة ربيع ببلده، وحلل هؤلاء العلماء انتهاك أعظم المحرمات: كالعقل؛ والجسد؛ والعرض؛ والممتلكات لدى خصومهم من الدين الواحد؛ وبالمذهب نفسه، وبالمدرسة الفكرية ذاتها.

كتب الطبيب والمؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون؛ (إن القسوة والتنكيل والانتقام وعدم التسامح بين أنصار المعتقدات المتقاربة من دين واحد، تكون أشد مما هي بين أنصار الأديان المختلفة).

3. إن الأفكار السياسية التي جاء بها بعض من كانوا في (مهجر المعارضة)، هي أفكار غير متفقة فيما بينها، وسنوات الغربة والمعارضة لم تكن قد طورت وعيهم السياسي في مشروع سياسي متنور ينقذ شعوبهم التي عانت من طغيان العسكر، بل إن بعضهم اليوم هو من أشد الداعمين لعودة حكم العسكر، وبات بعضهم يرى أن حكم الطاغية العسكري هو الأمثل لشعوب العالم الثالث المتخلفة.

4. إن هناك دولا عربية قدمت دعمها المالي والإعلامي لجماعات دينية ولرموز دينية، كي يكون لها دور مؤثر سياسيا في ليبيا، وكي تكون بديلا أمام الليبيين ضد عودة حكم العسكر، وتناست هذه الجماعات أن الليبيين لم يفقدوا ذاكرتهم بعد، فهذه الجماعات ورموزها كانوا أهم رافد للاستبداد العسكري قبل ثورة الربيع، وأنهم منحوا الطاغية قبل عام 2011م كل المبررات الدينية والشرعية الملوثة، كي يورث ليبيا لأبنائه الفاسدين.

إن العمل من أجل منح دولة وشعب لحزب ذي توجهات دينية مشكوك في نقائها، هو خطأ استراتيجي ترتكبه الدول الداعمة لهم، وسيفسد عليها العلاقة مع ليبيا مستقبلا لتأديتها دورا مشبوها يمسّ سيادة ليبيا، مهما كانت المبررات.

5.أسوأ ما في الوضع السياسي وتجربة الحكم في ليبيا بعد ثورة الربيع، أن قضية الحكم في ليبيا اختلطت لدى الكثيرين، وظن بعضهم أنها صراع بين كتلتين: واحدة تطالب بعودة (حكم العسكر)؛ والأخرى مجموعات متشددة تطالب (بحكم ديني)، وهذا يمثل تشويها لإرادة الليبيين الأحرار الذين يرفضون النموذجين معا، فليبيا لن تعود لحكم العسكر المستبد، وليبيا أيضا لن تقبل حكم الجماعات الدينية المنقسمة دمويا وفكريا.

6. إن دولا عربية وأخرى أفريقية مجاورة لليبيا استغلت الأزمة السياسية في ليبيا، لتجعل من ليبيا مكبا لنفاياتها البشرية، سواء أكانوا معارضة مسلحة أم جماعة دينية متطرفة لمجرمين مطلوبين بمحاكم دولية، وهو تضخيم كارثي للأزمة، فتصدير المشاكل إلى ليبيا لا يعني التخلص منها، ولكن زيادة نشرها ومنحها مناخا مناسبا، كي تكبر وتتطور في مساحات جغرافية مترامية ومنفتحة على جيران آمنين.

7. لعل ما يثير القلق لدى الليبيين، أن الأزمة الليبية لن تكون قضية تخصهم وحدهم، فكثير من دول الجوار وبعض الدول الإقليمية العربية ودول غربية وهيئات عالمية، تحاول حل القضية الليبية بشكل دموي يتناقض مع خطاب نشر السلام الذي تدعيه تلك الدول، بل لعل ما يثير الرعب أن تهرع منظمة الأمم المتحدة لمصافحة ومعانقة السفاح، الذي يقصف بشكل عشوائي المدارس والبيوت ومراكز الإيواء والمستشفيات فيقتل الأبرياء، وفي الوقت نفسه تؤجل احترامها لمطالب الجسم الشرعي الذي نصبته عبر قراراتها الدولية.

ليس ثمة شك أن الأحرار من الليبيين اليوم يبحثون عن حل يلغي عودة حكم العسكر الدموي، وكذلك إيقاف استمرار التلاعب الكاذب الذي تقدمه الجماعات الدينية المزيفة، ولا يملكون لتحقيق ذلك إلا (بديلا ثالثا) هو مشروع الدولة المدنية.

وثبت للأحرار بثورة الربيع في ليبيا، أن مشروع الدولة المدنية (بمكوناتها من: دستور حر متفق عليه؛ مع بناء مؤسسات دولة متطورة؛ وأيضا سلطات مفصولة؛ وكذلك قضاء حر؛ بالإضافة إلى إعلام واع)، هو للأسف مشروع يحاربه الكثيرون بما فيهم (بعض أهم أعضاء المجتمع الدولي) الذي يعاني حالة ندم لمشاركته (إسقاط الطغيان) السابقة عام 2011م، وهذا سيكون سببا كافيا لتعثر الثورة اليوم وتأخر مشروعها بقيام دولة مدنية، بل سيؤسس لعودة إرهاب حكم العسكر المختلط في نسخته المشوهة الجديدة، مع المتشددين الدينيين والقبائل المتخلفة والمدعومة من رجعية اليمين العربي.

حينما تساوي بين الجلاد والضحية في العالم الثالث، وحين تضع يدها في يد من تقطر من يديه دماء الأطفال؛ والنساء؛ والعجائز، ومازال أتباعه يُخرجون جثث الثوار بعد زمن من دفنها ليتم شنق الأجساد الميتة والمتحللة؛ ويعدمون أبرياء آخرين دون محاكم بأطراف المدائن المرتعبة؛ وتُلقى جثثهم المعذبة حتى الموت في مكبات القمامة والمزابل.

ها نحن اليوم نعيش تخاذل وخيانة ممن كنا نظنهم إخوة لنا في دينهم أو في عروبتهم، ونتذكر بمرارة وأسى ما حذرنا منه فيلسوف الثورة المفكر (عبد الرحمن الكواكبي) في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) منذ أكثر من 117 سنة، الذي أشار فيه إلى أن (الطامع الأجنبي) قد يغير مسار الثورة ويتلاعب بها، ويحولها إلى (حرب أهلية عدمية) تستنزف الذات، بل وينتهز هذا الطامع الأجنبي وجود الفوضى، ليدخل مستغلا ضعف ترابط الأمة كذريعة لاحتلال البلاد من جديد واستعمارها.

ثورات الربيع لم تؤكد فحسب تلك الفرضية التي تنبأت بأن (أي ثورة يخططها الحكماء؛ ويقوم بها الشجعان؛ لكن عادة ما يجني ثمارها الانتهازيون)؛ بل باتت تنسج من واقع ما تعانيه اليوم فرضية أخرى هي أقرب للواقع بصدقها المر والدامي، وهي التي تقول (إن الثورة لم تنتصر بعد، لكنها لن تُهزم أبدا).

نحن في بلادنا نؤمن بهذه الفرضية؛ ونناضل جميعا لتطويرها، ليس فقط لنيل النصر في ليبيا فقط؛ بل لتحقيق (التحرير الكامل للشارع المضطرب)، قد يبدو للبعض أن هذا ضوء بعيد في آخر نفق مظلم، لكن شعوب ثورات الربيع في موجتها الثانية في (الجزائر والسودان والعراق ولبنان)، باتت هي الأخرى تساعدنا بعنادها في الاقتراب من آخر الممر المظلم.

ونحن على يقين أن الحتمية التاريخية الآن لا تقف عند حد الثورة؛ بل تؤسس لعقل جديد هو من سيقود وسيوحد شعوب هذه الثورات من أجل دور حضاري إنساني رائد وعظيم، قادم وقريب، فالثورة كما قال عنها السياسي البارز والزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي: (هي ليست من أجل الاستيلاء على السلطة؛ بل هي برنامج للتحول في العلاقات، وتنتهي بالانتقال السلمي للسلطة).

***

عمر الحاسي ـ سياسي ليبي شغل منصب رئيس الوزراء في حكومة الإنقاذ السابقة

_____________

مواد ذات علاقة