«إنه أجمل يوم في حياتي»، هكذا أعلن الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، وهو يحظى باستقبال الفاتحين، حين اصطف الآلاف من مواطني «مالي» في قلب ميدان الاستقلال في العاصمة «باماكو»، رافعين الأعلام الفرنسية ومرحبين به وبقادة جيشه في الثاني من فبراير (شباط) 2013 بعد طرد القوات الفرنسية الجماعات الإسلامية المسلحة من مدن «تمبكتو» و«جاو» و«كيدال» في ذلك الوقت.

مشهد التظاهرات في «مالي» بات يتكرر في الأشهر الأخيرة، ولكن مع فروق جوهرية؛ إذ رحل هولاند وجاء بعده مانويل ماكرون، وأصبحت هذه التظاهرات معادية للتواجد الفرنسي وليست مرحبة به، وتلك الأعلام الفرنسية التي كانت ترفرف في سماء مالي باتت تحرق وتمزق تحت أقدام الجموع التي تنادي الآن بسقوط فرنسا ورحيل قوات حملة «برخان» التي أطلقتها باريس منذ سبع سنوات لمحاربة المسلحين الإسلاميين، ولم تحقق أي تقدم يذكر طوال هذه الفترة.

لماذا ضاق هؤلاء المتظاهرون ذرعًا بفرنسا؟ 

خلال عام 2019، شهدت مالي عشرات التظاهرات المناوئة لفرنسا كان معظمها في ميدان الاستقلال في «باماكو» الذي استقبل هولاند من قبل، إضافة إلى تظاهرات أخرى أمام السفارة الفرنسية في العاصمة المالية أيضًا، فضلًا عن مدن أخرى مثل «سيفاري» و«موبتي». 

ولم تقتصر هذه التظاهرات على «مالي»، بل امتدت لتشمل دولًا أخرى في منطقة  الساحل الأفريقي مثل «نيامي» عاصمة النيجر و«واجادوجو» عاصمة بوركينا فاسو التي تشهد حربًا شرسة بين المسلحين والجيش، راح ضحيتها العام الماضي فقط أكثر من 180 قتيلًا، بينما تقف القوات الفرنسية عاجزة أمام هذا التدهور الأمني والعسكري في البلاد.

هذه التظاهرات التي تتراوح فيها الأعداد بين ثلاثة وخمسة آلاف شخص، وربما أكثر من ذلك، تخرج غالبًا بعد صلاة الجمعة في المدن الكبرى، وترفع شعارات «كفى» للعنف الطائفي، وتطالب بنزع سلاح الجماعات المسلحة، لكنها أيضًا تندد بـ«فرنسا المتواطئة» حينًا و«فرنسا العاجزة» أحيانًا أخرى، وفي كل الأحوال ترفع التظاهرات مطالب برحيل القوات الفرنسية عن البلاد.

تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا ارتفعت حدتها خلال الفترة الأخيرة؛ بسبب تدهور الوضع الأمني في دول منطقة الساحل لا سيما في مالي وبوركينا فاسو، واستفحال قوة الجماعات المسلحة التي جاءت فرنسا تحت شعار القضاء عليها، إلا أن الواقع يشهد سقوط عشرات القتلى من الجنود والمدنيين كل شهر بجانب سقوط مناطق بأكملها من سلطة الدولة، لتقع في أيدي الجماعات الإسلامية المسلحة

«طنين ذباب».. هكذا تتعامل فرنسا مع الغضب الأفريقي

الحوارات على شبكات التواصل الاجتماعي باتت تعكس حقيقة ما يجري على الأرض، غير أنها تكون مجالًا رحبًا للشائعات ونشر الأخبار، وهو الأمر الذي يرجح بعض الكتاب الفرنسيين أن هناك جهات تستغله على نحوٍ ملحوظ؛ لتأصيل حالة العداء لفرنسا بين الأفارقة. على سبيل المثال انتشر شريط فيديو مصور في مطار مالي تظهر فيه قوات المطار وهي تقبض على جنود فرنسيين يهربون سبائك ذهب إلى باريس

وهناك أيضًا سجالات عن غارة لقوات «برخان» الفرنسية ضد معسكر لجيش النيجر في منطقة «ديفا» أقصى جنوب شرقي البلاد. هذه النوعية من الأخبار والفديوهات سرعان ما تنتشر وتغذي المشاعر المعادية لفرنسا على نطاق واسع

واستخفافًا بالحملات الإعلامية ضد فرنسا، قال دبلوماسي فرنسي يعمل في غرب أفريقيا: «إنها تشبه طنين الذباب.. إنها تحدث ضوضاء مزعجة، لكن في المجمل لا ينتج عنها شيء سيء في الوقت الحالي».

هل نهب الماس هو الهدف الحقيقي لفرنسا داخل أفريقيا؟

حتى الآن لا يزال البعض يفسر حادث تحطم طائرتي هليكوبتر فرنسيتين في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بأنهما كانتا محملتين بالمعادن الثمينة التي تسرقها القوات الفرنسية وتهربها إلى باريس.

وأن الهدف الرئيس من الحملة العسكرية الفرنسية هو نهب الماس من جمهورية أفريقيا الوسطى.

كما أن هناك فكرة أخرى منتشرة على مواقع التواصل في هذه الدول تعتمد على نظرية المؤامرة، مفادها أن فرنسا تحاول منذ عقود زعزعة استقرار منطقة الساحل والبلدان المجاورة من خلال وعدها لمسلحي الطوارق بمساعدتهم في إقامة دولة مستقلة لهم، بشرط أن ينقلبوا على القوات المسلحة لبلدانهم.

وبغض النظر عن صحة هذه الأفكار أو تهافتها، من الواضح بالنسبة للصحافة الفرنسية أن الحملة المناهضة لفرنسا هذه المرة أكثر تنظيمًا؛ إذ يستخدم بعض النشطاء حسابات مزيفة لـ«جهاديين» ومسؤولين ولاعبي كرة ومطربين، يتلاعبون من خلالها بتصريحاتهم، ويوظفونها في الترويج لأطروحات تصب في اتجاه عداء فرنسا، والمطالبة برحيل قواتها عن منطقة الساحل.

دور روسيا والصين في تصاعد موجة العداء لفرنسا

هذه المشاعر وتلك الاحتجاجات تبدو وكأنها ناتجة عن موجة غضب عفوية تنتقل بين المواطنين في مالي بشكل كبير. صحيحٌ أن هناك حركات وطنية وشبابية تقف وراء تنظيم التظاهرات، وأن الدافع وراءها يبدو وطنيًا وقوميًا في معظم الأحيان، غير أن هناك شكوكًا تثار بين الحين والآخر عن وقوف جهات روسية وراء إشعال هذه الاحتجاجات.

رصدت الصحافة الفرنسية خلال بعض التظاهرات شعارات وهتافات تؤيد روسيا التي تحاول أخذ مكان لها بين دول أفريقيا، وترى أنه لن يتأتى لها ذلك إلا على حساب القوى الاستعمارية القديمة، مستغلة سأم الأفارقة مما تقترفه القوى الاستعمارية بحق أبنائهم وثرواتهم.

وبالفعل هناك تواجد رسمي لروسيا في مالي، تُوِّجَ بالتوصل إلى اتفاقية دفاع بين البلدين في يونيو (حزيران) 2019. وفي الوقت ذاته، عززت موسكو تعاونها العسكري مع النيجر المجاورة وباعت لها 10 مروحيات قتالية

والسياسة ذاتها تنتهجها روسيا مع تشاد وأفريقيا الوسطى، التي تردد أن هناك شبكات روسية تقف وراء حملات إعلامية مناهضة لفرنسا التي تمتلك قاعدة عسكرية فيها.

وفي خريف عام 2019، بعد أشهر قليلة من إبرام اتفاق التعاون العسكري بين مالي وروسيا، استقر فريق من قوات شركة المرتزقة الروسية «فاجنر» في باماكو، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدرين أمنيين منفصلين في غرب أفريقيا.

كيف يفسر الفرنسيون غضب الأفارقة؟

في حين يتصاعد التنافس الروسي والصيني وحتى التركي على الفوز بنصيب في كعكة التنمية الأفريقية الواعدة، أصبحت فرنسا هدفًا لخطاب تحريضي تتزايد حدته بمرور الوقت، ويرى مسؤولون فرنسيون في تصريحات لمجلة «جون أفريك» الفرنسية أنه يُدار بمهارة وتلعب فيه منافساتها روسيا والصين دورًا ملحوظًا.

وخاصة منذ بدايات عملية «سرفال» العسكرية في 2013 والتي تغير اسمها لاحقًا إلى عملية «برخان» حتى تغيرت نظرة سكان مالي إلى الجنود الفرنسيين من كونهم قوات مرحبًا بها إلى كونهم غزاة يجب أن يرحلوا من بلادهم.

كيف تزاحم روسيا الغرب الآن على كعكة الساحل الأفريقي؟

المجلة ذكرت أن السبب في تزايد موجة الاستياء من فرنسا جاء بعد انتشار فكرة مفادها أن باريس تعمل على الاستفادة من انتشار الفوضى في مالي ودول الساحل، حيث تستخدمه مبررًا لتواجد طويل الأمد لها في بلادهم تستفيد منه سياسيًا واقتصاديًا.

انهيار الثقة في فرنسا.. من البرلمانيين والوزراء والرؤساء إلى الفنانين

الأكثر من كل ما سبق هو أن هذه الأفكار باتت تتردد على لسان برلمانيين ومسؤولين كبار في دول الساحل مثل تصريح شريف سي وزير الدفاع في بوركينافاسو، الذي أعلن فيه استغرابه من «فشل الجيش الفرنسي (العظيم) في القضاء على مجموعات صغيرة من (الجماعات الإرهابية)» وألمح إلى أن باريس ربما كان «لديها أولويات أخرى في منطقة الساحل».

المطرب «ساليف كيتا» بدوره، نشر مقطع فيديو أعلن فيه أن «فرنسا تمول أعداءنا ضد أطفالنا»، وانتقد الرئيس المالي «إبراهيم أبوبكر كيتا» لتجاهله معاناة شعبه والتدهور الأمني في بلاده.

فيما صرح «هيرفي واتارا» القيادي بالمعارضة في بوركينا فاسو أن «كل شيء يوحي بأن فرنسا تتعاون مع الجماعات الجهادية لجعل المنطقة غير مستقرة ونهب ثرواتنا والمواد الخام التي تتمتع بها بلادنا».

«فرنسا تتحمل تدهور صورتها لدى الأفارقة خلال الفترة الأخيرة، وخاصة في مستعمراتها السابقة» هكذا يرى أيضًا رئيس النيجر «محمدو إيسوفو» الذي يؤك أن «التدخل العسكري من قبل فرنسا وحلف الناتو ضد القذافي في ليبيا خلال عام 2011 هو سبب عدم الاستقرار الإقليمي الحالي، مضيفًا أن «المسؤولين الغربيين، لا سيما الفرنسيين، لم يستجيبوا لتحذيراتهم».

وفي الوقت ذاته، يرى كثيرون أن فرنسا تتهاون في التعامل مع متمردي الطوارق في «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» شمالي مالي، وغيرهم من الجماعات المسلحة، وكان العديد من الماليين مقتنعين بأن فرنسا شريك لبلادهم في عملية تحرير الأجزاء الشمالية من سيطرة المسلحين الإسلاميين.

غير أنها ارتكبت العديد من الأخطاء ولم تصدر باريس أي اعتذار عنها مثل حادثة مقتل طفل برصاص فرنسي في عام 2016، ومقتل 11 جنديًا ماليًا في عملية ضد معسكر جهادي في عام 2017، وألقي باللوم على قوات برخان من أجل هذه العملية، التي لم تقدم فيها أي مساعدة للقوات المالية.

«نزيف مالي وبشري».. الغضب يصل إلى قلب فرنسا

الانتقادات الموجهة للوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل لم تقتصر على المسؤولين الأفارقة فقط، بل بدأت تنتقل بين صفوف بعض السياسيين والعسكريين الفرنسيين، الذين يرون أن سياسة بلادهم غير فعالة وليس لها جدوى إذ تضحي بالكثير من المال والجنود في معركة تبدو خاسرة

هكذا يرى «ضابط صف» فرنسي نقلت مجلة جون أفريك قوله بنبرة يغلب عليها اليأس: «في يوم من الأيام، ربما بعد 10 سنوات من الآن، سيقرر رئيس فرنسي آخر وقف هذا النزيف المالي والبشري وإعادة قواتنا إلى أرض الوطن. سوف نعود إلى بلادنا، والجهاديون سيسيطرون على الأرض، وكأن شيئًا لم يكن».

حتى في باريس، هناك القليل من التأييد والكثير من الضجر تجاه خسارة فرنسا عشرات الجنود حتى الآن، فضلا عن نحو مليار يورو كل عام فيما بات يسمى الآن في الصحف الفرنسية «مستنقع الساحل».

تصاعد قلق الفرنسيين من مستقبل هذه العملية منذ يوم 25 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي قُتل فيه 13 جنديًا فرنسيًا في تصادم طائرتي هليكوبتر في مالي. كل ذلك فضلًا عن مقتل 129 جنديًا من قوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة منذ 2013، وأكثر من 200 جندي من بوركينا فاسو منذ عام 2016 وأكثر من 110 من القوات المالية منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

المشاعر المعادية لفرنسا تثير أعصاب ماكرون

هذه الموجة من المشاعر المعادية لفرنسا باتت تقض مضاجع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي ندد بشدة بما أسماها «الخطب الحقيرة» التي تناهض الوجود الفرنسي في منطقة الساحل خدمة «لقوى أجنبية لديها أجندة ارتزاقية»، مطالبًا قادة دول غرب أفريقيا (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد، وموريتانيا) «بمعالجة قضايا تنامي المشاعر المعادية للفرنسيين في المنطقة إذا ما أردوا أن يواصل الجيش الفرنسي عملياته ضد الإرهاب هناك».

وعلى الرغم من أن ماكرون لم يحدد «القوى الأجنبية» التي يتحدث عنها، فإن مصطلح «المرتزقة» يشير غالبًا إلى أنشطة مجموعة «فاجنر» الروسية شبه العسكرية.

كلمات ماكرون جاءت في مؤتمر صحفي بعد لقائه برؤساء خمس دول ساحلية في مدينة «باو» جنوب فرنسا في 13 يناير (كانون الثاني) الماضي، وقال فيها أيضًا: «إن الخطب المناهضة لفرنسا والتي سمعتها خلال الفترة الأخيرة تافهة، وتخدم مصالح أخرى، إما مصالح الجماعات الإرهابية أو مصالح القوى الأجنبية الأخرى التي تريد إبعاد الأوروبيين عن أفريقيا لأن لديهم أجندة خاصة بهم».

وبعد هذا المؤتمر، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مسؤول فرنسي رفيع المستوى قوله إن باريس «تشك في أن الروس يشجعون المشاعر المعادية للفرنسيين في الساحل والصحراء».

وفيما يبدو أنه تأثير مباشر لموجة العداء للتواجد الفرنسي في هذه المنطقة الأفريقية، أكد ماكرون خلال المؤتمر بنبرة يغلب عليها الحدة أنه «لا يمكن أن يستمر الجنود الفرنسيون في منطقة الساحل في وقت يشوبه الغموض حول الحركات المعادية لفرنسا ووسط صدور تعليقات سلبية من جانب السياسيين الأفارقة بين الحين والآخر».

___________

مواد ذات علاقة